الأنا / الآخر
بعض مظاهر القصور في ميدان الترجمة
عبد السلام الطويل
يقال عادة إن لحظة الترجمة(1) غالبا ما تأتي سابقة على لحظة التأليف، ويبقى هذا القول صحيحا إذا ما احتكمنا إلى عصر النهضة العربية. فإذا كانت حركة الترجمة في العصور الإسلامية الأولى، تلك التي بدأت(*) مع عبد الملك بن مروان، وبلغت أوجها مع المأمون في القرن الثالث الهجري (217هـ/832م)، بتأسيس "بيت الحكمة"، قد واكبتها عملية تأليف، إذ ظهر أول الفلاسفة العرب بمجرد ما ظهرت الترجمات الأولى للفلسفة اليونانية، بل كان التأليف أحيانا هو الذي يخلق الحاجة إلى الترجمة، كما حصل مع علم الكلام الذي نشأ "قبل ترجمة اللاهوت المسيحي عن السريانية"(2)، فإن لحظة التأليف في عصر النهضة جاءت متأخرة جدا عن لحظة الترجمة. إلا أن الثابت تاريخيا هو ضرورتها(**) في اللحظتين معا، ففي الحقبة الإسلامية الأولى، استدعتها ضرورة الانفتاح على العالم، وتحديدا، ضرورة سد بعض الثغرات في مجال تنظيم الدولة ووضع قوانين الجباية والقيام بشؤون الإدارة والمال، وكان من بعض نتائج ذلك، توسيع أفق الثقافة العربية الإسلامية لكي تشمل علوما وفنونا وفلسفات لم يكن لها بها علم من قبل، وإغناء اللغة بالمصطلحات والتعبيرات الجديدة في مختلف العلوم والفنون، الخ… أما ضرورتها بالنسبة للحظة الثانية، المتمثلة في عصر النهضة، فتتجلى في اعتبارها محفزا للفعل ودعوة للإبداع وتطويرا للمعرفة ومراكمة الخبرة، الخ.. مع فارق أساسي يتمثل في أن عصر الترجمة الأول جاء تعبيرا عن واقع متقدم ينقل تراث حضارات في طور السكون، بينما جاء عصر النهضة تعبيرا عن واقع متخلف يسعى إلى "اللحاق" بحضارة في طور التقدم.
هذا، ويمكن القول على العموم إن الترجمة قراءة للنص الأصلي، وتأويل له، تختلف باختلاف مترجميه وقرائه، إنها عملية إبداعية وفن، لا فرق بينها وبين الكتابة إلا باعتبارها ليست كتابة نهائية؛ وهي ممارسة لغوية وحاجة حضارية و"موقف إيديولوجي"، فهي بقدر ما تعمل على الرفع من شأن الذات والتراث القوميين، في حالات السيادة، "بقدر ما تحافظ على تحقيق وتكريس التبعية وتهديد الذاتية الحضارية"، في حالات التبعية(3)، أي أنها تعتبر النص المترجم تعبيرا عن ثقافة خاصة، وعن رؤية محددة إلى العالم(4). لذلك يجري تشبيهها بالمرآة التي "تنعكس فيها لدينا صورة الآخر وصورة ثقافته، فإذا لم تكن المرآة مجلوة، كما يجب، رأينا فيها صورة مشوهة[…] وأدى لدينا ذلك إلى نفور قد يكون في غير محله"(5).
ننطلق من هذه الملاحظة للحديث عن بعض مشاكل الترجمة، ونبدأ بالحديث عن التعريب(***) كسياسة اعتمدتها الدولة العربية، والملاحظ بشأنها، باختصار شديد، أنها "لازالت تفتقر إلى البرامج على المستويين القطري والقومي. كما أنها لم تبن على دراسة للواقع الراهن بلغة التطور الاقتصادي والاجتماعي و[ استشراف ] الآفاق المستقبلية في الوطن العربي، ولم تسع إلى تلبية متطلبات العصر ودرجة النضج لدى القارئ. وترتبط قضية الترجمة والتعريب ارتباطا وثيقا بالواقع الحضاري للأمة العربية، فالترجمة مرحلة من مراحل التعريب ويمكن أن تسبقه"(6).
كما أن قصور التعريب (أو الترجمة) على مستوى الدولة يكمن في أن الدول العربية نزعت إلى تنفيذ هذا القرار من غير توفير المراجع الضرورية في أهم الفروع المعرفية(****)، إذ بإمكان القارئ الفرنسي أن يقرأ كل المراجع بلغته، لا المصادر الأساسية فقط، "فإذا أحاله ليفي ستروس (الفرنسي) على بواس (الأمريكي) أو باشوفن (الألماني)، فإنه يجد بالتأكيد والسهولة مؤلفات هذين المفكرين باللغة التي يدرس بها"(7). أما في اللغة العربية، ففي علم الاجتماع مثلا، ودائما حسب نفس الباحث، وليعذرنا القارئ من الإطالة في هذا الاستشهاد، فقد تمت ترجمة قواعد في المنهج، لدوركهايم، غير أنه مفقود في الأسواق، وترجم كتاب تقسيم العمل، غير أنه مفقود أيضا في الأسواق والمكتبات العامة، أما كتبه الأخرى، ككتاب الأشكال البسيطة من الحياة الدينية، فإنه لم يترجم، كما لم يترجم لمارسيل موس سوى كتاب واحد هو مقال في الهبة، يتعذر إيجاده في الأسواق. ونفس الأمر بالنسبة لأوغست كونت الذي لم يترجم له إلا الأخلاق البروتستانتية. أما ليفي برول، فقد ترجم له العقلية البدائية، منذ الخمسينات، وهو مفقود من الأسواق ومن المكتبات على السواء.
وما يصح على علم الاجتماع يصح على علم النفس وعلى اللسانيات والإناسة والفلسفة والتربية(8).
هذا فيما يتعلق بالقصور على مستوى الدولة، أما على مستوى الأفراد، فيتسم الوضع بالعشوائية في اختيار المادة المترجمة، بحيث لا تتم ترجمة النصوص التي تقضي الحاجة بضرورة ترجمتها، فضلا عن عدم إعادة طبع الأعمال المترجمة بعد نفاذها، ثم هي، على الرغم من الدور الذي تلعبه على مستوى تقدم الدولة، فإنها تبقى معلقة باختيار أرباب دور النشر الذين يستهدفون الربح بالدرجة الأولى.
ولعل من أبرز مظاهر القصور أننا نترجم ونحن في موقف العاجز المتخلف الذي يسعى إلى معرفة ما يثير اهتمام الآخر، "لذلك ربما كانت إشكالية العلاقة مع الآخر أقرب إلى مشكلة الترجمة"(9).
ومن مظاهر القصور أيضا غياب الاهتمام بالألسنيات وعدم تقدير المعونة التي يمكن أن تقدمها في هذا المجال، فخلافا للنظرة القائلة بأن اللغة توفيق ووحي وإلهام، أي أن قيمتها المعنوية كامنة فيها أكثر مما هي مستمدة من موقعها في سياق أو من علاقتها بألفاظ أخرى، فإن اللسانيات الحديثة تعتبر اللغة تواطئا واصطلاحا(10).
ثم هناك مظاهر أخرى هي أقرب إلى التأثير منها إلى مظاهر القصور السابقة، ومنها المؤثرات التي تحدثها لغة على أخرى، كهذه التي يسميها الألسنيون بمؤثرات "التدخيل والتخليط" إذ إن احتكاك لغة بأخرى لا بد أن يصحبه تداخل بينهما، وهو ما اصطلح عليه العرب قديما بـ"الدخيل".
كما أن من مظاهر القصور الناتجة عن احتكاك لغة بأخرى، ذلك القصور الذي يتصل بمدى قدرة اللغة العربية على التعبير "عما يخرج بالضبط عن أطر القواعد والتراكيب المألوفة والمعتادة […] فحيال تعبيرنا اللغوي الذي لا يخرج عن نطاق التمارين الإنشائية […] تطرح علينا ترجمة الأعمال الرئيسية عن الفكر الآخر تمرينا من نوع مختلف"(11).
فضلا عن مظاهر القصور المذكور بعضها سابقا، هناك جملة من العوائق المتصلة بعمل المترجم، نذكر منها:
ـ إحساس المترجم بأنه يقع في مرتبة أدنى من مرتبة الباحث أو المؤلف؛
ـ عدم الإقبال على قراءة الكتاب المترجم، لا سيما إذا اجتهد في أن يكون دقيقا؛
ـ الحفاظ على السلاسة من غير الوقوع في خيانة النص يبقى رهانا صعبا، بحيث يكون المترجم أمام خيارين: إما الوفاء للنص الأصلي مع الوقوع في الركاكة والالتباس(12)، أو الحفاظ على السلاسة مع حتمية خيانة النص الأصلي! ثم إنه مهما كانت الترجمة مبدعة، فإنها لا تغني عن العودة إلى النص الأصلي، مما يدفعنا إلى التساؤل عن جدواها!
بناء على ما تقدم، وبما أن الترجمة صارت تنحو أكثر فأكثر نحو الحرفية، فإننا نصدر عن قناعة ترى أن الترجمة، أية ترجمة، إنما هي مجرد اقتراح صيغة يفضلها المترجم في لحظة معينة عن مجموعة من الصيغ الممكنة بدورها، فهي لا تدعي، على الرغم من "حرفيتها"، المطابقة "الفوتوغرافية" مع الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التي يمكن تعريفها، على نحو عام، بأنها نقل نص من لغة إلى أخرى، سواء كان هذا النص مكتوبا أو شفويا، علميا أو أدبيا، فنيا أو فلسفيا. أو هي، وكما يعرفها المعجم الفرنسي L e Robert: "نقل ما يقال بلغة ما إلى لغة أخرى. مع الميل إلى معادلة معنى هذا القول وذلك". (مذكور من طرف سامية أسعد: "ترجمة النص الأدبي، عالم الفكر، ع4، يناير-فبراير-مارس 1989، ص19) والجدير بالإشارة أن مطلب المعادلة، أي معادلة المضامين بالنسبة للنصوص العلمية، والأساليب بالنسبة للنصوص الأدبية، هو مطلب صعب التحقق في الممارسة العملية، بحيث نكون في الترجمة أمام نظامين لغويين مختلفين على كافة المستويات (المورفولوجية، والفونولوجية، والسيمانتيكية)، لأنه يعكس "اختلافا أعمق بين مجتمعين وثقافتين وتاريخين". لذا يظل تحقيق التعادل في الترجمة "مسألة نسبية حتى على المستوى المعجمي البسيط، أي على صعيد المفردة والتركيب اللغوي، فما بالك بإمكانية تحقيقه على مستوى الوحدات اللغوية والنصية الأكبر". جان ألكسان: "الترجمة الأدبية والتنمية الثقافية". الوحدة ع.61-62، أكتوبر-نوفمبر 1989، ص104.
(*) يذكر المؤرخون أن أول ترجمة ذات طابع علمي، كانت من إنجاز خالد بن يزيد بن معاوية، المتوفى سنة 85هـ (704م) الذي أعقبه مروان بن الحكم الذي خلفه ابنه عبد الملك بن مروان (65هـ/86هـ).
(2) جورج طرابيشي: "الترجمة والإيديولوجية المترجمة"، الوحدة، مرجع مذكور، ص30.
(**) تبقى الترجمة ضرورية بالنسبة لمختلف الحضارات، فقد ترجمت الحضارة اليونانية تراث الشرق القديم (من حساب وفلك وزراعة)، وترجم الرومان عن الإغريق آدابهم وفلسفتهم، وترجم العرب عن الإغريق والرومان والفرس والهنود، هذا إذا حصرنا الاهتمام في التجارب القديمة.
(3) د.محمد حافظ دياب: "الترجمة وأسئلة النهضة العريبة"، مجلة الوحدة، م.م، ص36.
(4) نفس المرجع والصفحة.
(5) حسن قبيسي: "لغتنا والترجمة"، الفكر العربي، شتاء 1994، ص16.
(***) لا نقصد التعريب باعتباره نقلا للكلمات والمفاهيم والمصطلحات العلمية والتقنية من لغة أجنبية إلى اللغة العربية مع "تحويرها نطقا لتلائم المنطق العربي".
(6) د.نجاة عبد العزيز المطوع: "آفاق الترجمة والتعريب"، عالم الفكر، المجلد 19، العدد 4، ص7.
(****) يقول حسن قبيسي: "إن ما هو متوفر في اللغة العربية من الكتب الأساسية في العلوم الإنسانية والاجتماعية لا يغني حاجة الثقافة العربية الراهنة" المرجع السابق، ص6. وهو يضيف "وقد يبدو هذا التناقض المستعصي، في رأينا، تناقضا مستهجنا في رأي أستاذ جامعي فرنسي أو إسباني مثلا: إذ إن الطالب (والأستاذ) أو المواطن المتشوق إلى المعرفة في فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا، لا يقرأ ماكس فيبر أو فرويد أو نيتشه بالألمانية. إنه يقرأ كتبهم مترجمة إلى لغته الأم (دون مشكلة "حضارية"). كما أن الطالب الإنجليزي أو اليوناني لا يقرأ دوركهايم أو مارسيل موس بالفرنسية، بل يقرأها بلغته". هذا، وقد قرأ العرب أفلاطون وأرسطو وأقليدس وأبوقراط وبطليموس بلغتهم العربية، ولقد كانت نهضتهم تلك في عصرهم الأول، مساوقة لاطلاعهم، بلغتهم، إلى أمهات الكتب الحضارية"حسن قبيسي م.م، ص8.
(7) حسن قبيسي، م.م، ص9
(8) حسن قبيسي، م.م، ص10.
(9) حسن قبيسي، م.م، ص21
(10) إن عدم الاهتمام باللسانيات لا يقتصر على الترجمة العربية وحدها، فجورج مونان يذكر، في معرض حديثه عن المعاهد والمؤسسات التي تدرس الترجمة وتعمل على تخريج المترجمين في أوروبا، كلاما يدل على تقصير مماثل. يقول: "لكن هذه الهيئات تدرس التمرس باللغات وبالترجمة كنشاط علمي دون أن يكون تدريسها لها قد أسفر عن أية نظرية في الترجمة أو عن أية دراسة للمشكلات التي تطرحها هذه النظريات على الأقل". ثم يضيف: "إن المصنفات التأليفية الرئيسية التي تناولت اللغويات في الفترة الأخيرة لم تأت هي الأخرى على معالجة هذه النقطة. فالترجمة بوصفها ظاهرة من ظواهر اللغة ومشكلة من مشكلاتها بقيت في حيز الصمت" ذكره حسن قبيسي في المرجع السابق، ص33. فضلا عن ذلك، فنحن نتساءل فيما إذا كان المترجم في حاجة إلى اللسانيات لكي يقوم بعمله، والإجابة هي: "من الواضح أنه لا يحتاج إليها ما دام المترجمون قد قاموا بعملهم إلى عهد قريب، بدون أن يتعرضوا لقضايا اللغة" سامية أسعد، عالم الفكر، م.م، ص22. بعبارة أخرى، إن خطاب اللسانيات والترجمة لا يلتقيان إلا من حيث تجد اللسانيات في الترجمة القضايا التي تبحث عنها.
(11) حسن قبيسي، المرجع المذكور، ص19.
(12) د.صلاح نيازي: "الترجمة والخيال السمعي"، نشرة إخبارية تصدرها مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة، العدد 8، دجنبر 1993، ص10. ويشير الباحث إلى ظاهرة الترجمات الغير الدقيقة والتي أثرت –على الرغم من ذلك- تأثيرا كبيرا في البيئة المنقولة إليها من غير أن يكون لها تأثير في لغتها الأصلية، كألف ليلة وليلة التي لم يكن لها تأثير على الأدب العربي إبان ترجمتها، بينما "كانت نواة للرواية الأوروبية الحديثة". كما يتساءل الكاتب عن أسباب شيوع ترجمات لم تكن أمينة بقدر ما كانت سلسلة، فيذكر رباعيات الخيام لفيتزجيرالد باللغة الإنجليزية، مع أن المترجم لم يكن يعرف اللغة الفارسية، كما يذكر الترجمة العربية التي قام بها أحمد وهبي لنفس الرباعيات، فاستساغها الناس أكثر مما استساغوا ترجمة إبراهيم العريض أو ترجمة الصافي النجفي، "مع أنهما أكثر تمكنا من اللغة الفارسية وأمتن أسلوبا وأكثر دقة" ثم يتساءل عن ترجمات المنفلوطي. ولقد كان الجاحظ هو أول من عبر عن شكه في إمكانية الترجمة ونقل النص بأمانة، "لأن ذلك يتطلب توافر أمرين كلاهما مستحيل التحقق: الأول أن يكون علم المترجم باللغة التي ينقل منها على قدر علمه باللغة التي ينقل إليها. وقد أثبتت المشاهدة بأن الإنسان لا يتعلم لغة من اللغات إلا وأدخلت الضيم على سابقتها. وبذلك لا تتساوى معرفة المترجم باللغتين مطلقا. والثاني أن يكون علم المترجم بالموضوع الذي يترجمه على قدر علم المؤلف به، ولم يقل أحد إن مترجمي التراث اليوناني إلى العربية في القرن الثالث الهجري كانوا على قدر علم أرسطو وافلاطون وغيرهما من مؤلفي اليونان". ذكره د.عبد الحكيم حسان عمر: "الترجمة الأدبية ومشكلتها". مجلة الفيصل، ع239، سبتمبر-أكتوبر، ص39.