من الاستشراق إلى حوار الحضارات - روسيا و المسلمين نموذجاً

عبد الله أبو هيف

 

(1)

 

ارتبط الاستشراق بتحقق سلطة المعرفة نحو الاستعمار وتمكينه من آليات استلاب الشعوب والأمم الضعيفة إلى حين تبدلات مفهوم الاستعمار نفسه ودخوله في الاستعمار الجديد وطابعه الاقتصادي والاستقطاب والتبعية والغزو الفكري والتطبيع والهيمنة والعولمة ضمن تنازعات الحوار الحضاري الذي ألبس عند منظّري الهيمنة لبوس نهاية التاريخ للشروع في نظام دولي جديد يندرج في مصالح القطبية المهيمنة، وتسيّرها الولايات المتحدة الأمريكية، أو لبوس الصراع الحضاري تغطية على العرب والإسلام تزّيف معها الحقائق، وتضلّل الوقائع، وتهمشّ الحقوق.

وتنامت هذه التبدلات مع رؤى الآخر الذي يتماهى مع تمثيل العدو أو الغازي أو المحتل إلى وقت قريب، فنشأ الاستغراب (دراسة الغرب ووعي علائقه بالذات القومية) في مقابل الاستشراق الذي تطور مفهومه وتخصص بالاستعراب، إذ ضاق إطار الاستشراق ضمن الجغرافية العربية وحدها على الرغم من أن حدود الثقافة لا تقتصر على الجغرافية، فالعربي الذي يعيش خارج وطنه يظل عربيًا.

وشهد مفهوم الاستشراق أو الاستعراب بالنسبة إلينا نحن العرب تطورًا لافتًا للنظر في حمأة الحرب الباردة، ومحاولات كسب العرب إلى قطبية مسيطرة دون أخرى، ورأى بعض الباحثين في ذلك انسدادًا لأفق الاستشراق، حسب تعبير سالم حميش، بتأثير العوامل التالية:

- ضعف ثقة الإنسان الغربي بتفوقه الحضاري والعقلي إثر الحربين العالميتين الأولى والثانية.

- نمو حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة ونجاحاتها ضد مدّ السيطرة وتخطيطاتها، مما نجم عنه اضطراب في مدى معرفة الغرب بالشرق إزاء الاستقلالات الذاتية.

- تطور العلوم الإنسانية مما أفضى إلى إلغاء هيمنة المناهج الاستشراقية التقليدية، «وفتح أعين الباحثين على إشكالات وقضايا تمت إلى الثقافة والمجتمع بمعنيهما التاريخي الكلي»(1).

ويفيد هذا التطور في فهم الاستشراق أن الآخر الغربي ركن إلى تعديل معرفته في ضوء المتغيرات الدولية العاصفة خلال العقدين الأخيرين ودخل في ذرائعية سلطة المعرفة، وقوبل الاستشراق بالاستغراب اختراعًا للآخر في الخطاب الأنثروبولوجي، ورأى منذر الكيلاني ذلك استجابة لدواعي معرفية اختراع الآخر، وأن علينا أن نحقق داخل المرجعية الكونية تمفصل العلاقة التراتبية بين الذات والآخر، بين المركز والتخوم، بين الملاحِظ والملحوظ.. بطريقة واعية ونقدية.. نحو «فرصة مجاوزة النزعة الأصولية المغالية في الهوية، وفرصة المروق من مأزق علم اجتماع قويم أو أنثروبولوجية قومية»(2).

وتظهر الذرائعية جلية انصياعًا لمصالح الغرب بالدرجة الأولى في أشكال نظرة الآخر إلى الغرب في موروث الاستشراق الطويل من العرقية والعنصرية إلى كبش الفداء، وبيّن محمد نجيب بوطالب أن الصور والأفكار والتسويغات التي خرج بها فيبر ناتجة عن تأثره بفرضيات المستشرقين «ومن الضروري الإشارة في النهاية إلى أن استمرار المواقف التحاملية وملامح العدائية لا يمكن تحميلها لأفراد، وإنما إلى منظومة حضارية اجتماعية سياسية إعلامية يساهم الأفراد في صياغتها. ويمكن لهؤلاء أن يتمردوا على هذا النظام، ولو معرفيًا، مثلما تمرد بارك ورودنسون وغارودي وغيرهم»(3).

ومن الواضح أن الاستشراق قد أنجب مستشرقين جددًا استفادوا من فضاءات العلوم الإنسانية وتحديثها من جهة، وانغمروا في رحابة الحوار 
الحضاري بما لا يتفق مع أهواء الأنظمة الغربية ومصالحها من جهة أخرى.

وقدم الاستشراق الروسي وتطوراته السوفيتية ثم العود إلى الإطار الروسي أنموذجًا لمكانة الاستشراق في تعزيز 
الحوار الحضاري بين الغرب والشرق، بين الشمال والجنوب، وتحديدًا بين الآخر الغربي الساعي إلى الاستعلاء والتكبر والهيمنة، وهو مختلف كثيرًا عن الاستشراق الروسي من جهة والعرب المستضعفين والواهنين عن المواجهة والمقاومة من جهة أخرى. وقد خصصت البحث للنظر في الاستشراق وتنمية الحوار الحضاري من خلال تعامل الاستشراق الروسي مع الأدب العربي الحديث، على أنه عزز موروثه الثقافي نحو قضية تطوير الأجناس الأدبية العربية الحديثة، ولا سيما القصة والرواية. ويقسم البحث إلى الأقسام التالية:

1- الاستشراق الروسي ورؤاه العربية.

2- الاستشراق الروسي والأدب العربي.

3- نجيب محفوظ في مرايا الاستشراق الروسي.

4- الأدب الجزائري في مرآة الاستشراق الروسي.



1- الاستشراق الروسي ورؤاه العربية:

يستند الاستشراق الروسي إلى تقاليد راسخة ومكينة في أمرين الأول الميل العلمي لمعرفة الآخر في خضم هيمنة المعرفة الاستشراقية على وجه العموم التي اعتمدت على «النص» (الإنشاء) لتركيز «السلطة الاستعمارية أو الغربية أو سلطة الآخر على العرب»، كما بين ذلك بجلاء سفر أدوار سعيد الكبير «الاستشراق»(4)، وقد ظل الاستشراق السوفييتي وهو سليل الاستشراق الروسي متعثرًا ومترددًا وحائرًا عن مصالحه والعلم إلى فترة متأخرة نسبيًا عن بداءة الاستشراق إذ لم يستقر الاستشراق الروسي حتى أواخر القرن الثامن عشر في عهد القيصرة كاترين، بينما نشط الاستشراق الأوربي قبل ذلك بعدة قرون.

والأمر الثاني هو تأثير الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي فما كان في المجال السياسي الماركسي اللينيني هو المتبع أيضًا في مجال الاستشراق، فانتهت «الدراسات الإسلامية» أو الأتنوغرافية أو الأنثروبولوجية، أو كادت لصالح الأرضية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في فهم المجتمع وتطويره، ولا يستطيع المرء في هذا العجالة أن يشير إلى تعثر الموقف من الاستشراق في ظل إعادة البناء «البيرويستريكا» حيث يعاد النظر في مفاهيم وممارسات كثيرة ولكنها لم تستمر طويلاً على الرغم من محاولات التطوير الكثيرة دون أسس منهجية، فالسائد هو تقليد دراسة المجتمع العربي وقضاياه ومشكلاته في إطار وجهة النظر المادية(5)،فقد صاغوا ما سموه «علم الاستشراق السوفييتي» المبني على موروث الاستشراق الروسي والمعدل وفق النظرية الماركسية التي تجد مؤيديها في بلدان العالم كافة، وانطلق العلم من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية، التي صارت إلى أكاديمية العلوم الروسية مع مطلع العام 1992، أي بعد أسبوع من استقالة غورباتشوف، وشرع المعهد، إلى جانب هيئة تحرير «العلوم الاجتماعية والعصر» بإصدار سلسلة كتب من هذا العلم منذ عام 1983 حتى عام 1990 عند تعثر العمل في هذا الاتجاه كلّه. وقد اعتمد المعهد على إنتاج المؤسسات الأكاديمية في موسكو ولنينغراد (سان بطرسبورج) وعدد من عواصم الجمهوريات الاتحادية آنذاك مثل باكو ودوشنبه ويريفان وطشقند وتبيليسي. ومن الصعب، حسب أول كتاب في هذه السلسلة، «أن نجد بلدًا عربيًا إلا وانعكس تاريخه واقتصاده في أعمال الكتاب السوفييت. وينشر في الاتحاد السوفييتي سنويًا عدد كبير من الكتب ذات المواضيع العربية، ويترجم جزء منها، أو يعاد نشره في البلدان العربية»(6).

وحمل الكتاب الأول في السلسلة عنوان «التطور المعاصر للبلدان العربية»، وحوى موضوعات متعددة لباحثين متعددين مثل: انتشار أفكار الاشتراكية العلمية في جنوب الجزيرة العربية ـ الديمقراطيون الثوريون والتقاليد الدينية ـ تونس في الستينيات: السياسة والإيديولوجية ـ دور العامل النفطي في تطور الجزائر ـ الرساميل العربية في السبعينيات ـ التحول الرأسمالي للاحتكارات النفطية ـ التحول السياسي ـ الاجتماعي في مصر خلال السبعينيات ـ بعض خصوصيات تطور دولة الإمارات العربية المتحدة.. الخ.

ثم ظهرت في السلسلة كتب كثيرة مثل:

- بلدان الشرقين الأدنى والأوسط: الاقتصاد والسياسة، (موسكو 1983).

- القضية الفلسطينية: العدوان والمقاومة وسبل التسوية، (موسكو 1983)

- بلدان الشرق: السياسة والإيديولوجيا، (موسكو 1985).

- أبحاث جديدة للمستعربين السوفييت ، (موسكو 1986).

- الشرق في القرون الوسطى: النظام الاقتصادي والاجتماعي، (موسكو 1987).

- شمال أفريقيا: التطور المعاصر، (موسكو 1988).

- عالم البدو الرحل، (موسكو 1988 ... الخ).

لقد كانت حصيلة استشراقية بعامة واستعرابية بخاصة ضخمة ومفيدة، نتوقف عند جانب منها هو قضية تطوير الأجناس الأدبية العربية بعد الإشارة إلى تاريخية الاستشراق الروسي.

كان قرار القيصرة كاترين (بتاريخ 27 أيلول 1772) القاضي بإلزامية تدريس اللغة العربية في المدارس المختصة بتعليم اللغات الشرقية تطورًا في تاريخ الاستعراب الروسي، مثلما كانت جهود علماء ومستشرقين أمثال فرين وسينكوفسكي وكاظم بيك وبرتولد وغرغس ورازين وكريمسكي أساسا لبناء تراث الاستعراب الروسي ودفعه إلى الاستقلال النسبي عن «المركزية الأوربية» من جهة، وتخليصه النسبي من المحاولات العدائية غير العلمية تجاه التراث العربي الإسلامي، وإنجازه المشهود في المخطوطات العربية ونشر الثقافة العربية الإسلامية، على أن جهد كراتشكوفسكي هو الأكثر تميزًا في تثمير إسهام هذا الاستعراب فقد كان كراتشكوفسكي حلقة انتقال من الاستشراق الروسي إلى الاستعراب السوفييتي ـ بآفاقه الإنسانية التقدمية الواضحة(7).



2- الاستشراق الروسي والأدب العربي:

عني الاستشراق الروسي مبكرًا بالأدب العربي الحديث كما هو الحال مع كتابات جرجس مرقص (1846-1912)، ولكن جهود كراتشكوفسكي هي الأبرز في مسار هذا التاريخ الاستشراقي، فهو أول من تناول الأدب العربي الحديث من المستشرقين الروس وأحد قلائل المستشرقين العالميين الذين عنوا به منذ بدء النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر(8) مما جعله بحق رائدًا لدراسات الأدب العربي الحديث في الاستشراق الروسي، مهد فيما بعد للاهتمام الثر والفريد في الاستعراب السوفيتي، فصار للأدب العربي الحديث أساتذته ومترجموه وأقسامه ومكتباته في مراكز الاستعراب السوفيتية، وربما كانت آنا دولينينا أول مستعربة سوفيتية متخصصة بالأدب العربي الحديث وحده، ولها فيه عشرات المؤلفات والمترجمات ومئات البحوث والمقالات المنتشرة في الدوريات، ونذكر من هذه الأعمال:

- الأدب الروسي في القرن التاسع عشر في البلدان العربية (1953).

- جوجول في الأدب العربي (1954).

- جوركي في اللغة العربية (1955).

- شولوخوف في سورية ولبنان (1956).

- ترجمة قصص محمود تيمور إلى الروسية (56-1958).

- النثر العربي (1956).

- توفيق الحكيم (1957).

- ما قبل تاريخ الواقعية في الأدب العربي الحديث (1959).

- روايات جرجي زيدان (1969).

- روايات فرح أنطون (1971).

- تولستوي في الأدب العربي (1973).

- القصة في الأدب العربي (1974)(9).

ونناقش في هذه المقالة بعض أبحاثها الأخرى.

نلاحظ في ميدان الاهتمام بالأجناس الأدبية العربية أن الاستعراب السوفييتي قد وجه اهتمامه إلى دراسة تطور الأدب العربي الحديث واستمرار تقاليده، والتعريف بالتطور الداخلي والمؤثرات الخارجية لهذا التطور، والمقارنة بالآداب القومية والعالمية التي تماثله أو تبادلت معه التأثير. وإذا كان الاستعراب السوفييتي قد خص الأجناس جميعها باهتمامه، فإن عنايته بالقصة والمسرح فائقة، ولا ننسى في هذا المجال كتاب بوتنيتسفا الهام عن تاريخية المسرح العربي واستمراره الحي «ألف عام وعام على المسرح العربي»(10)، على أنني ساركز في هذه المقالة على القصة العربية وحدها.

نجد أن مستعربين سوفييت كثيرين قد اشتغلوا بهذه القضية بإحصاء بسيط، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، ومن مختلف الأجيال، عبد الرحمن سلطانوف، وفلاديمير سولوفييف، وشاربا توف، وفلاديمير شاجال وبوريسوف ونيكورا، ويوسوبوف، والميرا علي زاده، وفاليريا كيربيتشنيكو، ويونسوف، وميكولسكي، وأولغا فلاسوفا وايغور يرماكوف.

وأكتفي هنا باستعراض بعض كتابات وآراء دوليينا وكيربيتشنكو حول تطور القصة العربية كما وردت في الكتب التالية، على أننا سنشير إلى مقالات المستعربين الأخرين كلما دعت الحاجة :

1- بحوث سوفيتية في الأدب العربي موسكو (1978).

2- بحوث سوفيتية جديدة في الأدب العربي (موسكو 1986).

3- أبحاث جديدة للمستعمرين السوفييت ـ الكتاب الأول (موسكو 86(11)) تعكس كتابات هاتين المستعربتين وجهات نظر الاستعراب السوفييتي برمته إزاء قضية تطوير الأجناس الأدبية، ولا سيما الحديثة على وجه العموم، والقصة على وجه الخصوص.

لقد قدمت كيربيتشنكو للكتابين الأول والثاني، وعرضت في مقالتيها الافتتاحيتين فكرة موجزة وسريعة عن مدرسة الاستشراق الروسية، ثم توقفت مليًا عند الاستعراب السوفييتي منذ قيام الثورة الاشتراكية العظمى حتى الآن، ولاحظت أيضا أن كراتشكوفسكي كان أول عالم أوربي التفت إلى الأدب العربي الحديث، حيث وضع في عام /1909/ دراسة بعنوان «الرواية التاريخية في الأدب العربي المعاصر».

وذكرت أن أول ما صدر في العشرينيات بالروسية في مجال السرد هو «كتاب الاعتبار» للأمير الشامي أسامة بن منقذ (1095-1188) الذي عاصر الحروب الصليبية، وعن طريق هذا الكتاب أطلع القراء الروس لأول مرة على لوحة لذلك العصر مرسومة بلغة سلسة خالية من التكلف على لسان راوية عجوز هو الكاتب الفارس الصياد.

ثم ترجم كتاب «البخلاء» للجاحظ على يد بارانوف واضع أضخم وأفضل قاموس عربي ـ روسي وصدر كتاب ضخم لكريمسكي بعنوان «تاريخ الأدب العربي الجديد» والترجمة الكاملة لحكايات «ألف ليلة وليلة» باللغة الروسية عن الأصل العربي، ونقلها ميخائيل ساليه، الذي ترجم أيضًا «طوق الحمامة» لإبن حزم الأندلسي، و«عودة الروح» لتوفيق الحكيم (1935) وقبله بعام ترجم كراتشكوفسكي الكتاب الأول من «الأيام»

لطه حسين.

وبعد الحرب العالمية الثانية، وبفضل كلثوم عودة ـ فاسيليفا، وهي من أصل عربي فلسطيني، وتلاميذها، وترجمت عشرات المؤلفات العربية المعاصرة إلى اللغة الروسية، وخلال العقود الثلاثة الأخيرة ترجمت غالبية السير الشعبية العربية كسيرة عنترة وسيرة بن ذي يزن (ترجمة شدفار وفيلشتينسكي) و(سيرة الطاهر بيبرس) (ترجمة كيربيتسنكو)، ثم ترجمت الأعمال القصصية لأهم القصاصين العرب كنجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف السباعي وحنا مينه والظاهر وطار ويحيى يخلف والطيب صالح وتوفيق يوسف عواد وغائب طعمه فرمان وسواهم.

ووصل الاهتمام إلى ترجمة مئات الأعمال القصصية لموجات القصاصين الجدد في الأقطار العربية كافة، مع الإشارة إلى أن اهتمام الاستعراب السوفييتي حتى مطلع السبعينات كان منصبًا على الأدب العربي الحديث في مصر، إذ ترجمت باتساع أعمال رواد القصة العربية من مصر كالأخوين محمد ومحمود تيمور والأخوين عيسى وشحاته عبيد وطاهر لاشين، وأعمال القصاصين الجدد كيحيى الظاهر عبدالله وجمال الغيطاني وسليمان فياض وغيرهم.

وتبدي كيربيتشنكو تفسيرًا لهذا الاهتمام فترى أن الأدب العربي الحديث في مصر «يشغل مكانته في الطليعة بين البلدان العربية الأخرى والذي عادت عليه بأمجاد لا تذري مؤلفات أحمد شوقي وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس ودراسات الأدباء والنقاد الجادين المبدعين سلامة موسى ومحمد مندور ولويس عوض ومحمود أمين العالم وكثيرين غيرهم».

وتعلل الباحثة سر الإقبال على القصة العربية الحديثة في الاتحاد السوفييتي فتجد "تقاربًا بين الروح العربية والروح الروسية، ذلك التقارب الذي تحدث عنه محمود تيمور الذي أعجب بالأدب الروسي أشد إعجاب، ولعل السبب يكمن في روعة السرد العربي المتأني الذي يباغت القارئ بالتشبيه المدهش والمرادفات المبتكرة، أو لعله يكمن في مستلزمات الفن الحي هذه وفي كثير غيرها".

مثلما رأت إنسانية في هذا الأدب تعنى بمصير الثقافة الوطنية وتجسد بصدق مشكلات المجتمع والصراع بين الخير والشر وانتصار الخير في سبيل الإنسان.

لقد شارك عثمانوف الباحثة افتتاحيتها أما الثانية فقد شاركها أيضًا الكسندر كوديلين، وفيها تطرح أراءها بوضوح أكثر وجسارة أكبر ونكتفي هنا بعرض فكرة الباحثة عن : قومية الأدب العربي الحديث وتطوير القصة والرواية :

تتوقف الباحثة عند قومية الأدب العربي الحديث، وتؤكد وحدته وتماثله في القرون الوسطى، والسؤال الآن ـ برأيها ـ «عما إذا كان الأدب العربي سيكون بوسعه على مدى فترة تاريخية أخرى الحفاظ على وحدته المعززة بجامع اللغة والتراث والمصائر التاريخية أم أنه مستقبل شبيه بمصير ونصيب الآداب الرومانية التي خرجت عن الجذر اللاتيني المشترك والتي تطورت إلى آداب وطنية مستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض، مرتبط بالعدد العديد جدًا من العوامل غير الأدبية ومحاولات إعطاء رد وحيد المضمون عنه تبدو حاليًا غير مجدية».

لا شك في أن السؤال مطروح، وقد رهنت الإجابة عليه بجهود مشتركة للعلماء المستعربين في شتى بلدان العالم، على أن ثمة استقصاءات لبحوث التحديث إزاء قضايا الأدب العربي. ولا سيما قضية تطوير التقاليد الأدبية العربية في وحدتها وتجديدها معًا، تؤكد السيرورة الشاملة والجامعة وغير المنفصلة لوحدة تطور الأدب العربي وأجناسه، فليس هناك تطور قطري وحيد لجنس أدبي ما.

ولعل الباحثة وجدت إجابات عملية مباشرة لمثل السؤال في استمرار التقاليد الأدبية في ميدان الشعر والسرد كما في استلهام عناصر التراث في القصة والرواية، بشكل يعكس تطور التفكير التاريخي لدى خالقيه ومبدعيه من الكتاب المنتمين لأجيال شتى. وكان رأي باحث أخر هو ميكولسكي وردت مقالته «سبل تكوين النثر الروائي الفلسطيني: التقاليد والعصر» في الكتاب الثاني مؤيدًا لما ذكرته الباحثة في مقالتها «المؤثرات الأوربية في النثر المصري» إذ «يشغل التراث الكلاسيكي محلاً هامًا»0

ويدخل أميل حبيبي لدى استخدام الأساليب التأليفية التقليدية إلى نص الرواية شتى الوحدات التأليفية الأسلوبية، وتسهم المقتبسات المحولة من المؤلفين القدامى في خلق عبارات الرواية 
الحوارية الداخلية، وتلعب المقتبسات غير المحولة والعديد من وقائع التاريخ العربي والثقافة القديمة دورًا هامًا في نشر المحتوى وبسطه، ويمثل التراث الكلاسيكي بالذات ذلك العنصر يعين خاصيته الشاعرية في هذا النتاج»0

ويأتي اعتراف المستعربين السوفييت بأهمية استمرار التقاليد الأدبية العربية في السرد الحديث توكيدًا لاستمرار وحدة الأدب العربي من عصر لعصر، فتتناول مقالة فلشيتنسكي «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة للتنوخي كنموذج للحكاية العربية في القرون الوسطى» بشكل مختصر تاريخ فن القصة العربي والطابع الخاص للقصص التي جمعها التنوخي والقائمة على أساس تقاطع التقليد القصصي الشعبي مع تقليد القصة الأدبي لدى الفئات المثقفة.

وجاءت مقالة شيدفار «حول نشوء وأسلوب السيرة الشعبية العربية» إضاءة للقضايا المعقدة لمنشأ السيرة الشعبية كنوع أدبي بنيت فيها عناصر النزعة الأسطورية والفولكلور والأدب الديني وحللت خواص أسلوبها الذي كان عرضة لتأثير التقنية الملحمية للأداء الفني.

يستفاد من عرضنا السابق لموقف الاستعراب السوفييتي من قضية تطوير الأجناس الأدبية العربية الأمور التالية :

1- درس تطوير الأجناس الأدبية العربية الحديثة على أنها قضايا ذات أهمية في تاريخ الآداب القومية ترتبط بمضمون العملية الأدبية العالمية وحركتها في المرحلة الراهنة، وبمضمون العملية الفكرية والثقافية والنضالية لأمة من الأمم ولشعب من الشعوب، وفي هذا كله، تظهر عناية بحوث المستعربين السوفييت بقضية الأصول الأدبية واستمدادها في الأجناس الأدبية الحديثة : النظريات الفنية، الأشكال الفنية، المشكلات الجمالية والمعرفية في رؤية العالم. فدرست الحكايات والسير وبعض أشكال السرد الأخرى، ودرس الثراء الهائل للأدب الشعبي السردي، وجرى تمحيص عناصر القص الباقية فيها.

2- العناية بقضية المؤثرات الأجنبية، وبقيمتها الموضوعية ضمن أطرها التاريخية بالنظر إلى دور التراث الثقافي باعتباره من أهم العناصر المكونة للنظام الفني العربي الحديث، وتكشف أبحاث فرولوفا ودولينينا حول الشعبية والتقاليد والاتجاهات الفنية، عن خصوصية التطور الأدبي للأجناس الأدبية الحديثة، فالرومانسية العربية تتميز بخصائصها الذاتية في شتى مراحل التطور عن الرومانسية الأوربية، ويؤيد هذا التقارب النمطي، أو وحدة التطور «للعديد من الظواهر والعمليات التي يستدعيها تشابه الظروف الاجتماعية والتاريخية في البلدان التي تحررت مؤخرًا من التبعية الاستعمارية والتي تملك تراثًا ثقافيًا ضخمًا ممتد الجذور إلى أعماق الزمن السحيق» 0

3- العناية بتكوين الأجناس الأدبية الحديثة ضمن مهادها التاريخي وعملية التطور الأدبي العربي العام كما في البحوث المتعددة حول قضايا تطور القصة العربية الحديثة على سبيل المثال. ونستكمل عرضنا لموقف الاستعراب السوفيتي من قضية تطوير الأجناس الأدبية العربية الحديثة من خلال مقالات دولينيا وهي :

1- «حديث عيسى بن هشام» خطوة من المقامات إلى الرواية.

2- «عند منابع الرومانسية العربية».

3- تحقيق الأصول في موضوعات مقامات الحريري وتأليفها.

4- فرح أنطون وروايته الأخلاقية «الوحش، الوحش، الوحش» 0

نشير إلى أن دولينيا دكتورة في اللغات والآداب، وأستاذة في جامعة ليننغراد، وإخصائية في دراسة الأدب العربي الحديث، والصلات الأدبية الروسية العربية، وهي مديرة القسم العربي في مكتبة ليننغراد الشرقية، ولها دراسات عديدة عن الأدب العربي الحديث.

تحلل دولينيا في مقالتها الأولى مواءمة التركيب الفني للمقامات بين العنصرين الفلسفي الوعظي والفني، وتطرح مسألة استخدام المويلحي لتقاليد المقامات الكلاسيكية إلى جانب تقاليد القصة الغربية، وتكشف عن الجوانب الإيجابية في كتابه وطابعه التنويري وسخريته الإنتقادية من النزعة المحافظة والتقليد الأعمى، وتشير في الوقت نفسه إلى محدودية استخدام أسلوب المقامات للتعبير عن أغراض العصر.

ترى الباحثة المستعربة دولينينا أن كتاب المويلحي ظاهرة هامة في تطور الأدب العربي الحديث، لأنه أول بادرة للأدب الواقعي الجديد، وأول أثر أدبي كبير لكاتب مصري اجتمع فيه العنصر الفني عفويًا مع العنصر الفلسفي والاجتماعي، وهذا ما يميز أدب عصر التنوير.

وتقول لدى عرض محتوى الكتاب وخصائصه الثقافية والفنية :

«ونحن لا نريد أن نلصق من كل بد النعوت «بحديث عيسى بن هشام» فيما يتعلق بالنوع الأدبي الذي ينتمي إليه، ولكننا نرى من الضروري أن نكف فيه بوضوح أكبر عن العناصر التقليدية التي تربطه بالمقامات وعن السمات الجديدة التي جعلت باحثين كثيرين يعتبرونه رواية، وسنحاول في الوقت ذاته تبيان السبب الذي حال دون تطور الرواية الواقعية المصرية في طريق تكييف المقامات للمضامين الجديدة» 0

إن الباحثة على حق في رأيها الختامي، فقد دل نجاح «حديث عيسى بن هشام» على الصعيد الأدبي العام في تلك الفترة ليس على إمكانيات استخدام المقامة للأغراض العصرية بقدر ما دل على محدودية هذه الإمكانيات، وهذه هي المشكلة بين إعادة المقامات والاستفادة منها في السرد العربي الحديث، ولنا أن نشير إلى أن المقامات صارت فيما تلا من مراحل إلى عنصر في السرد لدى قصاصين كثر فيما بعد كإميل حبيبي مثلاً، وإن لم يضعها قصاصون كثر جانبًا حتى وقتنا الحاضر كالعجيلي وحسيب كيالي مثلاً.

أما المقالة الثانية «عند منابع الرومانسية العربية» فقد كتبت بمناسبة صدور كتاب في عام (1981) يضم ترجمة نماذج من النثر الرومانسي العربي، ومثل فيه إبداع الرومانسيين العربي المرموقين أمثال المنفلوطي وجبران خليل جبران ومي زيادة وغيرهم:

تنظر دولينيا إلى الرومانسية العربية باعتبارها اتجاهًا أدبيًا مقترنًا بالرومانسية الأوربية والأمريكية ولكنه تطور في فترة زمنية أكثر تأخرًا عنهما وكشف عن صلة أكثر قربًا مع التنويرية مما تجلى في الآداب الأوربية وتلاحظ أيضا العناصر الواقعية في المؤلفات النثرية للرومانسيين العرب ومنهم مثلاً أمين الريحاني وميخائيل نعيمة لتؤكد أيضًا ميوعة الحدود ما بين الرومانسية والواقعية الأمر الذي يتطابق مع ملاحظات باحثي آداب الشرق الأخرى الذين يلاحظون التغلغل المتبادل كالحلول والتنافذ بينها، وكذلك «الاختلاط» و«التمازج» فيها لشتى مراحل التطور، وهي أكثر انسيابية من حيث الزمن منها في الآداب الأوربية.

وتؤكد الباحثة أن الفترة الرومانسية في تأريخ الأدب العربي هي الأكثر سطوعًا وخصوبة «وقد وقع في نصيب الرومانسيين بالذات القضاء المبرم نهائيًا وتمامًا على التقاليد البالية وبتجديد الطرائق المألوفة للأسلوب الكلاسيكي في سبيل الحفاظ على ثراء اللغة العربية الأدبية وجمالها، وما تزال، كما في السابق، قريبة إلى نفوس القراء العرب، أفكار الرومانسيين الوطنية وعنايتهم بتسليط الضوء على العالم الداخلي لنفس أي إنسان كان بصرف النظر عن انتمائه الطبقي، ولهذا لم يتقادم العهد لحد الآن على الدموع الحرار في عبرات المنفلوطي، ولا على الاندفاعات العاطفية في كتابات "جبران خليل جبران". إن هذا التوكيد حول أهمية الرومانسية العربية، وخصوصية نشأتها وتطورها خصائصها في تأريخ الأدب العربي الحديث يكشف عن مكانتها الكبيرة في التحديث وفي التأصيل معًا، تحديث الأساليب الأدبية وتأصيل ظواهر تأليفية وفنية كثيرة كالتمسك باللغة العربية والاعتزاز بالتراث القومي وتعميق وظيفة الأدب الاجتماعية، وهذا كله رسخته الرومانسية العربية في منبعها وتطورها فيما بعد.

على أن بحث دولينينا «تحقيق الأصول في موضوعات مقامات الحريري وتأليفها» يكشف أيضًا عن جوهر فكرة هذه المستعربة في بحث الأجناس الأدبية وإمكانيات الاستفادة من تقاليدها، فهي ترى أن هذه المقامات من نوع «الفن الذي يؤمن مواصلة تطور الأدب القصصي العربي، وتتضمن المقامات انتقادات للعالم المعاصر للمؤلف، فالسخرية من حماقة السذج الذين يخدعهم أبو زيد، وهو تحقيق للمبدأ «الهزلي» السائد في علم الجمال العربي في القرون الوسطى، يحدد الوظيفة التربوية للمقامات إلى جانب النصائح التي ترد على لسان الأبطال» 0

تدرس الباحثة صنفين من الموضوعات في مقامات الحريري هما موضوعات النصب والاحتيال (في 35 من 50 مقامة) وموضوعات البلاغة (في 15 المقامة الباقية)، وتشير إلى أن هذا التقسيم شرطي بدرجة معينة لأن العنصر البلاغي متوفر في جميع المقامات الخمسين، ففي كل واحدة منها تكون الذروة عبارة عن حديث البطل الرئيس المنمق بغزارة نثرًا وشعرًا.

وتظهر الدراسة الإحصائية للمقامات أن بلاغيتها تتميز بأصناف إنشاء، أكثر بساطة وكأنما تعوض بساطتها بحذاقة التعبير الكلامي عن الفكرة، وفي الوقت ذاته فإن مقامات الخداع التي لا تتميز غالبيتها بتعقد اللغة أميل إلى البناء الموضوعي والإنشائي الأكثر تعقيدًا.

وتصل الباحثة إلى القول: إن معطيات بحثها لا تدعم البتة الرأي القائل أن الشيء الأساسي في المقامات هو سعي المؤلف إلى إظهار مهارته الكلامية.

أنها تدل في الأرجح على عدم وحدانية وظيفة الفن المقامي في الأدب العربي للقرون الوسطى، وغني عن البيان أن الموضوع ومغامرات البطل وتأملاته وردود أفعاله على العالم المحيط به تشغل الحيز الأكبر من مقامات الحريري حول النصب والاحتيال.

وتختتم دولينينا بحثها لمقامات الحريري «بأنها ثمرة عصرها الذي كان يتميز بالإعجاب بالعقل البشري وبالكلمة القادرة على التعبير عن أدق خلجات الفكرة وأكثرها تنوعًا، حقًا أن السعي إلى تزويق الأسلوب يتحول أحيانًا إلى هدف بحد ذاته، بيد أن هذه ليست الوظيفة الوحيدة والرئيسة للمقامة كفن أبدًا كما تظهر ذلك الأرقام»0

أما مقالتها «فرح أنطون وروايته الأخلاقية: الوحش، الوحش، الوحش» فتفصح على نحو عميق إيمان المستعربة دولينينا بخصوصية تطور القصة العربية من خلال تطور الفكر التنويري العربي، أي فكر النهضة بالمصطلح السائد في الكتابات العربية، إذ تصرح في مطلع مقالتها الأنفة الذكر أن الرواية والقصة القصيرة نهضتا في الأدب العربي في تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين من جانب الانجذاب إلى أفكار «التحديث» الإسلامي وبعث التقاليد التراثية «المويلحي وحافظ إبراهيم وغيرهما» ومن جانب أخر هو التوجه نحو أفكار التنوير الأوربية واستيعاب الأساليب الأدبية الأوربية (جرجي زيدان وفرح أنطون ويعقوب صروف وغيرهم) 0

ورأت أن تأثير الفكر الأوربي الأدبي قد تجلى بشكل ساطع في أدب فرح أنطون (1874-1923) الذي يمثل حسب أقوال كراتشكوفسكي طراز الفيلسوف العربي الحديث، مع الاهتمام الغالب بقضايا دينية – فلسفية أكثر منها اجتماعية – اقتصادية ، ويفسر هذا تمسك فرح أنطون، شأنه شأن المتنورين (النهضويين) العرب جميعًا من معاصريه، بوجهات النظر المثالية حول دور التنوير، معتبرًا أن إصلاح المجتمع يكون عبر ترقية الشخصية الإنسانية، ومن هنا ينبع اهتمامه الخاص بالدور التربوي للأدب، وبالأخص وظيفته الأساسية التي تتمثل، حسب رأي فرح أنطون بفضح العيوب وتعليم الناس، بينما يضع القيمة الفنية في المرتبة الثانية.

المصدر: https://iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticle&ArticleID=823&SearchSt...

 

(2)

 

ثم تخلص دولينينا إلى أن لا ضرورة لدراسة هذه الرواية وفق قوانين تحليل الأعمال الفنية وحدها، فالجانب الوعظي أو الوعظي ـ الإدراكي يضطلع بدور هام جدًا في الرواية التأريخية لفترة النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (سليم البستاني وجميل مدور وجرجي زيدان) وفي الروايات ـ المقامات (المويلحي وحافظ إبراهيم) وتعلل هذا التأثير باستمرار تقاليد الأدب التهذيبي الفنية جدًا لدى العرب.

ومن وجهة النظر هذه يمكن أن نصف الرواية النهضوية العربية بأدب القرن التاسع عشر والحق، إن هذه الاستنتاجات تتناسب مع الظروف التي أحاطت بنشأة الرواية نحو التوكيد على وظيفة القصة والرواية بالدرجة الأولى، لقد استخدمت على الدوام العناصر الفنية وطوعت لصالح الوظيفة التعليمية والتربوية بالدرجة الأولى.

إن استعراضنا لموقف المستعربتين دولينينا وكيربيتشنكو من قضية تطوير الأجناس الأدبية الحديثة ولا سيما القصة والرواية، يعكس التعمق الأمين لفهم التطور التاريخي الثقافي والاجتماعي الذي نظر المستعربون السوفييت إلى تطور الأدب العربي الحديث من خلاله، وهذه الأمانة العلمية النقدية في فهم تاريخ الأدب العربي الحديث هي في أساس الفائدة المعرفية والإنسانية للتقاليد الأدبية العربية التي حاول الاستعراب السوفييتي أن يسهم في الكشف عنها وتثميرها لصالح البحث في التطور القومي للأدب العربي الحديث، ووحدة العملية الأدبية العربية المستمرة مستندا إلى إنجازات الأدب العالمي وثراء الإبداع الخلاق الذي يطوره القصاصون والروائيون العرب من مرحلة لأخرى.



3- نجيب محفوظ في مرايا الاستشراق السوفييتي:

حسنًا فعل القاص والناقد أحمد الخميسي بإصداره كتاب «نجيب محفوظ في مرايا الاستشراق السوفييتي»(12) وهو المقيم في موسكو منذ قرابة ثلاثة عقود من الزمن. فمثل هذه الدراسة تحقق، فيما تحققه، أمرين معرفة مكانة الثقافة والرواية العربية في عيون الخارج، وصورة واضحة لما بلغه المستشرقون من إحاطة وعمق، وهو ما لاحظه الخميسي في حالة الاستعراب السوفييتي الذي رسخ تقاليده متميزًا عن حالات استشراق أو استعراب أخرى. ويهتم الكتاب بمكانة نجيب محفوظ، كأبرز روائي عربي في الاستعراب السوفييتي ومكانة الأدب العربي بعد ذلك.

يتناول هذا الكتاب ما كتب عن نجيب محفوظ في الاتحاد السوفييتي قبل فوزه بجائزة نوبل وبعده: دراسات المستشرقين وردود أفعال الصحافة وما اشتملت عليه الموسوعات الكبرى حول أديبنا ومقدمات ما ترجم من رواياته ورسائل الدكتوراه التي أعدها المستشرقون عن العالم الروائي لكاتبنا الكبير.

ويشتمل الكتاب على مجموعة مختارة من المقالات التي كتبها المستشرقون السوفييت أو عن أعماله ولا يجمعها في الأصل كتاب واحد، وهناك كتب كثيرة تتناول مختلف نواحي الأدب العربي الحديث بالدراسة والتحليل، وتتعرض كل تلك الكتب بدرجة أو بأخرى لما كتبه نجيب محفوظ وأثره الفكري والأدبي، ولكن الخميسي اختار المقالات المكرسة لأديبنا الكبير وحده، ومن هذه الدراسات ما كتبته «فالنتينا تشير نوفسكايا» تحت عنوان «الأنتلجنسيا المصرية في رواية «المرايا» وهي قراءة خاصة وممتعة لرواية «المرايا» والدراسة مأخوذة من كتاب لهذه المؤلفة بعنوان «تكوّن الأنتلجنسيا المصرية» (صدر عام 1979 بموسكو عن دار نشر العلم).

وهناك بحث مطول يتألف من عدة مقالات للمستعربة المعروفة «فاليريا كير بتشنكو» بعنوان «البحث عن الطريق: دراسة في روايات نجيب محفوظ القصيرة»، وأخذت الدراسة من كتاب صدر في موسكو عام 1978 للمؤلفة بعنوان «الأدب المصري في الستينيات والسبعينيات» عن دار نشر «العلم» أيضًا.

ويضم الكتاب عرضًا وافيًا لرسائل الدكتوراه التي أعدها المستشرقون في أدب نجيب محفوظ ونالوا عنها درجة الدكتوراه، وهي خمس رسائل:

- الأولى: «الثلاثية إبداع الواقعية النقدية» للمستشرق الروسي «روشين» عام 1967.

- الثانية: «الروايات الاجتماعية الأولى لنجيب محفوظ» «للسيدة كاش محمد وفا» عام 1970.

- الثالثة: «قضية البطل في روايات نجيب محفوظ» «للسيدة أ. ج. ناد» عام 1971.

- الرابعة: هي رسالة السيدة «لوتس بوراجيفا» وعنوانها «الروايات التاريخية في أدب نجيب محفوظ» عام 1986.

- أما الخامسة والأخيرة: فهي «تنامي النزعة المعادية للبرجوازية في أدب نجيب محفوظ» للسيد علي زاده زاردوشت عام 1986.

ويشير الخميسي إلى أن ثمة رسائل دكتوراه أخرى كتبها الباحثون العرب في جامعات الاتحاد السوفييتي ومعاهده، ولكنه تجاهلها لوقوعها خارج نطاق الاستشراق.

وفي عرض الخميسي مقدمته الطويلة لكتابه للمقدمات المكتوبة لروايات نجيب محفوظ بالروسية، وهي مقدمات أشبه بالدراسات النقدية تتوخى عرض جوانب من تاريخ مصر الحديثة وتاريخ الثقافة فيها ودور كاتبنا فيها، وتشتمل إحدى تلك المقدمات على 
حوار أجراه «أناتولي أجاريشيف» مع نجيب محفوظ، ولم ينشر إلا بالروسية.

ومن ثم فإن هذا الكتاب، كما يعترف الخميسي نوع من التجميع والترجمة والعرض وكان يود لو أسبقه بمقدمة مطولة عن تاريخ علم الاستشراق السوفييتي، ولكنه أرجأ هذه المحاولة لوقت آخر لئلا يعطل هذا الكتاب عن الصدور طويلاً.

وأثار الخميسي في مقدمته حول جائزة نوبل الأسئلة التالية:

* أولاً: هل يستحق محفوظ الجائزة بالفعل؟

* ثانيًا: هل منحته الأكاديمية السويدية الجائزة لموقفه السياسي من «كامب ديفيد» وتأييده لها؟

* ثالثًا: الانطلاقة من موقف نجيب محفوظ السياسي للقول بأنه أديب رجعي يدفع للتساؤل: هل تنسخ مواقف الأديب السياسية قيمة أعماله الأدبية؟ وفي صياغة أخرى هل يمكن للأديب أن يكون رجعيًا وتقدميًا في آن واحد؟

ثم نقل هذه الأسئلة المنهجية إلى صياغتها على النحو التالي:

* أولاً: هل لدينا أدباء عرب يستحقون الجائزة؟

* ثانيًا: هل جائزة نوبل تتويج من الغرب لمن يرضى عنهم من الكتاب والأدباء؟

* ثالثًا: ما علاقة الأدب بالجانب الإيديولوجي السياسي؟

والنتيجة هي أنها أسئلة عامة وجدت في حالة نجيب محفوظ وسطًا ملائمًا للانتعاش والحركة. وخلص الخميسي بعد تمحيصه لإجاباته عن هذه الأسئلة إلى ما يلي:

وأيًا كانت الفلسفة التي يعتنقها نجيب محفوظ وآراؤه عن طرق حل الصراع العربي الإسرائيلي، فإنها لن تمس ما قدمته عبقرية العين الموضوعية للفنان الكبير من نماذج فنية واقعية ومن تصوير للحالة الفكرية للمثقفين على مدى نصف قرن، ولن تمس دوره، وهو دور كبير، فقد أرسى نجيب محفوظ دعائم الرواية العربية الحديثة، وأغناها بنوع لم تكن تعرفه وهو «الرواية الملحمية» وأقام أشكالها المختلفة فكتب الرواية التاريخية والاجتماعية والفلسفية والنفسية، وبلغ بمنهجه الواقعي ذرى لم يعرفها الأدب العربي من قبل، وجمّل لغتنا، ودافع عن النظرة الموضوعية للعالم، والرؤية العقلانية والديمقراطية، وعكس على مدى نصف قرن انكسارات الانعطافات الاجتماعية في وعي المثقفين العرب في مصر.

ووجد الخميسي من هذا التقويم لمكانة نجيب محفوظ تسويغه للاهتمام الكبير لأديبنا في المجتمع السوفييتي. وإن الطغيان الإيديولوجي أو النظري في فهم الأدب هو الغالب على دراسات المستعربين السوفييت، ولكن رياح التغييرات تظهر جلية في دراسة «كيريتشنكو» الصادرة عام 1987 ويكشف هذا المقطع عن أسلوبها كله وعن مدى الانفتاح والعمق الذي صارت إليه دراسات المستعربين السوفييت:

«لقد استطاع نجيب محفوظ في حدود رؤيته الفكرية والفلسفية للمجتمع والإنسان والعالم أن يطرح في نماذج رائعة العديد من القضايا الإيديولوجية التي أضنت الأنتلجنسيا المصرية، وأن يقدم الحلول الجزئية لتلك القضايا، كما خاض جدلاً فكريًا حادًا مع الفكر الإسلامي السلفي، الداعي إلى التواكلية، والقائل بأن الإنسان مسير في حياته، وخاض أيضًا جدلاً فنيًا وفكريًا مع القائلين بأن الوجود عبث، وقام في رواياته بعملية مسح اجتماعي فني للواقع المصري، قلما يستطيع أديب أن ينهض بها، ومن هذه الزاوية فإنه يذكرنا بالعمالقة الكبار: ديكنز وبلزاك».

لقد عومل نجيب محفوظ في المجتمع السوفييتي منذ بداءة الاهتمام به في الستينيات على أنه أحد ممثلي الواقعية النقدية الكبار في عالمنا المعاصر، ودخل اسمه مع أهم الشخصيات الأدبية والسياسية في العالم في أكبر موسوعتين سوفييتيتين قبل فوزه بجائزة نوبل بزمن طويل.

ويشير ثبت المترجم من رواياته إلى تعزيز هذا التقدير، إذ ترجمت روايات نجيب محفوظ إلى أغلب لغات الدول الاشتراكية، وترجمت إلى الروسية رواياته التالية: «اللص والكلاب» عام (1964) و«السمان والخريف» (1965) و«حب تحت المطر» (1975) و«ميرامار» (1975) و«المرايا» (1979)... وغيرها.

قررت دار «رادوجا» للأدب الأجنبي بعد فوزه بجائزة نوبل أن تصدر كتابًا يضم مختارات من رواياته بالإضافة إلى ترجمة رواياته الكبرى «أولاد حارتنا» التي ما زالت ممنوعة في مصر.

أما مقدمات رواياته المترجمة إلى الروسية فتحصر في مقدمتين:

* الأولى: كتبها «ستيانوف» عام 1975 لكتاب جمع ترجمة «ميرامار» و«حب تحت المطر».

* والثانية: كتبها «أجاريشيف» عام 1979 لترجمة «المرايا»، وتشتمل على 
حوار مع محفوظ لم ينشر إلا بالروسية.

وما عدا ذلك فإن «اللص والكلاب» الصادرة عام 1964 سبقتها مقدمة مطولة للشاعر الراحل جيلي عبد الرحمن (السودان)، وهو من أهم الشعراء العرب ومقيم في موسكو آنذاك أي أنها بقلم عربي، فلا تدخل في الاستشراق.

ومن الملاحظات الذكية في هذه المقدمات، ما كتبه أجاريشيف:

«من ناحية أخرى، فإننا نرى في «المرايا» تقاليد كتب الأخبار العربية القديمة وهي كتب كانت تجمع سير حياة الناس والشخصيات الهامة، مثال ذلك كتاب أبي حيان التوحيدي (القرن الحادي عشر) الذي جمع فيه ذكرياته لمن عاصره من الشعراء والمفكرين الذين عرفهم. وفي كتاب أبي حيان ـ كما في مرايا محفوظ ـ عرض للمشكلات والقضايا الهامة الفلسفية والفكرية والسياسية للعصر، وبينما يخفي نجيب محفوظ وجوه أبطاله الحقيقية بأقنعة فنية فإن أبا حيان يتحدث عنهم بأسمائهم الحقيقية وتواريخ حياتهم الفعلية».

وتوقفت «تشيرنوفسكايا»عند رواية «المرايا» نفسها مليًا في كتابها «تكون الأنتجلنسيا المصرية» الصادر عام 1979، وتقول بعد تحليلها المعمق للرواية:

ونلاحظ في ذلك المجال، أن أبطال نجيب محفوظ التقدميين جميعًا هم مفكرون يعقدون آمالهم على حيوية الدوائر المثقفة في العاصمة: الطلبة أساسًا ثم الموظفين، ولكنهم لا يعقدون آمالهم على الجماهير الشعبية، ولهذا يقتصر نشاطهم السياسي على الحقات المعزولة والمنظمات السرية المعزولة. ولعزلتهم عن الجماهير فإنهم يرتكبون ويضطربون عشية الثورة عام 1952.

من الواضح أن الاستعراب السوفييتي قد وجه جهده الأساسي لنقد فكر نجيب محفوظ وتجلياته الاجتماعية اتفاقًا مع التطبيق الماركسي اللينيني للأدب والفن، متجاهلاً إلى حدّ ما التفكير الأدبي بالتقنية والصنعة والتركيب الفني، ولا ترد مثل هذه الاهتمامات النقدية إلا في السنوات العشر الأخيرة. أما الدراسات المقارنة حول أدب نجيب محفوظ، فالإشارات إليها أقل.

إن عنوانات ما كتب عن محفوظ تعكس بوضوح هذا النزوع إلى دراسة موضوع روايات نجيب محفوظ بالدرجة الأولى، وثمة ملاحظة أخيرة، هي أنه لا يوجد كتاب شامل عن مسيرة نجيب محفوظ الأدبية والروائية كما يكشف عن ذلك كتاب الخميسي.

إن كتاب الخميسي «نجيب محفوظ في مرآة الاستشراق السوفييتي» تعبير بالغ الدلالة عن الشأو الذي بلغه الاستعراب السوفييتي في تعزيز 
حوار الثقافات بروح الأصالة واحترام العربي على أنه وثيقة حية عن الإبداع العربي في هذا الزمن في عيون الآخرين.



4- الأدب الجزائري في مرآة الاستشراق الروسي:

وننظر في نموذج آخر هو «الأدب الجزائري في مرآة استشراقية روسية»(13)، فقد جمع عبد العزيز بوباكير من مصادر مختلفة مقالات لمستشرقين روس عن الروائيين والقصاصين مولود فرعون ومولود معمري ومالك حداد ومحمد ديب وكاتب ياسين والطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة ورشيد بوجدرة، ثم ترجمها، وقدم لها وأرفقها بقائمة أعمال هؤلاء الكتّاب، وهم من أبرز الكتّاب الجزائريين المعاصرين. ويثير الكتاب الجدل حول تحول الاستشراق الروسي في راهنيته أيضًا إلى تنمية 
الحوار الحضاري من خلال عنايته بقضية تطوير الأجناس الأدبية والقيم الوطنية في الوقت نفسه، وفي مقدمتها قيم الحرية والدفاع عن الوطن وإرادة الاستقلال.

عُرفت الإبداعات الثقافية والفكرية الجزائرية في روسيا على نحو مبكر بفضل حركة الترجمة والبحث، وصدر كتاب «ثقافة الجزائر المعاصرة» عام 1961، مما مهّد لتنامي اهتمام النقد الروسي بالأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية لغلبته على المكتوب بالعربية، ثم توسع الاهتمام إلى الأدب المكتوب بالعربية منذ أواخر ستينيات القرن العشرين إلى اليوم. وعدّ الناقد والباحث فيكتور بالاشوف أول من التفت في روسيا إلى الأدب الجزائري، وأول من وجّه أنظار كوكبة من الباحثين والطلبة نحو هذا الأدب، وكتب عدة مقالات عن أعمال الكتّاب الجزائريين مثل مالك حداد ومولود فرعون، ودخل الأدب الجزائري بفضله «الموسوعة الأدبية الموجزة» عام 1962.

وشرع المستشرقون الروس بنشر أبحاثهم عن الأدب الجزائري وتطوره واتجاهاته الإيديولوجية وخصائصه الجمالية ـ الفنية، وإن غلب على هذه الأبحاث النظر إلى الأدب الجزائري مستقلاً بذاته أو ضمن بحوث متعلقة بتطور الأدب في منطقة المغرب العربي، أو جزءًا من السيرورة الأدبية في القارة الأفريقية.

وأسس لهذه الدراسة الشاملة للأدب الجزائري في روسيا المستشرقات: ايرينا نيكيفوروفا وسفيتلانا وبراجوكينا وغالينا جوغا شفيلي (حفيدة ستالين). وقد وضعت الأولى كتبها «الرواية الجزائرية المعاصرة» (1967) و«أدب النهضة الوطنية» (1968) و«الرواية الأفريقية» ومنها الرواية في المغرب وتونس والجزائر (1977).

وسجلت الباحثة ملامح الفن الروائي الجزائري وخصوصياته عند مبدعيه، مثل محمد ديب وتعبيره في روايته «من يذكر البحر» عن رؤية جديدة للعالم وطريقة جديدة للكتابة، ورأت في إبداع مالك حداد «طفرة جديدة في الرواية الواقعية الجزائرية». وذكرت القليل عن الرواية العربية في الجزائر، وعدّت رواية «ريح الجنوب» لابن هدوقة رواية تنويرية.

وكانت براجوكينا الأكثر عناية بالأدب المغاربي ولا سيما الجزائري في كتبها: «أدب بلدان المغرب المكتوب بالفرنسية» (1973) و«بلدان المغرب: الكتاب المعبرون بالفرنسية في الستينيات والسبعينيات» (1980) و«حدود الثقافات ـ حدود العصور» (1984) (14) ، وترجم بوباكير العنوان: «تخوم عصرين ـ تخوم ثقافتين»، والكتاب الأخير هو الأهم لانطلاقته من تقدير الأدب الوطني الجزائري ومكانته الفنية العالية في 
الحوار الحضاري، فقد «اهتمت هذه الباحثة بإجلاء مواقف الكتّاب وعقائدهم الجمالية. وحللت في الأجزاء الخاصة بالأدب الجزائري مؤلفات رشيد بوجدرة ونبيل فارس، مبرزة الخصوصيات المميزة لتطور الأدب، وكاشفة عن اشتراكه من الناحية التصنيفية بالسيرورة العامة لتطور الأدب العالمي. ولا يفوتنا هنا التنويه بأهمية كتابها الثالث: «تخوم عصرين ـ تخوم ثقافتين» الذي صدر عام 1984. فهذا الكتاب يحمل طابعًا تعميميًا، ويمثل عصارة اهتمام الباحثة بتطور الأدب المعبر بالفرنسية في منطقة المغرب العربي، وهو يحمل نظرة جديدة مستندة إلى معلومات استعملت لأول مرة في نظرية الأدب في روسيا لإبراز خصوصية تصنيف الأدب في منطقة متجانسة تاريخيًا وحضاريًا، هي منطقة المغرب العربي. وأولت الباحثة اهتمامًا خاصًا لمراحل تشكل الثقافة الوطنية في أحشاء المجتمع الاستعماري، وفي مرحلة الكفاح المناهض للاستعمار، وتطور السيرورة الأدبية بعد نيل الاستقلال. كما درست سفيطلانا براجوغينا في هذا الكتاب مغزى توجه الأدباء في الجزائر وتونس والمغرب إلى نموذج السيرة الذاتية في الرواية، و ارتباط بحوثهم الفنية بتطور الوعي الوطني وبالتحولات الاجتماعية. وأفردت قسمًا هامًا من كتابها لبحث مفهوم الهوية في إبداع الكتاب المغاربة، وطرق حلهم «لصدام» الشرق والغرب و«لقاء» الحضارات» (ص7).

وخلصت براجوكينا إلى النتائج التالية:

- استقرار العلاقات التصنيفية رغم تنوع الأشكال بسبب استعمال لغة واحدة (الفرنسية) وتشابه إيديولوجية الكتاب.

- مقارنة الظواهر الجمالية المشتركة تدل على تشابه تطور نوع رواية السيرة الذاتية في النثر المغاربي.

- تميز تطور المنهج الأدبي بنوع من «التركيبية» نتيجة لاستيعاب التيارات والاتجاهات المختلفة في الأدب العالمي.

- إخضاع عناصر الفلكلور الوطني إلى مبادئ الأدلجة» (ص8).

وعنيت جوغاشفيلي بالأدب الجزائري في مؤلفاتها «السحري والواقع في الرواية الجزائرية المعاصرة» (1975) و«الرواية الجزائرية ذات التعبير الفرنسي» (1976) و«أصول الرواية الجزائرية ذات التعبير الفرنسي» (1980) و«أدب الجزائر» (1980)، واهتمت في مؤلفاتها بجمالية الرواية الفرنسية وبمشكلة الهوية الوطنية في أعمال الروائيين الجزائريين، وقسمت تطور الأدب الجزائري إلى ثلاث مراحل: قبل الحرب، أثناء الحرب، بعد الحرب، ووضعت خصائص كل مرحلة من حيث الشكل والمضمون.

وأجمل بوباكير آراء النقاد الروس في الأدب الجزائري فيما يلي:

- عدم التفريق بين الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية والأدب الجزائري المعبر بالعربية، واعتبارهما فرعين من ظاهرة واحدة رغم اختلاف اللغة والوسائل الفنية.

- اعتبار الأدب الجزائري بفرعيه (العربي والفرنكوفوني) إسهامًا رفيعًا في كفاح الشعب الجزائري من أجل الاستقلال وبناء مجتمع جديد.

- مفهوم الأدب الجزائري لا يضم أعمال الكتّاب ذوي الأصل الفرنسي أو أدب «المتجزئرين» (كامو، بليغري، روا، أوديزيو، روبلس وآخرون)... رغم اعتبار هؤلاء الجزائر موطنًا لهم وموضوع إلهامهم.

- إن المظاهر «الخارجية» للأدب الجزائري المعبر بالفرنسية وتشابهه الشكلي مع الأدب الغربي لا ينزع عنه مسألة تعبيره عن القضايا الوطنية وأدائه للمهمة التاريخية المتمثلة في تحوله إلى صوت للشعب الجزائري أثناء نضاله المناهض للاستعمار.

- وجود فرعين لأدب واحد (بالعربية وبالفرنسية) يدل على وجود أصناف مختلفة للوعي الاجتماعي.

ما زالت البحوث الروسية في الأدب الجزائري مستمرة إلى يومنا هذا. وقد اتخذت في الآونة الأخيرة طابع التخصص والتعمق أكثر في مسائل جوهرية في سيرورة تطور هذا الأدب مثل: التناسب بين التقليد والتجديد والتأريخ لهذا الأدب، ودراسته من الناحية التصنيفية، ومقارنته بآداب أخرى (الآداب المغاربية والإفريقية)، وتحليله كأدب موجه للنخبة وأدب موجه للجماهير. كما بدأت تظهر المحاولات الأولى لوضع تاريخ عام للأدب الجزائري.

وتبدو هذه الآراء جلية لدى استعراض الدراسات حول هؤلاء الروائيين والقصاصين المميزين فذكرت براجوكينا في دراستها عن مولود فرعون أن العبرة من مصيره هي «درس مواطن وممثل أمة، أدرك في وقت حاسم من تاريخها أن واجب الكاتب وواجب المواطن هما كل لا يتجزأ. وانتقل في هذا الظرف بالذات إلى خط النار، لأن الحد لم يعد يعني، بالنسبة إليه، التقاء عالمين وإمكانية توحيدهما بخط الخير والأخوة، لكنه اكتسى مغزاه الأصلي: تخوم عالمين، أحدهما كان عالم المستعمرين، والآخر عالم معذبي الأرض. وبقدر ما كان صعبًا على الكاتب القيام بهذا الاختيار، وبقدر ما كان طريق الثورة أبعد وأعقد، بالنسبة إليه، بقدر ما يُرى، بشكل مقنع، بالنسبة للمعاصرين، هذا الدرس في الشجاعة الوطنية» (ص35).

ووجدت نيكيفوروفا في أدب محمد ديب خلقًا أسطوريًا على مثال «الغيرنيقا»: «كَتَورية من أجل تسمية الأشياء التي ليس لها أسماء دقيقة»، وكمضمون ما يستند إلى اللاوعي الجمعي، ويصبح ملكية لقابلية التأثر الجماعية الحادة بعد أن يصيغه الفنان بطريقة ملائمة. ومع ذلك، فإن محمد ديب لم يستعر ذلك الإحساس بالمأزق المسيطر على روايته، والذي صاغه الفنان طبقًا للمبادئ العامة للمنهج العقلاني في الخلق الأسطوري، من المنبع الجماعي، بل هو نتيجة للميزات الخاصة للمؤلف، التي برزت في بواكير كتبه. ويتضح أن التحام الكاتب بالمنطلق الجماعي وهم، رغم سعي محمد ديب إلى الاحتكاك به على امتداد دربه الإبداعي. ذلك أن المؤلف يبتعد عنه حينما يعتقد أنه قريب منه» (ص43).

وحللت جوغاشفيلي الجانب الرمزي في رواية «نجمة» لكاتب ياسين، وكشفت بنيتها العميقة:

«الجانب الأول مادي، ويخص تقاليد المقاومة عند كل البلوتيين (والذي انعكس في وقائع حقيقية في حياة الأبطال الأربعة للكتاب، ابتداء من انفجار الاحتجاج العفوي: قتل مراد لريكار، الغني السادي، وصفعة لخضر للسيد ارنست، مسؤول ورشة البناء) وانتهاء بالمظاهر الواعية للمقاومة المنظمة (مشاركة رشيد في تنظيمات وطنية مختلفة، ولخضر ومصطفى في مظاهرات ماي 1945 بسطيف).

وأخيرًا الجانب الآخر، وهو رمزي فلسفي، ويخص الحب القاتل للرفاق الأربعة «لنجمة»، التي هي ليست امرأة فاتنة فحسب، وإنما هي رمز للوطن الرائع والمعذب، بتاريخه البسيط والمأساوي على حد السواء» (ص65).

واتفق ل. ستيبانوف مع النقاد على أن الجازية عند عبد الحميد بن هدوقة (في روايته الجازية والدراويش) «عمل فني شعبي حقيقي بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. وهو يتضمن مشاهد ساطعة ورائعة، تنقل روح القرية الجزائرية نفسها بتقاليدها وطقوسها. ما أروع الزردة ورقصات الدراويش ولحسهم المناجل المتوجهة (وتحوي الرواية أيضًا الكثير من الأمثال السائرة والحكم المأثورة والنكت المعبرة الهادفة، التي يعقبها أحيانًا هجاء قادح). وتبرز الطبيعة الجبلية الموحشة كخلفية للأحداث العاصفة، وكأنها شخصية قائمة بذاتها في العمل الفني» (ص90).

وأفصح روبرت لاندا في دراسته لأعمال الطاهر وطّار عن دلالات القيم النضالية، «إذ تعرّف روايتاه «اللاز» و«الزلزال» القارئ بالثورة الجزائرية في مختلف مظاهرها، وبمرحلتين هامتين من حياة الجزائر المعاصرة، وبأفكار ومشاعر الشعب الجزائري. وفضلاً عن ذلك تقدمان فكرة عن مكاسب الثقافة الجزائرية، وعن الاندماج النشيط للأدب الفني المعبر بالعربية في حياة الشعب. وحين نفرغ من قراءة الروايتين نتعرف، بلا شك وبشكل أفضل، على العالم الروحي والفني للجزائريين وثقافتهم الأصيلة» (ص103).

وتثير كتابات المستشرقين الروس حول الأدب الجزائري الجدال حول نظرة الآخر الروسي، غير أن مقاصد هذه النظرة لا تخفى في تعضيد 
الحوار الحضاري بين الثقافات.

يتضح من هذا البحث أن الاستشراق ينتقل خلال العقود الثلاثة الأخيرة بجلاء إلى 
الحوار الحضاري، ولاحظنا أن الاستشراق الروسي (وتطوراته السوفيتية ثم عودته إلى مداراته الروسية) ذو نزوعات مبكرة في هذا المجال، فغدا شديد التعبير عن حوار الثقافات والحوار الحضاري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

1- سالم حميش: الاستشراق في أفق انسداده. منشورات المجلس القومي للثقافة العربية. الرباط-1991 ص21-22.

2- منذر الكيلاني: الاستشراق والاستغراب: اختراع الآخر في الخطاب الأنثربولوجي. في كتاب «صورة الآخر: العربي ناظرًا ومنظورًا إليه»- تحرير: الطاهر لبيب. مركز دراسات الوحدة العربية. الجمعية العربية لعلم الاجتماع -بيروت 1999. ص 82.

3 - محمد نجيب بو طالب: العلوم الاجتماعية والاستشراق: صورة المجتمع العربي الإسلامي. المصدر السابق ص448.

4 - ادوارد سعيد : الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء (ترجمة كمال أبو ديب). مؤسسة الأبحاث العربية- بيروت 1981.

5 - رضوان السيد: ثقافة الاستشراق وعلاقات الشرق بالغرب، في مجلة «الفكر العربي» (بيروت )ـ العدد 31 ـ كانون الثاني ـ آذار 1983 ص 19.

6 - عدة مؤلفين: التطور المعاصر للبلدان العربية. أكاديمية العلوم السوفيتية- موسكو 1983 - ص6.

7 - سهيل فرح: الاستشراق الروسي، نشأته ومراحله التاريخية في مجلة «الفكر العربي» ، مصدر مذكور، ص 255 وما بعدها .

8 - نجيب العقيقي: المستشرقون. ج 3 دار المعارف ـ القاهرة ط 4 موسعه 1981، ص 83 وما بعدها.

9 - المصدر السابق ص 107-108.

10- ترجم الكتاب إلى العربية توفيق المؤذن وظهر ضمن منشورات دار الفارابي بيروت 1981.

11 - ظهر الكتابان الأول والثاني ضمن منشورات «رادوغا» (موسكو)، والثالث ضمن منشورات أكاديمية العلوم السوفيتية.

12 - أحمد الخميسي: نجيب محفوظ في مرايا الاستشراق السوفيتي. القاهرة 1990.

13 - عبد العزيز بو باكير: الأدب الجزائري في مرآة استشراقية. دار القصبة للنشر - الجزائر 2002.

14 - ظهرت ترجمة هذا الكتاب ضمن منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق 1993، وقام بالترجمة راتب سكر وممدوح أبو الوي.

المصدر: https://iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticle&ArticleID=824&SearchSt...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك