الحوار بين الاديان: ثقافته ومنطلقاته

الحوار بين الاديان: ثقافته ومنطلقاته
بقلم: الاب بيير مصري
لنبدأ ببعض التوضيحات التمهيدية، وغايتها تحديد اطار الموضوع وتوجيه الاهتمام الى محاوره الكبرى:

1- الحوار بين الاديان موضوع بالغ التوهج في الوقت الراهن، ولكثرة استخدامه حصل ما يحصل عادة مع جميع المفاهيم التي يكثر تداولها (في وسائل الاعلام وسواها ...) اذ يصير من الصعب تحديد المعنى المقصود به، وتتضارب مناسبات اللجوء اليه، مما يجعله محفوفا بالغموض او بالالتباس.

2 - انه موضوع يشغل بال الكثير من البشر، على اختلاف انتماءاتهم الدينية، مثقفين ورجال دين وجال سياسة. ويتجلى هذا الامر في الحضور الطاغي للخطاب الديني على الساحتين الفكرية والاعلامية. لهذا كثرت المبادرات الداعية الى طرحه وتعزيزه مثل: العام الدولي للحوار بين الحضارات، لقاء الاديان من اجل السلام في اسيزي، اتفاقات التبادل والحوار الموقعة بين المراجع الدينية العليا. اضف الى ذلك مجموعة الوثائق الرسمية التي صدرت في السنوات الاخيرة في هذا الشأن: عن الامم المتحدة ومنظماتها، عن المجلس البابوي للحوار بين الاديان، وعن مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، وعن العديد من الجهات المعنية بالموضوع.

3- عندما نتكلم عن الحوار بين الاديان يجب الا تغيب عن انتباهنا الكناية التي يحتويها هذا العنوان، فالاديان لا قدرة لها على التحاور الا من خلال معتنقيها، والحوار اذاً هو في كل حال بين اشخاص ينتمون الى ديانة ما، لذلك ربما كان من الافضل الكلام بالاحرى عن حوار بين المؤمنين كما اعتيد اخيرا على تسميته بالانكليزية. لذا، لا ينفصل الحوار بين الاديان عن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي ينتمي اليها اطرافه، لا بل يرتبط بهذه الظروف ويؤثر ويتأثر بها بشكل مباشر. وهذا ما جعل احد اللاهوتيين المعاصرين يطلق هذا الشعار: "لا يمكن ان يحل السلام بين الامم من دون سلام بين الاديان، لا يمكن ان يحل السلام بين الاديان من دون حوار بين الاديان، لا يمكن ان يتم الحوار بين الاديان من دون البحث عن اسسه اللاهوتية فيها".

مفهوم الحوار

1- الحوار هو احد المعطيات الاساسية للوجود الانساني: حوار الحب الزوجي، حوار التربية، حوار العلاقة مع الآخر، حوار التبادل الثقافي... وقد يتخذ هذا الحوار شكل حركات او افعال او اقوال، لكنه في كل حال ملازم للحياة الانسانية ومترادف معها. بحيث امكن القول ان رفض الحوار مع الآخر قد يكون نوعا من الانتحار بقدر ما قد يكون نوعا من القتل. وتستخدم كلمة الحوار في الغالب للكلام عن التبادل بين اشخاص او مجموعات لها مقارباتها المختلفة للواقع، او مواقفها المختلفة، ان لم يكن المتناقضة، من الحياة، او مشاريعها المختلفة في ما يخص قيادة المجتمع.

2- الحوار هو فعالية يجعل المرء فيها ذاته بشكل واع في حال انفتاح على الآخرين واستقبال لهم. ويمثل الحوار بالنسبة للبشر وسيلة يحققون بواسطتها وجودهم الشخصي، فالشخص البشري يستمد كيانه من خلال العلاقات التي يقيمها مع الاشخاص الآخرين. ان الشرطين الاولين اللذين لا بد منهما في اي حوار هما: الانفتاح المتزايد على الآخر والثقة به، فمن غيرهما لا يمكن اللقاء بالاخر ان يكون له معنى فعليا وان يؤدي الى التفاهم المتبادل.

3- يفترض الحوار توافر ثلاثة عناصر متبادلة بين اطرافه، لا غنى عنها ولا يمكن له القيام من دونها، وهي: الاحترام والاصغاء وقبول الاختلاف. ان شرط قيام حوار هو وجود الاستعداد المسبق عند طرفيه او اطرافه للقبول باختلاف الآخر واحترامه والاصغاء اليه.

4- في الحوار تتحقق بين المتخاطبين مشاركة متبادلة غالبا ما تتخذ شكل اسئلة تطرح واجوبة تعطى عنها. هذا لا يعني ان المتخاطبين لا يحملون معهم وفيهم صفاتهم الشخصية وقناعاتهم الخاصة، فالبحث عن الحقيقة فعل دائم ومستمر، وحقيقتنا الخاصة قد يتم تصحيحها او تعميقها من خلال الالتقاء بالحقيقة التي يحملها طرف الحوار الآخر. كما ان الحوار لا يمكن ان يقتصر على تقابل "مونولوغات"، انه بالاحرى استقبال لما يحمله لنا الآخر، على ان يكون هذا الاستقبال متبادلا.

5- الامر الاكثر اهمية هو ان الحوار يجعل التقاءنا بالله امرا ممكنا، اذ من خلال كل آخر نلتقي بالآخر الازلي. فالحوار يضعنا في مواجهة الحقيقة من خلال علاقة محبَّة. فعندما يخاطب المرء شخصا آخر ويجاوبه باخلاص، يتحرك كل منهما باتجاه الآخر ويحاول ان يفهمه بشكل افضل، وهذا النوع من التلاقي بين انسان وآخر لا ينفصل عن التلاقي بين الانسان وخالقه، لان التوجه الحقيقي نحو الآخر هو ضمنا توجه نحو الآخر الكلي، والتوصل الى قبول الآخر ومحبته هو في الوقت عينه محبة الازلي، وان نسمح لشخص آخر بمعرفتنا على حقيقتنا هو اختبار لمعرفة الله بنا. الحوار هو اكثر من مجرد اتصال بين طرفين. انه تحقيق لمشاركة تفتح امام طرفيها، وبشكل متبادل، ابواب المعرفة والتنقية والاستنارة، وتجعلهما في حال لقاء مع الذات ومع الآخر ومع الله في الوقت نفسه.

الحوار بين المؤمنين

1- ان استخدام مفردات الحوار في اطار العلاقات بين الاديان امر حديث نسبيا، وقد بدأ يصير مألوفا في الاوساط الكنسية بشكل تدريجي انطلاقا من ستينات القرن الماضي، وخصوصا اثر اللجوء اليه في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني. وقد تم اعتماده رسميا في الكنيسة الكاثوليكية عند تغيير اسم "سكرتارية شؤون غير المسيحيين" التي اسسها البابا بولس السادس عام 1964 الى "المجلس البابوي للحوار بين الاديان" عام ،1988 وذلك للتعبير عن احترام اكبر لاديان العالم ورغبة في اعتبارها في ذاتها وخصوصيتها.

2- الحوار بين المؤمنين هو ان يلتقي شخصان او جماعتان، ينتمي كل منهما الى تقليد ديني مختلف عن الآخر، باعتبارهم اشخاصا ملتزمين دينيا، وذلك بهدف اغناء حياتهم الدينية الخاصة وتعميقها وتوسيع آفاقها، من خلال فهم كل طرف منهما قناعات الطرف الآخر بشكل افضل في اطار مبادىء الحقيقة واحترام الحرية، وعبر تحليل مدقق لشهادة ايمانهما المتبادلة. الحوار هو جهد ايجابي غايته البلوغ الى فهم أكثر عمقا للحقيقة من خلال الوعي المتبادل للاقتناعات والشهادة التي يؤديها المخاطب عن ايمانه. بهذا المعنى يمكن القول ان الحوار هو منهج اقتراب من الحقيقة، فالانهماك في الحوار يعني الشرع في بحث متجدد عن الحقيقة، وروح الحوار تستبعد الثنائيات المتعارضة التي يستند اليها المتعصبون واللاادريون، كل على طريقته. انه يعني الحقيقة مع الآخر وليس الحقيقة ضد الآخر، ومنهج الحوار يعلن من دون لبس ان الحقيقة لا تتجزأ لكنها في الان عينه عصية على بلوغها كاملة.

3- لا بد من التمييز اولا بين ثلاثة مستويات للاجتماع بين اتباع أديان مختلفة، هي: الاحتكاك الذي يتم في مجالات الحياة اليومية، والالتقاء في مناسبات او مشاريع مشتركة، والتخاطب الذي يتوجه فيه كل طرف صوب الآخر. وليس كل احتكاك او لقاء او تخاطب بين المؤمنين بأديان مختلفة حوارا بين الاديان، فقد يولّد الاحتكاك اصطداما، وقد يسبب اللقاء نفورا، والتخاطب قد يؤدي الى مزيد من سوء التفاهم، ما لم تتوافر فيها أركان الحوار الثلاثة السابقة الذكر، بالاضافة الى عنصر أساسي يسبقها في الاهمية هو الارادة الحرة. فالحوار فعل حر لا يمكن فرضه على أحد، يمكن فقط الدعوة اليه. وفي كل حال لا يقوم الحوار بين الاديان على هامش الايمان، بل باسم الايمان ذاته، او بعبارة اخرى، لا يتطلب الحوار ان ندع ايماننا جانبا بشكل كلي او جزئي، بل على العكس الارتكاز على معطيات هذا الايمان ذاته ودوافعه الاصيلة، والا تزول عن الحوار صفته الدينية ويتحول الى حوار انساني وحسب.

4- يمكننا ان نميز ايضا بين مستويات الحوار الاربعة كما اعتادت الوثائق الكنسية الرسمية ان تفعل:

- حوار الحياة، وهو متاح للجميع في واقع التعددية الدينية السائد اليوم، ويبنى على أساس العيش المشترك في مجتمع ما وضمن الشروط الخاصة التي تحكم فرص التلاقي بين المؤمنين فيه.

- حوار العمل الانساني: والمقصود به الالتزام المشترك بأعمال تحقيق العدالة الاجتماعية ومساندة المحرومين والدفاع عن حقوق الانسان.

- حوار الخبراء او الحوار العقائدي، حيث يتلاقى المسؤولون الدينيون او المختصون فيها للتبادل المنهجي الرصين حول تراثاتهم الدينية. وأهمية هذه اللقاءات تتجاوز البيانات المشتركة التي غالبا ما تصدر عنها، لتشكل، ولو على المدى الطويل، جو الثقة والاحترام المتبادلين الذي ينتشر بين اتباع الديانات.

- حوار الخبرة الدينية (الروحي او الصوفي)، وهو يقتصر عادة على حلقات ضيقة من المتمرسين الذين تسمح لهم خبرتهم ومرتكزاتهم بمشاركة خبراتهم الدينية في بحث مشترك عن المطلق.

هل هذه المستويات هي درجات متتالية، ام هي مجالات يمكن العمل فيها على التوازي وفي تزامن وتفاعل مع بعضها البعض؟ انها في أغلب الاحيان مترافقة في الواقع، ويمكن ان تتبادل التأثير في ما بينها، وتحتاج بدورها الى تعميق متواصل لروح الحوار فيها لكي لا تتحول الى مناسبات مزيفة لتبادل المجاملات او مقايضة المصالح.

هل هذا الحوار ممكن؟

1- في تاريخ العلاقات بين الاديان غالباً ما كانت مواقف المؤمنين من مؤمني الاديان الاخرى تراوح بين التجاهل الكلي او اللامبالاة التي لا تخلو من مشاعر الاحتقار او الاستهزاء... وبين الدعوة او التبشير ترغيباً او ترهيباً، لا يخلو احياناً من استخدام للقوة. وكانت الوسيلة الفكرية المستخدمة هي الجدال دفاعاً او هجوماً. ويمكننا القول في شكل تبسيطي ان تطوّر التفكير في شأن الاديان الاخرى انتقل من الموقف الاقصائي (تكفير) الى الموقف الاحتوائي (تبشير) الى الموقف العلائقي او الحواري. وهذا ما جعل الكثيرين يبحثون عن امكانات الحوار من خلال تجاهل الانتماء الديني (او وضعه بين قوسين) لكي يصير اللقاء ممكناً. او البحث عن نوع من اساس او جوهر مشترك لجميع الاديان يتم التلاقي عليه.

2- الحوار بين الاديان لا يعفي من مسؤولية اعلان البشارة او الدعوة او الرسالة، الا ان تعزيز قيم الحوار وترسيخها ادخل تطويراً وتعميقاً كبيرين على مفهوم الرسالة، وساهم في تنقيتها من كثير من الشوائب التي التصقت بها مع الزمن، فصارت اكثر احتراماً للحرية والكرامة الانسانية، واكثر وعياً للبعد الثقافي الملازم لكل دين. يبقى من الضروري التأكيد ان الحوار ليس استراتيجيا تبشيرية. انه يستند الى احترام عمل الروح في كل انسان وفي كل التيارات الروحية المنتشرة بين البشر، انه شهادة متبادلة في البحث عن الحقيقة والعمل على استقبالها. ومسألة الحقيقة ليست من المسائل السهلة، فهناك على الدوام خطران يتربصان بمعتنقي الحقائق: خطر التعصب، او الميل الى جعل الحقيقة سلاحاً مصوباً في اتجاه الآخرين الذين لا يشاركوننا فيها او يعتقدون بسواها، وخطر اللاأدرية، او الميل الى تقليص الحقيقة الى امر محض شخصي غير قابل للتبادل، بحيث يؤدي ذلك الى انكار وجودها اصلاً.

3- الحوار بين الاديان عملية حساسة ومعقدة. يعلمنا التاريخ عموماً، وكذلك الواقع الحالي، أن الاديان كانت، وربما لا تزال في بعض الحالات او الاماكن، عوامل سوء تفاهم بين البشر، ومصادر عدوانية وعنف. فالذاكرة التاريخية لكل ديانة مثخنة الجراح، وهذا ما يجعل منها مرهفة الحساسية حيال الآخرين، لذا يتطلب الحوار بين الاديان صبراً واحتراماً. ويتطلّب نظرة الى الآخر لا ترى فيه منافساً بل رفيقاً وان اختلفت الطرق التي يسلكها كل جانب.

4- ما هي غاية هذا الحوار؟ ينبغي القول ان اللقاء والتبادل غاية في حد ذاتها، فعلى عكس التفاوض لا يمكن ان يفرض احد اطراف الحوار شروطه الجاهزة. بهذا المعنى لا يفيد الحوار بين الاديان من اجل تحقيق غاية لاحقة، اذ لا احد من طرفيه يسعى الى اقناع الآخر او هدايته، بل يتجه الطرفان الى اهتداء اكثر عمقاً الى الله. هذا لا يعني ان الحوار لا يحمل غنى لايمان كل جهة بفضل خبرة الآخر وشهادته حيث يمكن ان نكتشف بشكل اكثر عمقاً بعض النواحي او بعض الابعاد الجديدة للسر الالهي التي كنا اقل انتباهاً اليها شخصياً او في تقليد الجماعة الدينية التي ننتمي اليها. في الوقت نفسه، يساهم الحوار في تطهير الايمان لأن صدمة اللقاء غالباً ما تثير اسئلة جدية عند كل طرف وتدعوه الى مراجعة بعض الادعاءات المجانية، او تحطيم بعض الاحكام الجاهزة المتأصلة، او التخلص من مفاهيم ووجهات نظر ضيقة اكثر مما يجب.

شروط الحوار بين الاديان

يكون الحوار بين المؤمنين ممكناً عندما تتهيأ له الشروط الاربعة الآتية:

1 - على كل طرف في الحوار ان يعترف بمساواة الآخرين له. لا يعني ذلك ان الاديان كافة هي بشكل متساوٍ صحيحة وخاطئة، او حسنة وسيئة، ولا يعني ان المتحاورين متساوون في طيبتهم او طباعهم او شخصياتهم، ولا انهم متعادلون في فهم واحد للحقيقة ذاتها، او يعتنقون عقائد دينية متماثلة، وكذلك لا يعني انهم ينتسبون الى جوهر واحد صالح وشامل لما تمثله الديانة في الخبرة والحياة انما المعنى المقصود بالتساوي هو ان المتخاطبين قادرون على المساهمة في حوار حقيقي والاستفادة منه كما ينبغي، وان الاديان الاخرى لا تقل في اصالتها وعبقريتها عن الديانة التي اعتنقها وبالتالي ليست كما كان يقال احياناً "عبارة عن مجموعة من الخرافات او الاكاذيب".

2- يفترض الحوار من ثم اهتماماً مشتركاً وتحلياً بطابع ديني صافٍ من دون مساومة او مقاصد مواربة، وهذا يقتضي ان يكون التبادل بين المؤمنين بديانات مختلفة، افراداً او جماعات، ايجابياً وبناءً وساعياً الى الفهم والاغتناء المتبادلين. لا بد في هذا الاطار، من معالجة الذاكرة التاريخية الجماعية وشفائها، وهذا يقتضي تصحيح نظرة كل طرف الى الآخر، وتقويم الصورة التي تقلل قيمته. كما تقتضي القبول بأمانة بالجذور التاريخية للخلافات والمقدرة على الاعتراف عند اللزوم بالاخطاء الماضية. آنذاك يمكن بالفعل تطوير الثقة المتبادلة وتحقيق التئام الجروح النازفة.

3- يقتضي الحوار من جانب ثالث لغة خطاب مشتركة، من دونها لا يمكن المتخاطبين الا ان يكتفوا بكلام ذي طابع تقريبي وقابل للالتباس. لغة الخطاب المشتركة وحدها يمكن ان تيسر للطرفين سبل التفاهم. فالحوار بين الاديان يفترض كما هي الحال في كل حوار ان يتمكن الطرفان من الاعتراف بالانسانية المشتركة التي تجمع بينهما وتجعل منهما اعضاء في جسد البشرية الواحد السابق على الانتماءات العرقية او الاثنية او الدينية. فدربنا المشتركة هي درب الانسانية التي يدعى للسير عليها كل بشر، وعليها يمنح كل انسان امكان النجاة والسعادة. لكن الاعتراف بالمشترك ينبغي ان يتلازم مع القبول بالمختلف والاعتراف به، ففي كثير من المناسبات باءت محاولات الحوار بالفشل لأن اطرافها لم يتوصلوا الى قبول اختلاف الآخرين، اما بتجاهل وجوده اصلا، واما باخفائه بمحاولات توفيقية سريعة، او بفرض افكارهم باعتبارها المرجع الوحيد. لا يقتضي الحوار اذن عناصر مشتركة بين المتحاورين وحسب، بل يقتضي ايضا الاخذ في الاعتبار الاختلافات القائمة بين الديانات، بعيدا عن المسالمة الزائفة او التسامح المقنع. فالانفتاح والثقة المتبادلة لا يرتكزان في واقع الامر على كون الطرفين يدافعان عن اراء متشابهة او على استبعاد الاختلافات، بل على العكس من ذلك يقوم على اساس العناصر المشتركة والعناصر المختلفة على السواء.

4 - يفترض الحوار اخيرا ان يكون المتخاطبون اشخاصا يتمتعون باستقلال الرأي، وقادرين على تكوين احكامهم ومواقفهم الذاتية انطلاقا من خبراتهم الدينية الشخصية والفريدة حقا، اي ان يكون لديهم بالفعل ما يقولونه، الواحد للآخر. يتطلب الحوار فكرا منفتحا، واستعدادا للاصغاء والتعلم، ومحاولة مخلصة للتحرر من الاحكام والاراء الجاهزة. كل دين يعتبر ذاته مقياسا نهائيا وتزعجه مواجهة الديانات الاخرى التي عندها اعتبارات مماثلة، من هنا لا يمكن الحوار ان يقوم على دحض الاخر او هدايته، انما على التوضيح والفهم والتعلم من الآخرين.

من اجل التربية على الحوار

يساهم الحوار بين الاديان في توطيد السلام والتفاهم المتبادل وروح المغفرة والمصالحة، في عالم يتسم في كثير من الاحيان بالعنف، والخوف من الاخرين، وانواع سوء الفهم وفقدان الثقة المتبادلين، وتصاعد مجافاة التسامح والاصغاء الى الاخر باحترام. لا يتجاهل هذا الحوار ما بين تراثات الاديان الايمانية والاجتماعية من اختلافات، لا بل يسمح باكتشافها وتوضيح قيمتها، كما يسمح بمعرفة افضل للذات وبتبادل للثروات الروحية. انه لا يؤدي بأي طرف الى الذوبان في الآخر، بل يجعله اكثر رسوخا في معتقداته دون انغلاق او تعصب. فهذا الحوار لا يبغي في الحقيقة لا الاندماج بين الهويات الروحية ولا تكوين اي نوع من انواع التوفيق الديني، ولا تسهيل اية عملية اقتناص. انه فعل انفتاح واحترام واعتراف بامكانات العيش المشترك في اطار عالم تعددي.

ان نظرة الآخر الى تقليدنا الديني تساعدنا في اغلب الاحيان على تعميق طريقة ايماننا الشخصية، لان الاعتراف بالاختلافات واحترامها لا تؤدي بأحد الى الشعور بأنه مدعو الى التنصل من معتقداته أو تجاهل خصوصية تقليده الديني العريق.

يمكن واقع الحوار بين الاديان ان يصير اكثر امتدادا بين المؤمنين، بقدر ما يتم بشكل جدي الانتقال الى نمط تربية دينية على الحوار، غايتها تنشئة المؤمنين في جو انفتاح وتبادل واحترام للتعدد.

ان الاساس الذي يجب ان تستند اليه التربية على الحوار هو ان تقوم كل جماعة دينية بفحص وتحليل متجددين لنصوصها التقليدية وتاريخها المقدس، بحيث يتم تجديد العناصر التي تم استخدامها في الماضي (او في الحاضر) لتبرير الصراعات واضفاء الشرعية على ممارسة العنف، والبحث عن الامكانات المتعددة لاعادة تفسيرها بما يتفق مع مجمل العناصر الاخرى من تقاليد ووصايا وممارسات، بحيث تتجه صوب الدعوة الى التسامح والاحترام المتبادل. ويقتضي ذلك تشجيع الدراسات التي تهتم بتحديد صورة الاخر في النصوص الدينية التقليدية وآليات تكونها، لكي يتم على اساسها تطوير توجهات جديدة في داخل الانظمة التربوية الخاصة بكل جماعة دينية، لكي تتصف طريقة تقديمها للديانات الاخرى بأكبر قدر من الموضوعية والاحترام. كما لا بد من العمل على رصد النماذج الايجابية للحوار وتوثيقها والتعاون بين الجماعات الدينية في الماضي والحاضر في شتى انحاء العالم، والعمل على تحليلها وتقييمها والتعريف بها، وبكل المبادرات الناجحة التي تساهم في شكل أو في آخر في تعزيز قيم الحوار في اوساط المؤمنين العاديين.
المصدر: http://www.terezia.org/section.php?id=183

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك