الفنّ السّريالي والتّحليل النّفسي

معاذ قنبر

 

نشأت السريالية (Surrealism) رسمياً سنة 1924، وأمست فعلياً ظاهرة عالمية في أربعينيات القرن العشرين.  وفق التزم الفنانون السرياليون من أمثال الرسّام الألماني ماكس ارنست (Max Ernst 1891-1976) والإسباني سلفادور دالي (Salvador Dali 1904-1989) والفرنسي أندريه ماسون(Andre Masson 1896-1987) والبلجيكي رينيه مارغربت(Rene Magritte 1898-1967)، وقد استعار السرياليون الاسم من لفظ نحته الشاعر (أبولينير) قبل ذلك ببضعة سنوات حيث استعملها عنواناً لإحدى مسرحياته (سيرياليزم) – وقصْد من خلاله أن يفسر عملية التنقيب التي زوالها بعض الفنانين من أجل البحث عن أصدق مظاهر الحقيقة عن طريق الاتصال الروحاني، وهي بدعة جريئة أراد بها تهشيم كيان الأشياء للكشف عن لب الأسرار الكامنة في أعماقها-. والاسم (sur – realism  ) فرنسي يقصد به ما خلف الحقيقة البصرية الظاهرة (الواقع)، أو الحقيقة التي هي فوق الحقيقة، التي تعني أن المظهر الخارجي الذي شغل الفنانين في حقبات كثيرة لا يمثل كل الحقيقة، فأغلب أشكال الحقيقة يكمن بالجانب الضمني من النفس الإنسانية أي جانب “اللاشعور”، أي في الواقع (الكامن) الذي يكمن وراء الواقع (الظاهر) هو اللاشعور، وهو الحقيقة العامة الشاملة التي ينطوي تحتها كل شعر، وكل مجاز، وكل شهوة، وكل حلم، وكل ما هو مكبوت واقعياً. وبالتالي فإن الطبيعة البشرية غير عاقلة بطبيعتها، وهو تصور أدخلهم في علاقة مباشرة مع نتائج التحليل النفسي حيث انكب معظمهم إلى الاطلاع على بحوثه، وذلك في محاولة منهم لإعادة قراءة النفس البشرية وفق أسس تعتمد على الهوامات والأحلام التي تتجسد في الفن، من أجل جعل الإنسان العصري يتواصل مجدداً مع قوى اللاوعي. [1]

تعود الأصول الفكرية للسريالية إلى الأديب والشاعر الفرنسي أندريه بريتون (Andre Breton 1896-1966) الذي كان يخدم كممرض في الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الأولى حيث تعرّف على نظريات فرويد الخاصة باللاوعي عندما ترجمت أعماله لأول مرة خلال عشرينيات القرن الماضي (جمعه لقاء مع فرويد في فيينا سنة 1921)، لكن الواقع أن فرويد لم يتعاطف كثيراً مع بعض التفسيرات السريالية لمفهوم اللاشعور). وسرعان ما استوعب بريتون وأصدقائه الفكرة العلمية في التحليل النفسي الخاصة بمفهوم اللاشعور وتداعياته، ودمجوها بما يخدم مصالحهم الشعرية، حيث قاموا بتطوير تقنيات (الكتابة التلقائية) التي أسهبوا بموجبها في الكتابة السريعة دون وجود أي فكرة سابقة التصور وهي طريقة اعتبروها مشابهة لطريقة التداعي الحر في التحليل النفسي –.

وبحلول عام 1924، رأى بريتون أنه من الملائم أن يوحّد تلك النزعات تحت اسم واحد، فأصدر بيان عام له باسم (السريالية) التي وصفها بأنها: ” قائمة على الإيمان بالحقيقة الأسمى لارتباطات مهملة مسبقاً بعينها، وبالقدرة الكلية للأحلام، وبالتلاعب العقلي بالأشياء بلا مبالاة ” كما عرفها بأنها:” نمط لخلق أسطورة مشتركة، أو الجسر الصغير جداً فوق الهاوية، إنها التلقائية النفسية الخالصة التي تهدف إلى التعبير شفاهاً أو كتابةً أو بأية طريقة أخرى عن العمليات الواقعية للفكر، بطريقة لا تخضع إلى العقل ومستقلة عن أية اعتبارات أخلاقية أو جمالية “.

لقد دُهشت السريالية منذ نشأتها بالصور العفوية التي تنبثق من الحلم، وبالآلية اللفظية أو التشكيلية، إذ يصف الشاعر الفرنسي السرياني لويس أراغون (Louis Aragon 1897-1982) هذه النشاطات بأنها تجارب مدهشة لنا على الرغم من التحليل النفسي يكاد أن نفسرها ماورائياً. ومن الطريف أنهم احتفلوا سنة 1928 بالعيد الخمسيني للعصاب الهستيري الذي انتشر صيته بعد الدراسات التي قام بها عالم النفس الفرنسي جان شاركوه (Jean Charcot 1825-1893) سنة 1878، وقد وصف بريتون وأرغون هذه الدراسات بأنها “أكبر اكتشاف شعري في القرن التاسع عشر”[2] إذ نظروا إليه كموقف مرضي عقلي لا يتعلق بأي خلل عضوي، ينتج غالباً عن الإيحاء، ويختفي للسبب ذاته، لذلك فإن هذا المرض – وفق وصفهم – يعتبر نقطة انطلاق لاكتشافات حققها واحد من أكثر تلامذة شاركوه موهبة: فرويد. فأدخل السرياليون هذا المرض ضمن المواقف عاطفية، وأبعدوه عن حقله المرضي، معتبرينه وسيلة تعبير سامية (في الواقع تبدو الهستيريا بالنسبة لفرويد بمثابة كاريكاتور لعمل فني، ويرى أن الأمر المشترك بين الهستيريا والعمل الفني والذكرى يكمن في أنها إنشاءات استيهامية من آثار تذكرية على صورة مسرحية أو تشكيلية تمثل الماضي مشوهاً بتأثير عوامل الانزياح والتكثيف والإنابة).

لقد أعطى بريتون للعصاب كل معاني الكشف والإبداع، طالما أنه نافذة ملكية إلى اللاشعور، ووسيلة نتمكن من خلالها أن نتحقق من أصالة الحياة النفسية الشخصية. فوقف السرياليون إلى جانب المرضى العقليين، ضد المؤسسات، ورأوا في بعض المجانين مظاهر من الكشف العبقري. فكان هدفهم إحداث قطيعة مع الفهم التقليدي وتحقيق الإنسان الكلي في وحدة كاملة بين الوعي واللاوعي، من خلال الاستكشاف المنظم لعالم اللاشعور عبر تجارب متنوعة كالحلم، والهلاوس، والهوامات الخيالية، وحالات الذهان الكلي التي تكسر كل قيود الوعي والمكبوت. إن رد الفعل الجمالي بجملته، هو رد فعل فطري تجاه الهوامات الداخلية المدركة بشكل غير واع، ولا يمكن أن تواجه شعورياً من خلال مظاهر سلوكية خارجية منظمة. ووظيفة هذا الرد الجمالي هي مجاورة القلق وتنظيم العاطفة، وهو أمر تظهر بشكل واضح في معظم الأعمال الفنية للمصابين بالحالات العصابية والذهانية. كذلك لاحظوا أن الفن الذهاني في أغلب الأحيان مشبع بالألوان العذبة والتكلف التزييني، في كفاح مستميت لمواجهة العالم الداخلي الذي يعانيه المصاب الذهاني.

إن الرغبة – وفق بروتون – هي المحرك الأكبر والموحد الأكبر أيضاً، وهي في النهاية التي تعبر أحسن تعبير عن الإنسان، والتي تؤلف جوهره، ومهما تكن متضايقة، ومعاكسة، ومبتعدة عن أهدافها، فإنها تتوصل بالرغم من كل شيء إلى أن تجد مكان لها. وعليه يكون المطلوب هو إعتاق تلك الرغبات من العقبات التي يخلقها المجتمع. والثورة الحقيقية في نظر السرياليين، هي انتصار الرغبة. ووفق منهج تحليلي، الانتصار على الكبت بإعادة قراءة اللاشعور، لذلك كان غايتهم تجاوز كل ما هو تقليدي ومألوف في الفن، فنجد على سبيل المثال: سلفادور دالي قد وطد شهرته من خلال عدم التوقير والتمرد على الأسس التقليدية للفن في الأكاديمية التي درس بها، فحيث أعطي كموضوع للرسم تمثلاً قوطياً للعذراء مثلاً، نجده اختار أن يرسم منظرين طبيعيين. فنراه يقول في لوحته (المرآة المنظورة): ” إنني أتحدى الماديين بأن يحققوا في المسألة الأرجحية الأكبر في الوجود إذا ما أخذ تدّخل الرغبة في الاعتبار”[3]. وهذا ما أوحى به بريتون عندما أكد على أن القدرة الكلية للرغبة، كانت منذ البدء، فعل الإيمان الوحيد للسريالية. لذلك كان التعبير التلقائي والوحشي موضع اهتمام السرياليين، وهذا يفسر اهتمامهم بالفن الفطري وما يقوم به الأطفال والمتخلفون عقلياً.

ويقوم هذا المنطلق على أساس الإيمان بالواقع الأعلى لأشكال معينة من تداعي الأفكار المهملة، وبالوجود الكلي للحلم، وباللعب النزيه للفكر، فتغدو السريالية آلية نفسية مجردة نقصد من خلالها التعبير، نطقاً أو رسماً أو كتابة أو أي طريقة أخرى، عن عمل الفكر الحقيقي، بعيداً عن كل مراقبة يمارسها العقل، وعن كل الأحكام القيمية أو اهتمام جمالي أو أخلاقي. حيث الأنا مكروهة هنا، لأن حجمها الثقيل يحكم السد على الكهف (اللاشعور) الذي تنبعث منه كافة الأصوات، هذه الأصوات التي تهزنا.

لقد حاولت السريالية إزالة كل آثار الواقعية من تجاربها، فقد اعتبرت الحرب تبريراً للحرب، ولأجل إزالة الواقعية والعقلانية، سلكت تقنيات جديدة تعتمد المفاجأة والترحيل عن المكان والزمان والظروف الطبيعية، واللعب الحر، فتدفع الأشياء بذلك إلى التخلي عن معناها الذات.

وقد وجد السرياليون في اكتشافات فرويد حلاً لمعضلة الإنسان، فالإنسان ليس كائن مفكر وحسب، ولا مفكر عاطفي شاعري فقط، بل هو إنسان حالم يكتشف ذاته في كل نوم، حيث يكسب في الحلم كل ليلة كنزاً يبدده في النهار، ووراء القياسات العقلية والمنطقية، نحتاج إلى أن نفتح الأبواب الواسعة أمام الحلم، لنرى كامل الحقيقة لا نصفها، عندها نجرؤ على التعرف إلى رغباتنا، وتحملنا الشجاعة على تحقيقها. فلا ظلام يكون بعدها. فنصبح أمام ما يسمى “الأشياء السريالية” وهو كل شيء غريب، خارج عن الإطار العادي المألوف، وبالتالي يستعمل كآلية حلمية لغرض مختلف كامن خلف صورته الوظيفية المعروفة. فكل شيء يبدو مصنوعاً تلقائياً، ولا هدف منه سوى إرضاء صانعه، كل شيء مصنع حسب رغبات العقل الباطن والحلم، إنها أشياء غايتها تجسيد الرغبات بكل لامعقوليتها المألوفة. لقد سعوا إلى خلق عالم يعوض عن نقص العالم الواقعي باستقصاء عالم الأحلام والتأمل الداخلي، وتقديم اللاشعور على الواقعي، والغرابة على المنطق بمعرفة خفايا النفس وإظهار اغترابها وتناقضاتها وعقدها غير المحلولة.

لقد تبنّت السريالية فن الألم والتطهير من خلال إظهار لامعقولية وغرابة الذات. إذ نقرأ في مقدمة العدد الأول من مجلة الثورة السريالية:” الحلم وحده يترك للإنسان جميع حقوقه في الحرية. لا يعود للموت، بفضل الحلم، معنى غامض، ويفقد معنى الحياة أهميته. نحن جميعاً تحت رحمة الحلم وعلينا أن نتحمل سلطته. إنه طاغية رهيب يلبس مرايا. ما الورق، والريشة، والكتابة، والشعر إزاء هذا العملاق الذي يأسر في عضلاته الغيوم”[4]. بذلك يؤكد السريالي على فناء الوعي – الجزئي – للسماح بتنافذ اللاوعي ضمن واقع أعلى وأكثر صميمية، فالحياة الماضية، والرغبات المكبوتة، والطموح المستلب، والأحلام المنسية، يمكن أن تعود بآليات أشبه بالتداعي الحر، كالكتابة الآلية والصور الدالة الرمزية التي تتدفق تلقائياً نحو العالم الخارجي لتعبر عن ثراء وغنى الداخل. فاللاشعور هو الأداة المخلصة للفنان الذي لا يستطيع مجابهة عالمه وفهمه بالإطار العقلاني الواعي فقط. والعالم الخارجي لدى السريالي ليس إلا دعامة يبدي من خلالها عالمه الخاص، أما التقليد المخلص لمحاكاة الطبيعة أو إظهار الجمال، فلا يمكن أن تحق الحالة الحقيقية لتصوير النفس التي هي غاية الفن والأدب.

ومن مظاهر هذا التفريغ اللاواعي للعالم المكبوت، اتخذت السريالية الدعابة وسيلة للانسلاخ من الحياة اليومية (قيود الواقع) وتفريغ وهمي للآلام الناتج عن الاغتراب الذي تفرضه الثقافة على الطبيعة الإنسانية، والدعابة عند فرويد هي آلية الأنا في التحرر من معوقات العالم الخارجي إلى عالم الغرابة المتخيل الذي يتحقق فيه كل اهلاساتنا الاستيهامية دون قلق. وقد عبر يريتون عن ذلك في بيانه السريالي الشهير مؤكداً على فكرة أن نفسية الإنسان وحقيقته الشخصية مقيدة بسلاسل ومخبأ في اللاوعي. وأن عمل الفنان أن يحررها. ويتم هذا التحرير ألياً من دون أدنى تدخّل منطقي أو عقلاني. فيكفي أن يعرض الفنان أحلامه واستيهاماته كما تبدو له تماماً دون تحريف أو تبديل”.

ولأن الفن هو لغة اللاوعي الإنساني الشامل الذي يتخلص من القيود، فقد حطمت السريالية الأطر القومية في الفن، وحلقت فوق الحدود، ولم تعرف أي حركة قبلها – بما فيها الرومانسية – هذا التأثير والاهتمام العالميين. لقد كانت الغذاء اللذيذ لأفضل الفنانين في كل بلد، والانعكاس لعصر كان محتماً عليه، أن يجابه مشاكله على الصعيد العالمي، حتى في المجال الفني الذي حاول اكتشاف المكونات النفسية للإنسان، والعوالم التي ترسخ الاغتراب النفسي والعقلي في فترة ما بين الحربين، حيث أكد ماكس ارنست أن السريالية تدعونا في النهاية لأن نفهم أن ما يعيقنا في فهم ماضينا وحلمنا الطفولي، هو الكف، حيث مجتمعنا الذي عشنا فيه، والتربية التي تلقيناها منذ الصغر، والتجارب التي عانيناها، هي التي تمنعنا في كثير من الأحيان عن معرفة حقيقتنا الدفينة.

لقد امتدت النظرة التحليلية النفسية إلى كل ميادين المدرسة السريالية وهنا نستعرض باختصار أهم تلك الميادين:

1- الأدب: من خلال أندريه بريتون (Andre Breton 1896-1966) – بينجامين بيرييه (Benjamin Peret 1899-1959)– لويس أراغون (Louis Aragon 1897-1982)– رولان بارت (Roland Barthes 1915-1980) – ناتالي ساروت (Nathaiie Sarraute 1900-1999).ويمكن أن نعود أيضاً إلى الروائي الفرنسي الماركيز فرانسيس دي ساد (Francois de Sade 1740-1814)، والكاتب الأميركي ادغار الان بو (Edgar Allan Poe1809-1849 )، والشاعر الفرنسي أرثر رامبو (Arthur Rimbaud 1854-1891) والشاعر الفرنسي شارل بودلير (Charles Baudelire1821-1867 ).

إن التعبير الأدبي وفق المدرسة السريالية يتوجه نحو الداخل، أعماق النفس والحياة النفسية بما فيها حالات غياب الوعي، كالنوم والأحلام والكتابة السريعة غير الخاضعة للتحكم الإدراكي، وإنما للآلية الغريزية، والعزوف تماماً عن محاولة الكتابة الواعية، من أجل تحقيق تدفق اللاوعي الذي يمثل المادة الوحيدة الحقيقية للتعبير الفني. فالكتابة اللاإرادية هي الوسيلة الأكثر فاعلية في استكشاف اللاشعور، وهي في آن واحد، طريقة في الكتابة، ووسيلة لكي نفهم أنفسنا بشكل أفضل. تلك الطريقة توفر للإنسان إمكان الوصول إلى حقيقته الداخلية، وطبيعته الحقّة، في علاقتها مع الطبيعة الإنسانية. فتُعطي الفرد معنى الجمع، وتجعله يتكلم اللغة الضائعة المشتركة بين البشر، لغة الرغبات اللاشعورية. إن التجريد السريالي يعني إطلاق سراح اليد لتسجل تسجيلا أوتوماتيكياً مباشراً، فكانت الكتابة الآلية بمثابة الهجوم على أنماط التفكير العادي واللغة العادية، وكانت محاولة للنفاذ إلى ما وراء التناقضات والمتعارضات التي تفسد تفكيرنا وتأملاتنا الواضحة.

وقد مارس بريتون مع زميل له هو (فليب سويد) طريقة الكتابة الآلية، ونشر نتائج ذلك في كتاب (المجالات المغناطيسية – Magntic Fields) عام 1919، إذ يقول بريتون في مقدمة الكتاب:”بدأنا أنا و(فليب) بالكتابة وفقاً لهذه الطريقة، وفي نهاية اليوم الأول للتجربة، كان كل واحد منا كتب حوالي خمسين صفحة… وبدأتا نقارن ما كتبناه… فرأينا أن التشابه كان مدهشا… حتى الأخطاء في التركيب كانت متشابه عندنا… وكانت الخيالات نسقها في النوع الذي لا يمكن الحصول عليه بالطريقة العادية للكتابة “. كما طبق بريتون هذا الأسلوب على المصابين باضطرابات عصبية من مرض الحرب، ولاحظ أن الصور المستنبطة بهذه الطريقة يمكن أن تمد الفنان بأساس المادة الخام لإبداعه الفني. ذلك لأن الكاتب والفنان، ومن خلال هذه الطريقة الآلية، يتقبل محو الشخصية في سبيل وعي كوني، ويبحث عن حقيقة الأشياء حتى لو كان ذلك في العالم السفلي (اللاشعوري) حيث الجحيم والوحوش والكشف عن الطبيعة المزدوجة للإنسان (روحانية – حيوانية) حيث صورته الخالدة، وصورته الزائلة، صورته التي تمثل غرائز الحياة، وغرائز الموت، ولكن دون فوارق تضخم الفاصل بينهما، بل بتلاحم جدلي واحد. لقد آمن السرياليون باللغة (الدال – الرمز) وطاقاتها، فهي التي تبني رؤيتنا للعالم، وعلاقاتنا بالكلمات تفتح لنا آفاقاً أخرى على ذواتنا، بحيث تتحول اللغة إلى أشبه بالوحي الذي يكشف داخلنا. وفي كتابه ” ما السريالية ” يقول ينقل هنربكينر عن بريتون قوله: ” كل شيء يدفع إلى اليقين بأن ثمة نقطة ما في الفكر، لا تناقض فيها بين الحياة والموت، الواقعي والخيالي، الماضي و المستقبل، ما يمكن إيصاله وما لا يمكن، الأعلى والأسفل، ومن العبث البحث عن دافع آخر للفاعلية السريالية غير الأمل بتحديد هذه النقطة”.

كذلك اعتبر الشاعر الفرنسي أراغون أن السريالية هي الثورة الحقيقية في مجال التعبير الفني، فإذا كانت الكلاسيكية هي جزء من القاموس التقليدي، والانطباعية ليست إلا قلق عابر، والرومنتيكية مجرد أوهام عاطفية، فإن الحقيقة الأساسية في الفن والحياة، هي من أعماق الإنسان.[5]

وقد نقل الفنان أندريه ماسون هذه الطريقة من الكتابة إلى التصوير، فكان يرسم صوراً بترك قلمه يتجول دون هدف على الورقة كما لو أن عقله الباطن هو الذي يحركه ويوجهه نحو الحقيقة النفسية (صورة 6).

 2– التصوير: وهو المجال الذي سنفرد له الدراسة. والواقع أن القوتين الدافعتين للحركة السريالية في الفن التصويري تتمحور حول أندريه ماسون، وماكس ارنست. الأول انطلق من الاعتماد المتصاعد على الطريقة الآلية المألوفة في النتاج الأدبي السريالي، وفق سمات تعتمد على الحلم وحرية التعبير، أما الثاني فكان يرى أن التماهي مع الطريقة الآلية يحدث عن طريق القياس وليس طريقة الاستنساخ محاولاً الاستفادة من السياق الميتافيزيقي في رسم عناصره.

وقد حُددت الأسس الفرويدية للسريالية تحديداً واضحاً بين البيان السريالي الأول سنة 1924، والبيان الثاني سنة 1929، فمن الناحية الفنية وقعت لوحات تلك المرحلة في مجموعتين، الأولى هي التي تعتمد على المقترب الحدسي التلقائي (ماسون – ميرو – ارنست) حيث الولاء للأحلام، الحماقة، التنافر والخيال الجامح. أما الطراز الثاني فقد اعتمد على تقنية واقعية مرسومة تدلل من خلالها على هوية الشيء تدليلاً صارما، وفق هوامات مرمزة مقنعّة ووهمية (مرغريت – دالي)، حيث إعطاء قيمة موضوعية على مستوى الواقع لعالم التجارب اللاعقلانية (اللاشعورية)، فأصبح الفن هنا نظاماً لكشف صور وتداعي الأفكار.

وبشكل عام، نلاحظ اهتمام الفن السريالي بالمنظور للإيحاء بالأبعاد والفسحات اللامتناهية، لكن غير الثابتة وغير الصلبة، لتعبير عن الذوبان الزماني المكاني ضمن المحتوى اللاشعوري العميق، يقف في رحابها صور وعناصر متباعدة وكأننا في ضرب من المتاهة تعبر عن وحشة الإنسان في عالم غريب.[6] كما نلاحظ تركيزهم على إظهار الجانب الجنسي الغريزي لصورهم الدالة عن عالم اللاشعور كتعبير عن الرغبة بالتخلص من القيود، قيود الواقع. وقد أوحت أهمية الأحلام، وفق منظور فرويد، إليهم بفكرة اعتبار الحلم كمادة للوحاتهم. فأصبح الفنان السريالي يمضي حياته المحملة بخزين من الذكريات والأحداث والرؤى، أضاف إليها معطى إبداعي تصعيدي حاول إسقاطه من خلال الرموز الدالة على حالة اللاشعور، والتي حاول من خلالها أن يعيد إنتاجها شعورياً وفق رموز لوحاته وصورها الحلمية، مع استبدال الواقع بآخر حلمي يحوي جميع الصور اللاواقعية الغامضة التي من الصعوبة بمكان أن تخضع لسيطرة العقل أو الواقع التفسيري.

3- التصوير الفوتوغرافي: كما في الفن التشكيلي، اعتمدت الحركة السريالية في التصوير الفوتوغرافي على النشاطات العقلية اللاواعية، فقدمت صوراً تحمل معنى تكثيفي عالي يعبر عن نماذج حلمية وخيالية وأحلام يقظة، فاعتمدوا على المونتاج والتركيب في كادر الصورة أثناء تحميض الفيلم بحيث يبرز الذوبان بين حدود الحقيقة والخيال، و من أهم السرياليين في هذا المجال الفنان الألماني راؤول هيسمان (Raoul Hesman 1886-1971) الذي نجح باستخدام المونتاج لكي يكون صوراً مركبة تعبر عن الكف والقلق في الحياة المعاصرة (صورة 7) وكذلك نذكر لازلو ماهولي (Laszlo Moholy 1889-1958) الذي حاول إضفاء الطابع التجريدي المعبر عن تشتت العناصر في الصورة ما يعكس التناقض السائد في عالم الحلم، عبر إبراز الطابع اللامنطقي في اللاشعور. ومن أوائل مؤسسي الحركة السريالية في التصوير الضوئي الفنان الأميركي مان راي (Man Ray 1890-1976) الذي استطاع التعبير في براعته في توزيع العناصر المركبة، فركز على الجسد الأنثوي الذي اعتبره رحم الوجود، كما نرى في لوحة الفيولين ( صورة 8 ) التي يتداخل فيها الجسد الأنثوي مع آلة الفيولين للتعبير عن موسيقى الجسد.

4- السينما: تطلعنا أعمال المخرج المسرحي الفرنسي أنطونين أرتو (Antonin Artaud 1896-1948) بالاشتراك مع المخرجة الفرنسية جيرمان دولاك (Germaine Dulac 1882-1942) على أول فيلم سريالي أنتج سنة 1927 بعنوان (صَدفَة ورجل دين) وهو عبارة عن دراسة فرويدية للمنافسة الأوديبية بين رجل عجوز، وآخر شاب على إمرأة غامضة (ترمز للأم). ثم فيلم (كلب أندلسي) سنة 1929لكل من المخرج الإسباني لويس بانويل (Luis Bunuel 1900-1983)والفنان الإسباني سلفادور دالي، الذي فُسر تفسيراً فرويدياً باعتباره تعبيراً رمزياً عن عقدة الخصاء. وقد تبعوه بفلم (العصر الذهبي) سنة 1930، الذي رمز إلى الكبت الاجتماعي للرغبة وفق المفهوم التحليلي،فكان فيلماً مليئاً بالعنف والتمرد بشكل لا مواربة فيه حيث عظاماً بين صخور كيب كروس، رجلاً أعمى يُعامل بقسوة، كلباً يُركل حتى الموت، أباً يقتل ولده، عشيقة تتحول إلى صورة الأم، شخصية شهوانية بملامح دي ساد متنكراً كمسيح، صور تبرز عوامل غريزية صادمة، ما جعل الجمهور ينفجر بأعمال شغب أدت لتدمير السينما حين عرضه. وفي السينما المعاصرة تبرز أعمال المخرج ديفيد لينش (David Lynch 1946-) الغامضة التي لا تخلو من ملامح فرويدية ايروسية شبقية، ضمن إطار حلمي مغرق في رمزيته الصادمة أحياناً.

إن ما يجمع هذه المجالات ضمن المدرسة السريالية، هو اعتمادها على الصور للتعبير عن الأفكار اللاشعورية أو الطبيعة الحلمية للنفس، و بالتالي الإيمان بالقدرة الكبيرة للأحلام، إذ يقول رينيه مارغريت: “إذا كان الحلم هو ترجمة لليقظة، فإن اليقظة هي ترجمة للحلم أيضاً”. فعمدت إلى استخدام التشكيلات البصرية أو السمعية المغرقة في رمزيتها، لخلق عدم الإحساس بالواقعة، والانتقال من المضمون الظاهر إلى المضمون الكامن، وفق ما خبروه عن التحليل النفسي، وترجمته للمتلقي عبر هذه الصور، فيكون الرسام السريالي وكأنه نصف نائم يسمح ليده أن تصور هواماته النفسية من خلال التداعي الحر الذاتي.

فرويد والسريالية

لقد اهتم السرياليون بطبيعة (اللاشعور)، وفكرة أن الإنسان محكوم ب (آخر) باطني وكامن، وهنا أضفوا على هذه الفكرة طابعاً حلمياً رومانسياً بتصور الذات التائهة والمتضاربة أحياناً في عالم من الرموز. لكن هذا الأمر لم يروق لفرويد في الواقع، إذ صرّح أن الصور الرمزية التي يقدمها السريالي، تعبر حقيقة عن وعيه وليس لاوعيه، بمعنى أن التجارب التلقائية التي قام السرياليون بإظهارها على أنها تمثل اللغة اللاواعية، كانت منظمة للغاية و مقصودة في صورها الرمزية، ما يجعلها تصدر عن الأنا، وليس اللاشعور، فهم أشبه بمن يراقب الحلم ويعبر عنه بشكل مقصود وواعي، ويسجله بصرياً دون أن يعيشه في هواماته، وبهذا يكون الخداع، ففي التحليل النفسي السليم، لا يُعَبر عن اللاوعي بهذا الشكل التلقائي، وإنما من خلال عملية التحليل ذاتها، التي تفكك المقاومة والنقل والتحويل خلال العملية التحليلية. ويقول فرويد في رسالة له إلى ستيفان زويغ بصدد سلفادور دالي: ” كنت أحاول حينئذ، على ما يبدو لي، اعتبار السرياليين الذين اختاروني على ما يبدو شفيعاً لأولئك الذين أصابهم الجنون المطبق. وقد حرضني الشاب الاسباني، بعيني المتزمت البريئتين ومهارته التقنية التي لا شك فيها، على أن أعيد النظر في رأيي، وقد يكون في الواقع من المفيد أن ندرس نشوء لوحة من هذا النوع دراسة تحليلية”.

إن أساس الوجدان السريالي يقوم على القاعدة الفرويدية في التوحيد بين التناقضات التي تظهر بشكل جلي في الأحلام و الأعراض العصابية، بين الحياة والموت، الواقعي والخيالي، الآخر والأنا، حيث تزول الحدود بين هذه التناقضات في نوع من الوجود الأعلى، الحلمي، حيث نفي ملكوت الطبيعة – وفق بريتون – ومد النفي للعالم كله. وبالرغم من ذلك فإن الرموز التي قام بابتداعها السرياليون، حتى وإن كانت ذات دلالات شخصية، فإنها ترتبط بإحساسات فنية عميقة وبصياغة مميزة يجعلها تنتقل من مستوى المنبع الشخصي، إلى لغة عامة، لها قاسم مشترك بين جميع الناس، قاسم يتعدى التجربة الفردية الظاهرة للوعي، إلى الغوص في عالم مشترك بين كل الكائنات الإنسانية، هو عالم اللاشعور. فالفن السريالي يصح أن يكون في النهاية، الفن الذي استطاع أن يكف النقاب عن العالم الغامض الخفي (المكبوت) في حياتنا، واستطاع أن يعبر بطريقة فنية من خلال الصور الحلمية المجسدة في الشكل واللون، مخاوفنا الدفينة وضروب قلقنا المتعددة، ما يجعله إضافة لا يمكن تجاهلها للمحلل النفسي.

في الختام

سنركز في دراستنا هذه، على الرسم السريالي وترابطاته السيكولوجية من منظور التحليل النفسي، باعتباره الطريقة المستخدمة في التعبير عن النفس البشرية من خلال الصورة الفنية التي تدل على الصورة الحلمية. يقول بريتون في كتابه (السريالية والرسم) بأن الرسم بإمكانه أن يعوض عن الوحدة الإيقاعية، وبإمكانه أن يكون أداة اكتشاف، إن الهوية السريالية تتوقف على وثاقة صلة الصورة المنهجية بالأفكار الرئيسية للحركة – أي بالآلية ورمز الحلم. كما يقول الرسام السريالي ميرو: “بدلاً من الشروع برسم شيء ما، فأنا أبدأ بالرسم،وإذ أنا أرسم، تأخذ الصورة بتأكيد نفسها، أو توحي بنفسها تحت فرشاتي، ويصبح الشكل عبارة عن عصفور أو امرأة فيما أنا أعمل.. إن المرحلة الأولى حرة – لاشعورية “.

وأخيراً من الضروري القول أن التداعيات التي عبرت عنها في الرسومات المعروضة، قامت على عدة معطيات ولم تعتمد على نظرة موحدة، فقمت حيناً باستخدام الرموز من منظور تحليلي وفق الأبجديات المُتعارف عليها في التحليل النفسي الفرويدي، و التي قد لا تكون بالضرورة معبرة عن وعي الفنان، وطوراً اعتمدت على الدال من خلال السيرة الذاتية للفنان، وأحياناً من خلال التأثير الذي يمكن أن يثيره الرمز على تداعيات المتلقي…. لكن بالإطار العام لم أحاول الخروج عن المنهجية العامة للرؤية الفرويدية في التحليل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ديفيد هوبكنز: الدادائية والسريالية، مقدمة قصيرة جداً، ترجمة:أحمد محمد الروبي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، ط1، 2016.

[2] موريس نادو: تاريخ السريالية، ترجمة: نتيجة الحلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1992.

[3] كونروي مادوكس: سلفادور دالي، ترجمة: جان دمّو، منشورات الجمل، بيروت – بغداد 2012.

[4] الفناء وتجلياته في الرسم السريالي: غسق حسن مسلم، بحث تدريسي في جامعة بابل، كلية الفنون الجميلة. نشر في مجلة كلية التربية للبنات، العدد 19، 2016.

[5] السريالية والفن: جيرار لوغران، فصل ضمن مقالات مختارة بعنوان (المغامرة السريالية. مقالات ونصوص) – ترجمة: عدنان محسن، منشورات الجمل.

[6] الفن في القرن العشرين: محمود البسيوني، مكتبة الأسرة، مصر، 2001.

ـــــــــــــــــ

أهم المراجع بالعربية

  1. فلسفة تاريخ الفن: أرنولد هاوزر – ترجمة: رمزي عبده جرجس، المركز القومي للترجمة، القاهرة،
  2. الدادائية والسريالية – مقدمة قصيرة جداً: ديفيد هوبكنز – ترجمة: أحمد محمد الروبي، مؤسسة هنداوي للتعليم و الثقافة، القاهرة، ط1 2016.
  3. تاريخ السريالية: موريس نادو – ترجمة: نتيجة الحلاق – منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1992.
  4. الصوفية والسريالية: أدونيس – دار الساقي.
  5. سلفادور دالي: كونروي مادوكس – ترجمة: جان دمّو – منشورات الجمل، بيروت – بغداد 2012.
  6. الفناء و تجلياته في الرسم السريالي: غسق حسن مسلم – بحث تدريسي في جامعة بابل، كلية الفنون الجميلة. نشر في مجلة كلية التربية للبنات – العدد 19 – 2016.
  7. السريالية و الفن: جيرار لوغران – فصل ضمن مقالات مختارة بعنوان (المغامرة السريالية. مقالات ونصوص) – ترجمة: عدنان محسن، منشورات الجمل.
  8. الفن في القرن العشرين: محمود البسيوني – مكتبة الأسرة، مصر، 2001.
  9. المصدر: https://www.alawan.org/2020/12/12/%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%86%d9%91-%d8%a7%...

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك