أساطير العلمانية الغربية والسياسة في الإسلام

أساطير العلمانية الغربية والسياسة في الإسلام
بقلـم أسماء أفسار الدين

ساوث بند، إنديانا – يُفترَض بشكل واسع أن من الشروط الضرورية للعلمانية في المضامين المسيحية الغربية فصل الكنيسة عن الدولة. يُفترض كذلك أن العلمانية هي شرط مسبق لإدخال الديمقراطية بنجاح إلى المجتمعات التي تفتقر إليها.

استخدام هذين الاختبارين أوجد قلقاً كبيراً في الغرب حول احتمالات إدخال الديمقراطية في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة اليوم. ليس الأمر مجرد أن العلمانية ليست في طور انتشار فحسب، وإنما أن التوسع الديني بأشكاله المختلفة أصبح ميّزة العديد من هذه المجتمعات. احتمالات الديمقراطية تبدو كئيبة في هذه المناطق عندما يُنظر إليها من هذا المنظور.

ولكن هل هناك ما يستوجب هذا النوع من التشاؤم؟ رغم "الحكمة" المنتجة محلياً والتي تشكل قاعدة لتوقعات متشائمة من هذا النوع إلا أن استطلاعات أجراها مؤخراً مركز بيو للأبحاث مع مركز غالوب تظهر بشكل غير مشروط وصريح أن غالبية سكان الدول المسلمة يريدون الإصلاحات الديمقراطية ويرغبون برؤية حكومات ديمقراطية في دولهم. ولكنهم في الوقت نفسه لا يريدون رؤية قِيَمهم الدينية تتداعى وحرية ممارسة شعائرهم الدينية سراً وعلناً تتقلص. هل يحاول المسلمون إذن التسوية بين هدفين لا مجال للتسوية بينهما؟

قد تكون إحدى الإجابات ذات المنطق الفكري في هذا العرض: يعتمد الأمر على كيفية تعريف العلمانية وفهمنا للعلاقة بينها وبين الديمقراطية. العلمانية، كما تُمارَس في فرنسا تعني تفريغ المجال العام من الدين ونفيه، أي الدين، إلى الإطار الخاص. العلمانية، كما جرى تطويرها في الولايات المتحدة من ناحية أخرى، طالما كانت أكثر تفهّماً للقيم الدينية والتعبير الديني في المجال العام. لذا فإن العلاقة بين العلمانية والديمقراطية علاقة متغيرة، والديمقراطية كظاهرة عالمية ما زال يجري العمل عليها.

ولا يصّر سوى "الديمقراطيين المتشددين" بأنه لا يوجد سوى نموذج واحد للديمقراطية ينطبق على الجميع، بغض النظر عن المضامين التاريخية والاجتماعية المختلفة. وجهة نظر ضيقة كهذه تفشل في الأخذ بعين الاعتبار الإلتواءات المختلفة للديمقراطية في أجزاء مختلفة من العالم مع درجات متغيرة من العلمانية، كما أنها تفشل كذلك في الأخذ بعين الاعتبار الانتشار الذي جرى مؤخراً في القيم الدينية في المجتمعات ذات النسب العالمية من الديمقراطية كالولايات المتحدة ، وعملية التفاوض التي نتجت عنها بين القيم الدينية والعلمانية. وحتى يتسنى للديمقراطية أن تحافظ على سمعتها يتوجب عليها أن تتقبل القيم والمشاعر الدينية، إذا كان ذلك يعكس النوايا العامة. وكما علق الفيلسوف الإيراني عبد الكريم سوروش بنظرة ثاقبة، في أي مجتمع ديني، "تكون أية حكومة علمانية بشكل كامل حكومة غير ديمقراطية".

يجب هنا أيضاً تفكيك عقيدة أخرى، وهي أن الدين والسياسة في الإسلام أمران مرتبطان ومتلازمان لا يمكن التفريق بينهما خوفاً من مخالفة وصية إلهية مفترضة. هذه العقيدة نمت من قراءة غير تاريخية لنمو الفكر السياسي الإسلامي الذي يتجاهل غياب البراهين في المصادر الأولية لفكرة السياسة المقدسة أو التي جرى تقديسها في حكم الدولة الإسلامية. بدلاً من ذلك أُعتبر الحكم السياسي ضرورياً من أجل الهدف العملي بالحفاظ على النظام في المجتمع. ولم يُفهم أي نمط محدد في الحكم على أنه تكليف رسمي.

ورغم أن المنظّرين السياسيين الذين أتوا لاحقاً أكدوا عادة على التوأمة بين الدين والدولة إلا أن فصلاً واقعياً بين السلطتين الدينية والسياسية تطور سابقاً في واقع الأمر، ومارسته مجموعات مختلفة وأحياناً متضاربة، من الناس (الحكام في مواجهة العلماء). ولم يعنِ ذلك أنه لم يكن هناك دور للقيم الدينية والأخلاقية تلعبه في الساحة العامة، بل على العكس، فالسياسة كجزء من المجال العام كان يُقصد أن ترشدها القيم الأخلاقية، وبالذات التوصيفات القرآنية لعملية صنع القرار الاستشارية والجماعية (الشورى).

لذا كان رأي العالم الأندلسي المسلم ابن عطية في القرن الثاني عشر بأن الفرد الذي لا يستشير أناساً صالحين أخلاقياً وذوي معرفة، هو عرضة لأن ينحّى عن وظيفته العامة. بعد سبعة قرون علّق المنظّر السياسي الفرنسي اليكسس دي توكفيل بأن الحرية "تعتبر الدين حامياً للأخلاقيات، وأن الأخلاقيات هي أفضل أمن للقانون". ويتوقع المرء في هذا المعرض أنه لو تسنى لابن عطية ودي توكفيل أن يلتقيا في موقع مناسب في التاريخ لكان عندهما الكثير ليقولانه الواحد للآخر حول موضوع الثقافة السياسية الديمقراطية والأخلاقية.

اليوم يعني الالتزام المشترك بتشجيع الحكم الجيد والمجتمع المدني أن يجتمع المتدينون والعلمانيون ويتفاعلوا في المجال العام على أساس قيم مشتركة كهذه. لا يتوجب على أحد منهم تبني أسلوب الآخر المتشدد في رؤيته للعالم ولا العودة إلى تعاليم الخالق (أو عدم اعتبارها)، ولكن يتوجب على كل واحد أن يصنع السلام للآخر. فهذا في نهاية المطاف تجسيد هام لما نعتبره اليوم عملية ديمقراطية.

###

*أسماء أفسار الدين أستاذة مشاركة في الدراسات العربية والإسلامية بجامعة نوتردام ورئيسة مجلس إدارة مركز دراسات الإسلام والديمقراطية. هذا المقال جزء من سلسلة حول العلمانية والعلاقات بين المسلمين والغرب تقوم بتوزيعه خدمة Common Ground الإخبارية، ويمكن الحصول عليه من الموقع www.commongroundnews.org.

المصدر: http://www.commongroundnews.org/article.php?id=21037&lan=ar&sp=1

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك