هل حوار الحضارات ممكن، وكيف؟

هاشم صالح

 

بعد تفجيرات 11 سبتمبر اصبحت العلاقة مع العالم العربي ـ الاسلامي الشغل الشاغل لمثقفي فرنسا والغرب بشكل عام. ويرى جان دانييل، رئيس تحرير مجلة «النوفيل اوبسرفاتور» ان المثقفين اتخذوا مواقف متباينة من هذه المسألة ليس فقط مؤخرا، وانما على مدار القرنين الماضيين ايضا، فمثلا كان فيكتور هيغو قد اطلق صرخته المدوية بعد استعمار الجزائر قائلا: انها الحضارة تنتصر على البربرية. نحن اغريق العالم وعلينا تنويره! بالطبع ينبغي ان نموضع هذا التصريح ضمن سياق تلك الفترة لكيلا نظلم فيكتور هيغو اكثر مما ينبغي. ولكن في ذات الوقت كان عالم الانثربولوجيا ليفي بريل يبلور مصطلح العقلية البدائية لكي يبرر الاستعمار بشكل غير مباشر. ففي رأيه ان الغرب هو وحده الذي توصل الى الفكر العقلاني او المنطقي، واما بقية الشعوب فلا تزال تعيش في مرحلة العقلية ما قبل المنطقية. وبالتالي فما عليها الا ان تمر بنفس المراحل التطورية لكي تلحق بالغرب. وبما انها لا تستطيع ان تفعل ذلك لوحدها، فإنه ينبغي على الغرب ان يساعدها اي ان يستعمرها!. ولكن بعد الخمسينات، وبعد ان ابتدأت الشعوب تتحرر من الاستعمار، راح عالم انثربولوجي آخر يقول العكس. ففي رأي كلود ليفي ستروس انه لا توجد ثقافة عليا وثقافة دنيا، وانما جميع الثقافات متساوية وينبغي ان نحترم خصوصياتها واختلافها. وكلها تستحق لقب الحضارة. ولكن يبدو ان ليفي ستروس غيَّر رأيه مؤخرا عندما اعترف بمديونيّته ومديونية البشرية كلها لمخترعي الفكر النقدي او العلمي في اوروبا. وقال من المستحب ان تتوصل جميع الشعوب الى مرحلة الفكر النقدي او التنويري. ولكن هل يعني ذلك انه يحق لاميركا او للغرب كله ان يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة وان يتدخل في شؤون الشعوب الأخرى كما يشاء ويشتهي؟ على هذا السؤال يجيب جان دانييل بالنفي. واما فيليب رينو، استاذ العلوم السياسية في جامعة باريس فيرى ما يلي: ينبغي على الديمقراطيات الحديثة ان تقبل بوجود صراع طويل الأمد مع القوى الماضوية التي ترفض قيم الغرب بشكل مطلق. ولكن في ذات الوقت ينبغي علينا ان نقيم علاقات ايجابية مع القوى الأخرى الموجودة في نفس المجتمعات والتي تقبل بالافكار الحديثة. اما صوفي بتييس المؤرخة والصحافية الفرنسية فترفض اطروحة صموئيل هنتنغتون عن صراع الحضارات. وهي تطرح التساؤل التالي: لماذا لاقت اطروحته كل هذا النجاح والانتشار؟ فلا يوجد مثقف الا وناقشها او تحدث عنها. في الواقع ان هذه الاطروحة رجعية وخطيرة لانها تغطي على المشاكل الحقيقية. فهي اذ تركز على التناقض الثقافي او الحضاري بين الغرب والعالم الاسلامي تهمل الاسباب الفعلية للصراع. ومن اهم هذه الاسباب التفاوت الهائل بين غنى الغرب وثرواته وبحبوحة شعوبه، وبين فقر المجتمعات الاسلامية والبؤس الذي تتخبط فيه شرائح واسعة من الشعوب العربية. وهكذا يتملص الغرب من مسؤوليته عن طريق القول بأن المسلمين معادون في جوهرهم لقيم الحداثة والحضارة! وبالتالي فالصراع معهم اجباري ليس لأن الكثيرين منهم يعانون من مشاكل الفقر والكبت والقهر وانما ميلهم الطبيعي الى العنف.. وهذا يبرهن على ان الغرب لا يريد ان يتحمل مسؤولية النظام العالمي الجائر الذي يقيم هوة سحيقة بين الشمال والجنوب. يضاف الى ذلك ان الغرب لا يريد ان يعترف بأن للآخرين الحق في بلورة القيم الحضارية والكونية، وانما يحتكر هذا الحق لنفسه فقط. واما فرانسوا فوركيه استاذ الاقتصاد في جامعة السوربون فيرى العكس. فهو يعتقد ان صموئيل هنتنغتون على حق عندما يتحدث عن صراع الحضارات. فالتفجيرات التي حصلت في نيويورك وواشنطن كانت موجهة فعلا ضد حضارة الغرب. وهي تهدف في ما وراء ضرب اميركا الى انهاء الهيمنة الغربية على العالم. ولكن هل الصراع أبدي او محتوم بين عالم الاسلام وعالم الغرب؟ عن هذا السؤال يجيب الباحث قائلا بأنه توجد امكانية لتفادي ذلك. وهي تتمثل في بلورة قيم كونية مقبولة من قبل جميع شعوب الارض وليس فقط من قبل الغرب. ففلسفة الغرب المتمثلة بالديمقراطية وحقوق الانسان وقوانين السوق لم تعد قادرة على فرض نفسها كفلسفة كونية تنطبق على العالم اجمع. وانما ينبغي على البشرية ان تبلور فلسفة أوسع منها واشمل. ويرى هذا الباحث ان الفلسفة الجديدة يمكن ان تستمد مبادئها من جميع التراثات الثقافية وليس فقط من تراث الغرب. فالاسلام مثلا يحتوي على تراث روحي عظيم ونحن نجهله. لماذا؟ لاننا، اي الغربيين، لا نعرف الا التيار المتطرف ولا نتحدث الا عنه. وهذا خطأ كبير يرتكبه الغرب في حق الثقافات الأخرى، خاصة الاسلام.

اما الباحثة ميشيل غيوم هوفنونغ، استاذة القانون العام في جامعة السوربون فتطرح السؤال التالي: هل حقوق الانسان كونية؟ بمعنى: هل حقوق الانسان كما بلورها الغرب منذ قرنين تنطبق على جميع الشعوب ام انها خاصة بتاريخه فقط؟ هذا السؤال كان شبه ممنوع سابقا لان الغرب كان يفرض حداثته وقيمه بصفتها ذات طابع كوني. ونلاحظ ان الباحثة تجيب بالايجاب عن هذا السؤال، وذلك على عكس ما فهمناه من كلام الباحث السابق. فحقوق الانسان لا تنحصر بالعرقية المركزية الاوروبية كما يزعم البعض، لماذا؟ لانها لا تستمد جميع مبادئها من تراث الغرب وانما استفادت ايضا من قيم الاسلام. وهذا ما برهن عليه الاعلان الاسلامي العالمي لحقوق الانسان والصادر عن اليونيسكو عام 1981. يضاف الى ذلك ان فلسفة حقوق الانسان لا تتعارض مع الاديان وانما فقط مع التفسير المتعصب لها. وترى الباحثة ان مبادئ الاديان الكبرى، كالاسلام والمسيحية كانت قد نصت على كرامة الانسان ورفعة الانسان لانه خليفة الله في الارض. وبالتالي فلا تعارض بين حقوق الله وحقوق الانسان اذا ما فهمنا الدين بشكل صحيح وعقلاني.

ماذا نستنتج من اقوال المثقفين التي استعرضناها حتى الآن؟ نستنتج ان الهوة بين الاسلام والغرب ليست سحيقة الى الدرجة التي كنا نتوهمها. نقول ذلك بشرط ان يتوفر شرطان اثنان: الاول هو ان يتراجع الغرب عن كرهه الشديد والمتأصل للاسلام، وان يعترف بالارث الحضاري العربي ـ الاسلامي ومدى تغذيته للحضارة الاوروبية. وهذا الشيء ابتدأ يتحقق أخيرا على يد بعض المفكرين المتحررين من الاحكام المسبقة والعدائية ضدنا. وقد ذكرنا اسماء بعضهم في ما سبق. ويمكن ان نضيف اليهم على سبيل المثال لا الحصر اسم الباحث آلان دوليبيرا المختص بالفلسفة العربية الاسلامية. فقد كشف عن الصفحات المضيئة لفلاسفة الاسلام وبين كيف انهم كانوا اساتذة لاوروبا طيلة عدة قرون، ولا يمكن فهم النهضة الاوروبية الا اذا موضعناها ضمن هذا المنظور التاريخي العميق. واما الشرط الثاني فهو ان يتغلب التيار العقلاني في العالم العربي على التيار المتطرف والمخطئ في فهمه لرسالة الاسلام السمحة. وهذه هي المهمة المطروحة على المستقبل.

***

الصراع الحضاري بين ليسينج وفيرتهايمر وموراك بقلم: عبدالواحد علواني

على خلفية محاضرة البابا بنديكت وتصريحاته وما تبعها من حراك وجدال، عادت مسألة الصراع الحضاري إلى الواجهة، بعدما تنحت بعض الشيء إثر التركيز على مسألة العالم الجديد الذي تسهم أميركا في صناعة معظمه، وما حف بهذه الهيمنة الأميركية التي مازالت تستثمر أحداث 11 من سبتمبر.

وهذه المسألة (العلاقة بين الحضارات) التي أثيرت في أول الثمانينات في الدائرة المتوسطية، ثم من خلال خطط الولايات المتحدة الأميركية لعالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي إثر تنظيرات القائد الفكري للسياسة الأميركية هنتنغتون في محاضرته الشهيرة صدام الحضارات، وما تبعها من جدال، ثم من خلال أطروحة حوار الحضارات التي تبناها الرئيس الإيراني السابق خاتمي في أواخر التسعينات.

لأكثر من نصف عقد غابت هذه المسألة وضاعت في خضم التحولات الهائلة التي أعقبت أحداث نيويورك وواشنطن، وهاهي اليوم تحضر اليوم بقوة، كأنما لتقول أن هذه المسألة لن يتم حسمها أو تلافيها مهما حاولنا تجاوزها.

والحقيقة أن هذه المسألة مناطة بالغرب إلى حد كبير ذلك أن العلاقة بين الحضارات ترسمه الحضارة الأقوى في راهنها، وهذه العلاقة تنبني على تصورات متشعبة يتداخل فيها الثقافي مع السياسي مع الاجتماعي مع الاقتصادي…الخ. وإن كان منطق المصالح يحكم المنطق السياسي الاقتصادي، فإن الإيديولوجية تفعل فعلها في إطار السياسي الثقافي، وقد يتصادم الاتجاهان فيتحول الصدام إلى داخل الدائرة الحضارية بدلا من أن يكون على حوافها.

والتفكير في مسألة الصراع الثقافي كجانب من جوانب صدام الحضارات يعيدنا إلى أغوار تاريخية ربما كان التصور الأكثر وضوحا يتمثل في جمهورية أفلاطون، حيث أقام رؤية مبتسرة للخارج من حيث كونه مؤثرا في الجمهورية، ولكنه ركز على محيط جغرافي أكثر من التركيز على محيط ثقافي. وتتالت الرؤى عبر أشكال تنظيرية وعملية خلال تقلبات التاريخ حتى راهننا هذا، فكانت هناك رؤى جديرة بالنقاش والاستحضار مثلما كان هناك نماذج جديرة بالافتخار عبر التاريخ ونماذج أخرى تشكل عارا في جبين الأمم التي قامت بها، ومعظمها طوي تحت بند الاعتذار.

في عام 1999 القي البروفسور يورغن فيرتهايمر الأستاذ بجامعة توبنجن بألمانيا محاضرة في قسم التاريخ بجامعة دمشق، تعرض فيها إلى رؤية الفيلسوف الألماني ليسنج لصراع الثقافات، محاولاً تمرير مقولات من خلال مزاعم تنقصها الدقة، وفي عام 2004 القي غونتر مواراك المفوض من قبل الخارجية الألمانية للحوار مع العالم الإسلامي محاضرة في مركز الملك فيصل بالرياض حول العلاقات الحضارية بين الإسلام والغرب، أعقبها نقاش ملتهب. ومع الفارق الكبير بين رؤية الأكاديمي (فيرتهايمر) والدبلوماسي (موراك) إلا أنهما قدما رؤى جديرة بالنقاش، ولعلي أركز على الكثير الذي قدمه فيرتهايمر مع التعرض إلى القليل الذي تضمنه نص موراك.

فيرتهايمر اتخذ منطلقا لبحثه مسرحية مشهورة لليسنج (رائد فلسفة الدين الطبيعي) وهي مسرحية ناثان الحكيم، ولعل من المناسب أن نقرأها بسرعة من خلال شبكة شخوص المسرحية المثيرة للجدل، فصلاح الدين الأيوبي فارس شهم يعاقر الخمر ويعاشر النساء بنهم مما يوقعه في أسر ديون متزايدة يقترضها من مراب يهودي عجوز (ناثان) له مواقف حكيمة كثيرة! وناثان هذا لديه ابنة بالتبني (ريشة)، يقال إنها ابنة أسد الدين شقيق صلاح الدين من علاقة غير شرعية، ذلك أن أسد الدين مفارق لدينه ومتعلق بالصليبيين، وريشة يهيم بها حبا فارس مسيحي يدعى فارس المعبد، من خلال هذه الشخصيات وهذه العلاقات ينسج ليسينج أرضية خصبة ليقول مقولته، ولكنه لا يقولها مباشرة، إنما يضمنها إحدى المفاصل الدرامية بحذاقة من خلال حكاية يوردها على لسان ناثان الحكيم وهي حكاية الخاتم، فالحكاية ترد في سياق العلاقة الملتبسة بين صلاح الدين المهيمن المديون والمفتقر إلى الحكمة، وبين ناثان الخاضع ولكن الدائن والقوي معرفيا وحكمة، إذ يسأله صلاح الدين أثناء منادمة، أي الأديان الثلاثة (اليهودية- المسيحية- الإسلام) هو الحق!

فيرد عليه ناثان بحكايته التي يقتبسها (ليسنج) من الأديب الإيطالي الشهر (بوكاتشيو) والحكاية تتحدث عن( شخص يكتشف قدرة غريبة في خاتم فريد يمنح من يرتديه قدرة فائقة على الفضل والمعروف والطيبة والأخلاق الحميدة والسلوكيات الراقية والفاعلة، فيحرص عليه ويعرف بالفضل بين الناس، وعندما تحين ساعة الأجل يحرص على توريث ابنه الخاتم ليكمل مسيرة أبيه في العطاء والطيبة، وهكذا يتم تناقل الخاتم داخل الأسرة إلى أن يصل إلى أب له ثلاثة أبناء، كل منهم يتحلى بطاعة نموذجية وأخلاق في غاية السمو، وكل منهم يتلقى وعدا على انفراد من أبيهم ليكون وريث الخاتم، عندما تحين ساعة الأب يحتار في أمره، وبعد جهد وتفكير يصل إلى حل يراه معقولا، فيلجأ سراً إلى صائغ معروف بإتقانه لعمله، ليستنسخ من خاتمه اثنين غيرهما، ويعطي كلاً من أولاده الثلاثة خاتماً على انفراد على أنه وريث الخاتم. يموت الأب، ويظهر كل من الأولاد خاتمه ليؤكد لشقيقيه أنه وريث الخاتم، يلتبس الأمر عليهم، فيلجؤون إلى عرافة عريق في بلادهم، فيقول لهم: كان أبوكم حكيماً، وهو يعلم أن الفضيلة ليست فضيلة الخاتم، إنما فضيلة لابسه، أحدكم يرتدي الخاتم الأصل، على كل منكم أن يؤكد أن خاتمه هو الأصل بما يقدر عليه من فضيلة).

بوكاتشيو يورد القصة في كتابه الممتع (الديكاميرون) ويرجعها إلى أصل شرقي، يرى البروفسور فيرتهايمر أنه أصل إسلامي، وحقيقة تصوره هذا يجانب الحقيقة ولا يمكن أن توافق هذه الحكاية التصورات الإسلامية ولا المسيحية، ذلك أن التصور الإسلامي للأديان الثلاثة يتحدث عن أصول ثلاثة، ينسخ الجديد منها الأقدم، بينما المسيحية تتحدث عن أصلين، أصل تلوث وأصل أزال الدنس، لذلك لا يمكن أن يكون الحكاية سوى نتاج تفكير يهودي، وهذا ما أكده ليسينج في سياق أدبيته الرائعة، إذ جاء بالحكاية على لسان اليهودي وإن كان في هوامشه يشير إلى الديكاميرون.

ولكن المهم لدى ليسينج أن يقول أن الدين لا يفاضل الأديان الأخرى إلا بما يقدمه من فضل ومن تصورات إنسانية راقية، وفي هذا الإطار نتفهم النقد الشديد الذي وجهه ليسينج إلى اليهود بوصفهم الشعب المختار إذ يؤكد هذه الفكرة ولكنه يرجعها إلى أن الله أراد أن يضرب مثلاً كيف أن هذا الشعب المختار لانحطاطه يمكن أن ينتج فكرا، فهو مختار لأنه من أحط الشعوب بين البشر.

فيرتهايمر بقي يحاول دأبه أن يجد صلة ما بين الحكاية والمسلمين ليقول للمسلمين عليكم تبني هذه النظرية في حل مشكل الصراع، ولكنه لم يفلح لا كثيرا ولا قليلا، وفي مسودة لمحاضرته التي لا ننكر قيمتها العالية والأكاديمية، بقي هذا الجهد نافرا عن جسد قراءته لليسنج.

وحقيقة ليسنج من أهم رواد الدين الطبيعي في الثقافة الغربية، يحتاج إلى قراءة متأنية وخاصة في سفره المدهش (تربية الجنس البشري) الذي ترجمه وعلق عليه الدكتور حسن حنفي بحذاقة وجهد مميزين.

نظرية ليسينج التي يمكن استجلاء خيوطها في مسرحية ناثان الحكيم على وجه الخصوص تقوم على دعامتين:

الأولى أن الاشتباك قائم، والتداخل قدر البشر الذين يتشاركون هواء هذا الكوكب، والاشتباك حافل بالإشكاليات على صعد مختلفة ثقافية واقتصادية وروحية وعاطفية و…الخ.

الثانية أن التفاضل يكون بالعمل من أجل المجموع، وما يقدمه كل طرف من فضل للبشر عامة ومن أجل واقع إنساني أكثر أمنا وسعادة.

غونتر موراك في محاضرته عام 2004 لم يتمكن أن يرتقي إلى مستوى تصور من تصورات ليسينج، مع انه ينطلق من نفس الدائرة الثقافية والجغرافية، فتصوره كان مبنيا إلى حد كبير على خدعة الشراكة المتوسطية، الشعار الذي تبنته دول أوربية كثيرة من أجل احتكار منطقة البحر الأبيض المتوسط، من خلال ترغيب بوعود لا طائل منها، وترهيب بضغوطات غير معلنة، لتبقى دول الجنوب المتوسطي مجرد حديقة خلفية لدول الشمال المتوسطي، وإن كانت مزينة بشعارات فرنان بروديل.

ولعل عذر غونتر مواراك في ذلك أنه دبلوماسي تربى في دوامة السياسة الخارجية للاتحاد الأوربي، وإنه يفتقد رؤية استشرافية لا تسلس قيادها إلا لصاحب فكر، لذلك تخبط كثيرا، ولم يتمكن من تقديم شيء مجدٍ أو ذي بال.

يرى معظم الغربيين المعاصرين مشكلة بنيوية في الفكر الإسلامي إزاء التعامل مع الأخر ومشاركته الواقع العالمي، ويتهم معظمهم العالم الإسلامي بأنه يدعو للحوار كونه الطرف الأضعف، وحقيقة أن هذا التصور متوغل في فلسفة الكثير من الاتجاهات الإسلامية والقومية، فهي ترى الحوار تكتيكا مرحليا، لا استراتيجية دائمة، ولكن التصور الغربي لم يكن يوما ما أفضل بالمقابل، فالنزعة الكولونيالية تغلف كل الفضاء الفكري في الغرب، والتصورات الاستشراقية بقيت مدخل كل باحث عن كنه الشرق الإسلامي مما يصبغ بحثه واجتهاده بلوثة إيديولوجية مسبقة، وحالة النفاق سواء في دائرة الثقافة الإسلامية أو الغربية تقيم أواصر وهمية لا تلبث أن تتهاوى عند أول لفحة سوء فهم. وفي تصريحات البابا وما سبقها من اعتداء على رموز إسلامية وما تبعها وتلاها أيضا الكثير من الدلائل على جدية مفقودة في النظر إلى المسألة بعيدا عن تجاذبات إقصاء الآخر واستئصاله.

*** الإسلام في الديار الأوروبية: نظرات الى التاريخ والقضايا والمستقبل

بقلم: يونس إريك جوفرو

لم يبدأ الحضور الإسلامي في القارة الأوروبية مع وصول الموجات الأولى من المهاجرين القادمين من العالم الإسلامي، إنه أبعد من ذلك. صحيح أن مساهمة الإسلام في بناء الهوية الدينية والروحية لأوروبا قد وقع الاستنقاص منها في الغرب، مثلما تم استنقاص مساهمة الحضارة العربية الإسلامية في شكل عام. فأوروبا ليست فقط وليدة الثقافة اليونانية اللاتينية والثقافة اليهودية المسيحية، كما يحاوَلُ أحياناً إقناعنا. يتعيّن علينا إذاً القيام بنبش الذاكرة حول «الميراث المنسي» الخاص بالإسلام. وفي الحقيقة فقد شُرع في هذا العمل منذ بضعة عقود، ويجب أن يُنجز هذا العمل بعقلية التفتح العلمي والثقافي وليس بعقلية المطالبات الدينية أو الطائفية أو غيرهما.

لا بد من التذكير في البداية أن الحضور الإسلامي الفعلي قديم ومتجذر في قارتنا. وإذا كنا نعلم تمام العلم أن جزءاً من أسبانيا قد ظل مسلماً ما يناهز ثمانية قرون، فإننا لا نعلم إلا القليل عن بقاء الإسلام مدة أربعة قرون في صقلية - كانت باليرمو في القرن العاشر تعُدّ ثلاثمئة مسجد - والقليل القليل عن وجوده في جنوب إيطاليا. ولم تنطفئ شعلة الثقافة العربية الإسلامية في هذه المناطق بعد خروج العرب، بل استمر إشعاعها طوال قرون عدة. وفضلاً عن ذلك، كانت لأوروبا الشرقية تجربة واسعة مع الإسلام الذي توطد في البلقان بعد الفتح العثماني منذ أواخر القرن الرابع عشر. فقد تركت هذه القرون من الحكم العثماني لها بصمة لا تمحى. وعلى رغم القرون المنقضية، وعمليات المد والجزر البشري المفروضة، فإن تلك المناطق تشهد إلى اليوم حضوراً إسلامياً غير منقطعٍ في قلب القارة الأوروبية. ففي كوسوفو وألبانيا، على سبيل المثال، نجد أن نسبة المسلمين تصل إلى 90 في المئة في الأولى و70 في المئة في الثانية. أما روسيا، فقد عرفت بدورها الإسلام منذ القرن الحادي عشر، لكن ذلك قد يجرنا إلى الحديث عن أوروبا أخرى قد تمتد إلى الأورال...

تتجلّى الإضافة الدينية للإسلام في أوروبا العصور الوسطى بداية في اللاهوت والفلسفة. فقد أثّر علماء المسلمين أمثال ابن سينا والغزالي وابن رشد، وكذا المعتزلة أيما تأثير في الفكر اللاتيني في العصور الوسطى. وسرعان ما أثارت مسألة التوافق أو التعارض بين الفكر الإغريقي والعقيدة الدينية نقاشاً واسعاً بين المسلمين. ولم يتأخر علماء اللاهوت «الأوروبيون» من يهود أمثال ابن ميمون، ونصارى أمثال القديس توماس الأكويني عن مناقشة هذه المواضيع. وأدى تأثير الفكر الإسلامي على الفلسفة الكلاسيكية المسيحية إلى نشوء تيارين: تيار ابن سينا اللاتيني وتيار ابن رشد اللاتيني. ولا بد من التذكير بأن الغرب اكتشف الفلسفة الإغريقية بفضل أعمال الترجمة إلى اللغة العربية لمؤلفات أرسطو وأفلاطون وأفلوطين في شكل خاص. ولم يكتف علماء المسلمين بالعمل كوسطاء لنقل الثقافة، بل أضافوا بصمة عبقريتهم العلمية والروحية والإنسانية. وفي القرن الثالث عشر، تمكن الإمبراطور فرديريك الثاني، بعد أن انتابته هواجس ميتافيزيقية، من العثور على أجوبة عن أسئلة فلسفية كانت تراوده لدى أحد متصوفة مدينة سبتة هو ابن سبعين. والتحق العلماء والأدباء الأوروبيون من لاتينيين وجرمانيين وسلافيين بمدرسة الفكر الإسلامي مع استيعابهم أيضاً لبعض الأنماط الدينية. ونحن نعرف اليوم أن الكوميديا الإلهية للكاتب دانتي أخذت الكثير من كتاب معراج محمد الذي نشرت في إيطاليا نسخة شعبية منه تحكي قصة معراج النبي (صلى الله عليه وسلم(

كما أثرى الإسلام أوروبا في العصور الوسطى في المجالات الروحية والتصوف. وإذا لم تترك رابعة [العدوية]، زاهدة العراق، إلا أسطورة رائعة في بلاط القديس لويس، فإن الصوفية غذت المذهب الروحي للجماعات الكهنوتية الصليبية كجماعة الهيكل. وبظهور أعمال القس الأسباني (آسين بالاثيوس) في بداية القرن العشرين، بدأ أيضاً الإقرار بتأثير الصوفية المغاربية على روحانيين أسبان مثل القديس (جان دو لكروا) والقديسة (تيريز دافيلا)، وذلك عبر الروحانيين اليهود. بل إن بعض الباحثين الغربيين - من غير المسلمين - ذهبوا إلى أن ممارسات الشعائر الروحية لـ (إجناص دي لويولا) ربما اعتمدت على طرق التلقين الصوفي. ألم يولد «الشيخ الأكبر» للروحانية الإسلامية ابن عربي (المتوفى عام 1240م.) في أسبانيا؟ وحتى إذا كان قد استقر في ما بعد في المشرق بدمشق، فإنه يعود إلى الغرب المعاصر بفضل الإشعاع الذي عرفته تعاليمه الإنسانية هناك. وبغض النظر عن التأثيرات أو الاقتباسات، فإنه يمكننا أن نتبين أن اليهود والمسلمين والمسيحيين كانوا متعايشين في غالب الأحيان في الأمصار المتاخمة المذكورة أعلاه، والتي صارت تحت سلطة المسلمين. وإذا كانت الأندلس تعتبر النموذج المثالي لهذا التعايش السلمي والمثمر بين الديانات الثلاث، فإن آسيا الصغرى والبلقان شهدت أيضاً قيام علاقات حميمية بين الديانات، خصوصاً بين الرهبان والدراويش.

والفترة المهمة الأخرى التي تلاقى فيها الإسلام مع الغرب، والتي كانت في الواقع فترة مواجهة، كانت أثناء التوسع الاستعماري للدول الأوروبية. ففي حالة فرنسا، كان لهذا الحضور في العالم الإسلامي، وفي الجزائر في شكل خاص، الدور المؤسس، لأنه أثر في شكل دائم على الطريقة التي كانت تنوي الجمهورية الفرنسية إدارة علاقاتها مع الإسلام كعبادة موجودة فوق التراب الفرنسي ذاته. وأصبحت فرنسا منذ القرن التاسع عشر عبارة عن «قوة إسلامية".

لقد أدى الاستعمار إلى نشوء حركة هجرة كبيرة من أوروبا باتجاه العالم الإسلامي، تلاها بعد ذلك مباشرة موجات مختلفة من الهجرة المعاكسة، وكان أهمها تلك التي ظهرت في الستينات من القرن العشرين. ومع بداية الثمانينات من القرن نفسه، ظهر الإسلام كحقيقة دينية جماعية وليس كديانة فردية وعائلية. ومنذ ذلك الحين، بدأ نسيج جمعياتي بالتشكّل، وبدأ المسلمون يطالبون بأماكن عبادة معقولة وعلنية داخل المدينة الأوروبية. وتميزت العشرية الموالية بإعادة أسلمة جمهور المسلمين الأوروبي. وأصبح الإسلام، خصوصاً في أوساط الشباب، طريقة مفضلة لتأكيد الذات وتأكيد الهوية ذات البعدين الشخصي والجماعي في آن معاً. إن إعادة التكيف هذه، ذات الطابع الديني تَرَافَقَت مع المطالبة بمواطنة أكثر فعالية. كما إن المداخلات الكارسماتية المتكررة لطارق رمضان أمام الشباب تسير في هذا الاتجاه. نحو ثقافة إسلامية أوروبية يناهز عدد المسلمين في أوروبا الغربية اليوم 15 مليوناً على أقل تقدير. وتضمّ فرنسا وحدها ما لا يقل عن خمسة ملايين منهم، مما يجعلها أول بلد مسلم في أوروبا من حيث العدد. وعلى رغم التنوع في الأصول العرقية والوطنية والثقافية والطقوسية، فإن الحضور الإسلامي في أوروبا الغربية يفرض نفسه أكثر فأكثر كحضور إسلامي أوروبي، ونحن نلاحظ بروزاً تدريجياً لإسلام محلّي. وهكذا نجد أن حوالى نصف المسلمين في فرنسا يحملون الجنسية الفرنسية. ولسنا في حاجة إلى التذكير بأن الإسلام متعدد. وأن السلطة لا تقتصر فيه على مصدر وحيد، ولا يشتمل على سلطة عقائدية عليا على غرار البابوية. وبناء عليه، تستطيع الحساسيات الأكثر اختلافاً في ما بينها التعبير عن نفسها في إطاره: بدءاً من أقصى دعاة التطبيق الحرفي أو الأكثر تشدداً مثل الوهابية في السعودية، إلى الأكثر تفتحاً أو الأكثر كونية على غرار الصوفية، مروراً بالإصلاحيين الذين يعملون على الجمع بين التقاليد والحداثة، إلخ. وعملياً، هناك الكثير من الفوارق الدقيقة التي يجب مراعاتها لأن هذه التيارات تأثر في بعضها البعض.

ويجد المجتمع المدني والسلطات العمومية نفسها منذ سنوات عدة في حاجة إلى أطراف من المسلمين معروفين جداً. لقد دخل الإسلام الأوروبي مرحلة التنظّم، في وقت نجد، في شكل معاكس، أن الديانات الأخرى بدأت تتخلص شيئاً فشيئاً من الوضع المؤسسي. ومنذ بضعة أعوام، اكتسبت دول مثل أسبانيا وبلجيكا بعض التجربة في هذا المجال، لكن الإسلام في فرنسا خطا خطوة حاسمة بانتخابه هيأته، المتمثلة في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في أيار (مايو) 2003. وصار الإسلام يشارك في البرامج الأوروبية الكبرى، كبرنامج امنحوا روحاً لأوروبا، عندما لا يكون هو نفسه محوراً للجدل.

لا يزال يُنظر إلى الإسلام على أنه في الغالب «ديانة خاصة بالمهاجرين»، مما جعل السلطات العمومية تحافظ على طريقة تسيير ملفه مثلما كان معمولاً به في الفترة الاستعمارية أو فترة ما بعد الاستعمار. لا بد إذاً من الحديث عن الذين «اعتنقوا» الإسلام. ففي أغلب الحالات، يعتبر هؤلاء لحظة دخولهم إلى الإسلام كإنجاز متمم لانتمائهم الديني السابق، وليس كردة. فالإسلام الذي يقدّم نفسه كآخر ديانة موحاة لهذه الإنسانية، يعترف بالديانات الأخرى في نصوصه المؤسسة (القرآن والسنة)، ويعتبرها فروعاً للشجرة الآدمية. وفي هذا الصدد، وما دام القصد من لقائنا هو إقامة حوار بين البوذية والإسلام، نشير إلى أنه ورد ذكر الإله بوذا ثلاث مرات في القرآن، حسب غالبية المفسرين.

منذ حوالى عشرين سنة خلت، كان المعتنقون الجدد يدخلون الإسلام بهدف الوصول إلى التصوف. وكان معظم هؤلاء من المثقفين والفنانين، الذين كانت أعمال رينيه غينون (المتوفى عام 1951) حاسمة بالنسبة إليهم. وقد شهد هذا اللاهوتي الفرنسي، الذي اعتنق الإسلام وتسمّى بعبدالواحد يحيي وعاش في القاهرة، على كونية السنّة الأساسية بطريقة واضحة للغاية، مما جعل أعماله تبقى مرجعاً لكل «الباحثين عن الحقيقة»، بخاصة في الوسط البوذي الغربي. وعمل لاهوتي صوفي آخر وهو فريثجوف شون (تـ. عام 1998) بدوره على تطوير موضوع «الوحدة المتعالية للأديان» التي هي ترجمة لمبدأ وحدة الأديان الذي قال به متصوفة العصور الوسطى.

من الواضح أن الصوفية لعبت دائماً دوراً رئيسياً في الحوار بين الديانات. ويُفهَم ذلك أفضل إذا علمنا أن الأولياء المسلمين، بحسب مشايخ الصوفية، هم ورثة الأنبياء السابقين عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) عبر الوظيفة الجامعة والمركبة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي لخص أنواع النبوات السابقة جميعها. ورُبّ وليٍّ يكون في لحظة من حياته أو طيلة حياته «نوحياً» (نسبة إلى النبي نوح) أو «إبراهيمياً» أو «موسوياً» أو «عيسوياً» (عليهم السلام). عرف التصوف إذاً أولياء موسويين كانوا يغطون وجوههم كي لا يعمي نورهم مخاطَبيهم ولا يتسبب في مقتلهم، تماماً كما فعل النبي موسى (عليه السلام) وهو ينزل جبل سيناء. وكان البعض الآخر من الأولياء العيسويين (نسبة إلى المسيح عيسى بن مريم) يدّعون القدرة على إحياء الموتى، كما فعل عيسى (عليه السلام). ولا يزال الأولياء المعاصرون يعيشون هذه التجربة المتمثلة في الإرث النبوي، لكن الأمر يتعلق هنا طبعاً بمجال يتجاوز التحليل الخارجي.

كما نشهد في أيامنا هذه ما يمكن أن نسميه «اعتناق الأجوار»، الذي له علاقة بأصدقاء أو جيران أو زملاء مسلمين، ويكون ذلك أحياناً في أحياء الضواحي. كما لا ننسى دور الزواج المختلط. ففي فرنسا، نجد أن عدد النساء اللاتي يعتنقن الإسلام يفوق عدد الرجال، وهذا معـطى يجـب التفكيـر فيه. لا يمكن إعـطاء رقم صحـيح عـن عدد الأشخاص الذين اعتنقوا الإسلام، لأن تغيير الدين لا يتطلب تصريحاً رسمياً. إضافة إلى ذلك، هناك الكثير ممن يخفون إسلامهم بسبب المعاداة للإسلام التي تعشش بين بعض الطبقات من السكان. بل وصل الأمر إلى حد القول إن 200 ألف شخص اعتنقوا الإسلام، ولكنه من المنصف القول إن العدد يتراوح بين 30 و40 ألف شخص. ولا بد أيضاً من دراسـة أسباب اعتناق الناس للإسلام. عوائق ومحاسن الإسلام الأوروبي نحن نعيش ظهور ثقافة إسلامية أوروبية كأمر واقع، لكن هذه الثقافة تواجه عوائق كثيرة لم تعرفها البوذية في أوروبا. فمن جهة، يرزح الإسلام الأوروبي تحت وطأة الجهل بأمور الدين لدى الجيل الأول من المهاجرين الذين لم يعرفوا أو لم يستطيعوا تربية أولادهم ضمن المنظور الكوني للإسلام. وهو يخضع، من جهة ثانية، إلى عبء الخلط عند بعض المسلمين بين التعاليم الحقيقية للرسالة الإسلامية والعادات العربية أو البربرية أو الأفريقية أو التركية، وغيرها. فالإسلام الفرنسي في شكل خاص، لا يزال خاضعاً للإيديولوجيات والتناقضات الوطنية السائدة على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وخاضعاً للارتباطات الديبلوماسية أو السياسية التي تربطه بالبلدان الأصلية. لكن الشباب المسلم يرفض الإسلام المتوارث عن الآباء، إسلام قد يُختزل في الحلال والحرام، ويرونه نوعاً من العقيدة الشكلية الغثة. فهم، على غرار الطبقات الاجتماعية الأخرى، يحسون في حاجة إلى الوصول إلى روحانية أصيلة تكون عاملاً للصحوة والتحرر.

هنا يكمن الأمل في إسلام أوروبي جديد، مع فرصة التوجه نحو ما هو جوهري، أي نحو محور التوحيد، البحث عن الوحدانية، وعملية التوحد ذات الأهمية المركزية في الإسلام. وبهذا الشكل، يمكن للمسلمين الأوروبيين أن يتخلصوا أكثر فأكثر من القيود العائلية والطائفية والوطنية وغيرها في شكل أفضل. إن العقيدة الصوفية في «الإنسان الكامل»، إذا ما صيغت بعبارات متلائمة مع عصرنا، قد تتيح للبعض على الأقل الوصول إلى هذه الحرية الداخلية التي من شأنها أن تمدهم بها الروحانية. إن مثال الأمير عبدالقادر يستحق التأمّل. فهذا البطل المتصوف فهم أنه لا بد من الانتقال في وقت من الأوقات من الجهاد الأصغر ضد الفرنسيين، هذا الجهاد الذي لم يعد مطابقاً للنهج الرباني، إلى الجهاد الأكبر لأنه يحرر الإنسان من شهواته وأوهامه.

مبدئياً، يتعين على المسلم أن يكون مطمئناً في أي مكان من الأرض، وذلك بحكم هذه المحورية الداخلية التي أشرنا إليها أعلاه والتي يستمدها من التوحيد. لا وجود لهيكل في الإسلام لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: «وجُعِلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً»، وكل شخص مسلم، سواء كان ذكراً أو أنثى، هو إمام لنفسه عند القيام بصلاته منفرداً. ومن الناحية التاريخية، فقد تكيف الإسلام دائماً مع سياقات المكان والزمان المختلفة، بل أظهر رغبة جامحة في التعرف الى الثقافات المختلفة التي احتك بها أو في استيعابها. وحتى يتسنى للشخصية الإسلامية الأوروبية استرجاع تناسقها الكامل، فإنها مدعوة للتفتح على الكوني، مدعوة لاكتساب نظرة ميتافيزيقية للعالم، وذلك للقضاء على الازدواجية، إن لم نقل الانفصام في الشخصية، التي تؤدي إلى نشوء توتر خطير في النفس المسلمة بين الغرب والشرق، بين الضفة الشمالية والضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، بين الإسلام والمعاصرة، بين الإسلام والعلمانية، بين الإسلام والمواطنة، إلخ. وفي الواقع فإن المسلمين عرضة للقلق نفسه الذي يحس به الأوروبيون الواعون نسبياً: الهدم الذي تقوم به «الحضارة» الميكانيكية، ضياع المعالم، وخيبة أمل العالم...

فقط الضمير الموحد وحده، ثمرة تجربة التوحيد، هو الذي يتيح للمسلمين أين وُجِدوا اقتحام كل مستويات الحقيقة بحكمة، وذلك بإعطاء كل مستوى من مستوياتها حقه ومكانته. فالنبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يطالب المحيطين به من رجال ونساء بشيء آخر.

المصدر: https://middle-east-online.com/%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك