المشترك الإنساني وثقافة الحوار

عبد الله بن بيه

 

إن لدى الإنسانية مشتركات كثيرة أدَّى تجاهلها وإذكاء الخصوصيات تجاهها، إلى كثير من الحروب والدمار وإلى ابتعاد البشرية عن القيم التي أرساها الأنبياء؛ قيم الخير والمحبة والتراحم.

وتكون هذه المشتركات على مستويات مختلفة، منها مشتركات على مستوى الدين الواحد، ومنها مشتركات على مستوى الديانات، ومشتركات عليا يجتمع فيها جميع البشر تتجسد في القيم الإنسانية التي تجمع عليها البشرية بدياناتها المختلفة وفلسفاتها الكونية المتنوعة. وإن تفعيل هذه الدوائر والوصل بينها في تناغم وانسجام، من شأنه أن يرأب الصدع ويزيل سوء الفهم ويخفِّف من غلواء الاختلاف.

إننا أمام فشل حضاري يحطُّ من قيمة الإنسان، فما جدوى أن يغزو الإنسان الفضاء ويبلغ أقصى الكواكب وهو عاجز عن التفاهم مع أخيه ونظيره ومثيله!

مكانة الآخر في الإسلام

إن الآخر في رؤية الإسلام هو الأخُ الذي يشترك معك في المعتقد أو يجتمع معك في الإنسانية. ويتجلى هذا بسُمُوٍّ في تقديم الإسلام الكرامةَ الإنسانية بوصفها أول مشترك إنساني، لأن البشر جميعًا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم، كرمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(الإسراء:70)، فكانت الكرامة الإنسانية سابقة على الكرامة الإيمانية.

وهكذا، يشدد الإسلام في التصور الكلي للآخر، على وحدة النوع والمساواة في الكرامة الإنسانية، والبحث عن تنمية المشتركات ونبذ معايير التفاضل إلا بالخير والتقوى، وهو ما عبّر عنه الإمام علي رضي الله عنه بقوله: “قيمة كل امرء ما يحسنه”.

المشترك الإنساني هو القيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول، ولا تتأثر بتغير الزمان أو محددات المكان أو نوازع الإنسان، لأن لها منابت وأصولاً تحفظها من عوادي الدهر وتعسفات البشر.

أكثر الفلاسفة تحت قيادة “كانت” رئيس المذهب المطلق، يرون أن الحق والخير والجمال هي قيم أزلية لا علاقة لها بالزمان ولا بالمكان، فما كان قيمة في الماضي هو قيمة في الحاضر، وسيظل قيمة في المستقبل، وأن هذه القيمة بالنسبة للصيني وبالنسبة للأوروبي وبالنسبة للعربي، هي قيمة واحدة ولو كانوا يجهلون ذلك.

وهذا المذهب المطلق أرى أنه هو الذي تؤيده الديانات السماوية وتقدمه أوعية اللغة ومفاهيمها؛ فـ”العدل” في كل لغة وفي كل مكان كلمة جميلة، وعندما ننطق كلمة “الوفاء” فإنها كلمة جميلة، وعندما ننطق بـ”الظلم” وبـ”الغدر” نجدها في كل اللغات والثقافات كلمات ممقوتة. بل حتى الظالم والغادر لا يريد أن يكون كذلك، ويود لو كان عادلاً وفيًّا صادقًا.

هذه القيم المشتركة يجب إعادتها في حياة الناس، وهي مبثوثة في كل رسائل ودعوات الأنبياء، والإنسانية كلها اليوم محتاجة إليها حاجة الفطيم إلى الحنو والحنان والعطف بعد أن أحال السفهاء والمجانين مجالات حركتها إلى حقول ألغام؛ إنها قيم السلم الثابتة التي لا تتغير، وهي الأمر الكلِّي الذي لا تتخلف جزئياته ولا تخص جنسًا دون جنس أو دينًا دون دين.

لقد أصبح من الضروري المستعجل أن نتجاوز الشجب والتحذير لنبادر إلى الفعل في الوقت المناسب، فلن يكون للأجيال الآتية أي وقت للفعل، ويخشى أن تصبح هذه الأجيال أسيرة سيرورات ليس لها عليها سلطانٌ كالنمو السكاني والتدهور البيئي والتفاوت بين الشمال والجنوب أو التمييز الاجتماعي.

أن ننتظر إلى الغد، يعني أن نصل دائمًا متأخرين، فثمة شيء في غاية الهشاشة نحن مؤتمنون عليه: إنه الحياة في هذا الكوكب الأرضي.

على هذا الشعور بالمأزق تتأسس المسؤولية المشتركة التي ضرب لها النبي صلى الله عليه وسلم مثال السفينة، حيث قال: “مَثَل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ اسْتهَموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفلها، فكان الذي في أسفلها إذا استقَوْا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقْنا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤذِ مَن فوقنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا، وإنْ أخذوا على أيديهم نجَوْا ونجَوْا جميعًا” (رواه البخاري).

إن البشرية الآن في سفينة واحدة على وشك الجنوح، فلا بد لأهل القيم أن يأخذوا على أيدي الذين يريدون خرق السفينة.. ينبغي الانطلاق من الرغبة المشتركة النابعة من المسؤولية المشتركة في إحلال السلم محل الحرب، والمحبة مكان الكراهية والوئام بدل الاختصام، إذ من شأن ذلك أن يعبئ طاقات رجال الدين والمثقفين والأكاديميين من كل الأديان والثقافات للتحالف في حلف فضول، لإزالة هذا الخطر الحضاري.

الحوار ضرورة إنسانية

ويقوم هذا الحلف على تعزيز قيمة الحوار. فالحوار واجب ديني وضرورة إنسانية وليس أمرًا موسميًّا. الحوار من أصل الدين ومن مقتضيات العلاقات البشرية، ولذا أمر به الباري عز وجل فقال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل:125)، وقال :(وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)(العنكبوت:46). بالحوار يتحقق التعارف والتعريف، والحوار يشهد للاستعداد الحاصل لدى جميع الأطراف لتقديم وجهات النظر النافعة والصالحة لحل مشاكل الكوكب الأرضي الذي نعيش عليه.

الحوار قيمة، والحوار مفتاح لحل مشاكل العالم. الحوار احترام الاختلاف؛ فصاحب الحوار يحترم الاختلاف بل يحب الاختلاف، بحيث ينظر إليه كإثراء، كجمال، كأساس لتكوين المركب الإنساني.

الحوار يدخل في قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(فصلت:34)، فهل لنا أن نأمل بالحوار اليوم في تنمية جوانب الخير والقيم الإنسانية الخيرة المشتركة؟

الأصل في الحوار هو الاختلاف

إننا لا ندخل في الحوار إلا ونحن مختلفان، بل إننا لا نتحاور إلا ونحن ضدان؛ لأن الضدين هما المختلفان المتقابلان، والحوار لا يكون إلا بين مختلفين متقابلين أحدهما يُطلق عليه اسم “المُدَّعي” وهو الذي يقول برأي مخصوص ويعتقده، والثاني يُطلق عليه اسم “المعترض” وهو الذي لا يقول بهذا الرأي ولا يعتقده.

وأساليب الحوار عديدة، وصيغه متنوعة؛ فالحوار في الصحافة والقنوات وداخل الأندية والمؤتمرات ومجالس الشورى والبرلمانات، والمفاوضات التجارية في المنظمات الدولية للتجارة، وبين الأفراد في الأسواق والبورصات، وخصومات الأزواج في البيوت.. وكل نوع من هذه الأنواع له طرقه وأساليبه، ويكون داخل الشعب الواحد حيث تتسع دائرة المشترك، وبين الشعوب المختلفة كالحوار بين الشرق والغرب، وبين الأديان والملل المختلفة، فيكون المنظور الإنساني هو من يشكل آفاق الحوار.

والحوار يقدم -كما يقول أفلاطون- البدائل عن العنف؛ لأنه بالحوار يُبحث عن المشترك وعن الحل الوسط الذي يضمن مصالح الطرفين، وعن تأجيل الحسم العنيف، وعن الملاءمات والمواءمات التي هي من طبيعة الوجود، ولهذا أقرّها الإسلام، وأتاح الحلول التوفيقية التي تراعي السياقات وفق موازين المصالح والمفاسد المعتبرة.

إن اعتماد وسيلة الحوار لحل المشكلات القائمة يوصل إلى إدراك أن الكثير منها وهمي لا تنبني عليه مصالح حقيقية، وبهذه الحلول التوفيقية التي يثمرها الحوار، تفقد كثير من القطائع والمفاصلات والأسئلة الحدّية مغزاها.

وينبغي أن يكون الحوار عميقًا عمق الإشكال الذي يعالجه، حوارًا يطول جميع المستويات ويتجسد في كافة القطاعات، ينطلق من أبسط مستويات الحياة المجتمعية إلى أكثرها تعقيدًا وتركيبًا من البيت إلى الجامعة.

غرس التسامح في النفوس

لا بد من غرس ثقافة التسامح في النفوس.. يجب اتخاذ السبل بكل الوسائل التثقيفية وفي مقدمتها التعليم والتربية، والإعلام الجماهيري؛ لإيجاد تلك القيم والتصوُّرات لضبط وكبح جماح النفوس الميالة إلى العنف، وترجيح كفَّة التسامح وحسن تقبُّل الآخر، وباختصار، إيجاد الروح الاجتماعية والتعايش البناء بين أفراد المجتمع.

ومعنى ذلك أنَّ المثل والقيم التي يتلقّاها ويلقنها أفراد المجتمع عن طريق القنوات والأدوات التثقيفية في مختلف مراحل التعليم، ووسائل الإعلام بشتى أشكالها، وغيرها من وسائل الاتصال الجماهيري ذات المضمون الرصين المتسامح والمتعقّل، لا يخرج على النّهج العام السائد والأعراف المقبولة، لشحن العواطف وإلهاب المشاعر دون وزن للعواقب ولا مبالاة بالنتائج.

إذن، فلا بد من علاج بالمضادات، ونعني بالمضادات الحيوية؛ ذلك الخطاب الحي الواعي الذي يقوم على نبذ العنف وزرع ثقافة السلام والتسامح والمحبة، وتقديم البدائل أمام الشباب اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، ومحاولة صرف جهودهم ونشاطهم في قنوات لصالح المجتمع ولصالح التنمية، وجَسر العلاقة بين مختلف الفئات وتجديد الفكر التوفيقي والمنهج الوسطي في النّفوس، وحشد جهود الطبقة المثقفة في الجامعات والمدارس ووسائل الإعلام لذلك.

فعندما تتصالح الأديان وتتصافح، فإن من شأن ذلك أن يعزز روح السلام في العالم، ويسهّل الولوج إلى طريق العدالة والخير ومعالجة المظالم والمظلوميات. وكما قال اللاهوتي السويسري “هنس كونج”: لا يمكن للسلام العالمي أن يتحقق بدون أن يتحقق السلام بين الأديان.

ولقد آن لرواد الديانات أن يبرهنوا على فعالية أفضل وانخراط أكبر في هموم المجتمعات البشرية، لإعادة الرشد وإبعاد شبح الحروب والفتن المهلكة. إذا كان البعض ينظر إلى الدين كعامل تفرقة وتمزيق لنسيج الشعوب، فنحن في مبادرة القوافل نريد أن نبرهن عمليًّا على أن الدين يجب أن يكون سبيلاً لالتئام المجتمعات البشرية والقضاء على أمراض الحقد والكراهية المستحكمة. تلك هي العبرة والدعوة والرسالة التي نوجهها من خلال هذه القوافل، إذ إن التضامن والتعاون، يجب -في النهاية- أن يبرز، وأن ينجز أعمالاً ميدانية تبرهن للعالم كله أن الدين في أصله هو عامل خلاصٍ ورحمة للعالمين.

إن ذلك يحمِّل رجال الدين عبئًا فيما يتعلق بكل ديانة، لمعالجة التطرف والغلو، وإعادة التوازن في نطاق كل ديانة لبناء الجسور بين الديانات على أسس صلبة ودعائم قوية قابلة للاستمرار والاستقرار بل للازدهار والانتشار، لإعلان الانتصار على الشر.

وفي الختام، فإنه يتعيّن أن نحمل جميعًا رسالة السلام التي تعني:

  • أن ندرك حقائق المفاهيم المؤطرة للسلام، وأن ندرك -في نفس الوقت- زيف تأويل المتطرفين وتحريف الغالين.
  • أن ننشر هذا الفهم من خلال كل الوسائل المتاحة في الصحافة والتعليم.
  • أن نقدّم مبادرات ميدانية لإفشاء السلام في المجتمعات التي نعيش فيها.
  • أن نشجع برامج التسامح والتعايش.
  • أن نقدم القراءة الصحيحة للشريعة، وأن نؤطر الأحكام التكليفية بخطاب الوضع، ومعنى ذلك، أن ننزل النصوص في بيئة الواقع ليكون التنزيل متوخيًا لمقاصد الشريعة.
  • أن نتضامن مع أولي بقية في كل مكان لنشر قيم السلام.

ويكون السير في ثلاثة اتجاهات:

1- ترتيب بيت الإسلام من خلال تفكيك منظومة الفكر المتطرف، وإظهار عوار طرق الاستدلال لدى هؤلاء وضحالة منازعهم في الاستنباط بإبراز المناهج الصحيحة والمآخذ السليمة في التعامل مع نصوص الكتاب والسنة، وهكذا فيكون الكلّي حاكمًا على الجزئي، ويكون الجمع بين الأدلة بديلاً عن التجزئة، وتصبح المقاصد مترجمة لمغزى النصوص ومبينة مدى تطبيقها ومبرزة سبيل انسجامها وتنسيقها.

لنبين بحق أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلهم وآجلهم، وأن الرسالة الخاتمة إنما جاءت رحمة للعالمين، وأنه لا تعارض بين العقل والنقل، إلى غير ذلك حتى يُقضى على أفكار التطرف وآراء المتطرفين بالحجة والبرهان.

وهذا الجهد داخل البيت الإسلامي ضروري لهزيمة الفكر المتطرف الذي يشوه الإسلام ويقدم الذرائع للكراهية والبغضاء، لأن العلاقة بين متطرفي الإرهاب ومروجي الكراهية علاقة تلازمية، فكل منهما يمد الآخر، ويؤثر كلاهما على الآخر تأثيرًا طرديًّا وعكسيًّا.

2- نقل الحوار إلى الدائرة الثانية، وهي الدخول في حوار على مستوى عالمي، لتقديم الرواية الصحيحة عن الإسلام، والتعايش مع المسلمين، من خلال التأكيد على الصورة المنفتحة والمتسامحة للإسلام، والمصالح المتبادلة والمتداخلة بين المسلمين وغيرهم في المجتمعات، وتأكيد قيمة المواطنة والقيم الإنسانية النبيلة.

3- الانتقال إلى مرحلة التضامن مع أولي بقية يلتزمون بالقيم والمثل المشتركة للأخوة الإنسانية، لتكوين “حلف الفضول” الذي ينبذ التمييز والكراهية، ولا يحمّل دينًا ولا حضارةً جريرة السفهاء على قاعدة: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، حلف يدعو إلى السلام والإخاء بين أبناء البشر كافة، ذلك هو التيار الذي يجب أن تشكله النخبة من رجال الدين والفلسفة، ورجال الفكر والأكاديميين من كل الديانات ومن كل الفلسفات.

المصدر: https://hiragate.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b4%d8%aa%d8%b1%d9%83-%d8%a7%d...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك