التعايش بين الأديان عند ابن تيمية
أضافه الحوار اليوم في
التعايش بين الأديان عند ابن تيمية
محمد العواودة
لعل السؤال المتجدد في دعوات التقريب بين الأديان، على أي أساس نتحاور، وعلى أي مبادئ وقيم وأفكار نتفق لنتعايش؟ سؤال له مركزيته التاريخية في الفكر الإسلامي لفتح باب أي حوار حقيقي للنقاش مع الآخر، بعد أن مزقت أماني الشيطان بني البشر، وفرقتهم شيعا، حيث جمعهم الله تعالى على كلمة التوحيد التي كفلت صون حياة الناس وازدهارها، ألفة ومحبة وتعاون فيما بينهم.
في هذا السياق يقدم محمد خير العبود في كتابه القيم "التعايش بين أهل الأديان عند شيخ الإسلام ابن تيمية"، الذي صدر عن دار السوادي بالسعودية سنة .1966م في 160 صفحة، عشر قواعد تأصيلية جمعها ورتبها من فكر شيخ الإسلام, تشكل في مضامينها رؤية توضيحية لبعض المفاهيم الإسلامية، ومحاور تقعيدية للحوار مع الآخر؛ لإيجاد أرضية مشتركة معه للتفاهم، أولتجيب عن هذه المسألة المهمة في حياة البشر، فيما يكفل النجاح في أي حوار بين الأديان، وفيما يستقيم مع مطلب الشارع صاحب الخلق والرسالات.
القاعدة الأولى: تكشف الأصل الجامع للديانات في أن دين الأنبياء واحد، وهو الدعوة لعبادة الله تعالى، فكان الرسل يبشر أولهم بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، وعلى ذلك فإن الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم شرط جوهري للحوار والتعايش، وجامعه في ذلك أن رسالته عليه السلام مؤصلة ومؤيدة لجميع رسالات إخوانه الرسل، لتحقيق معنى التوحيد، الذي يخبر بأن لله حقاً على العبد لا يشركه فيه مخلوق، كالعبادة والتوكل والخوف والخشية والتقوى... الخ، ومنه طاعة الرسل عليهم السلام، الذين آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
القاعدة الثانية: وتدور حول الالتزام بالكتاب السماوي، فالكفار لم يغلوا من جهة ما أثبتوه من وجوه الحق من كتاب الله، وإنما فيما اتو به من جهة ما نفوه عن الله وسنة رسوله إلى غير ذلك، وحينئذ وقعوا في الشرك، فمن خرج منهم عن منهاج النبوة وقع في الشرك، حيث أن الشرك لم يكن مؤصلا في الآدميين، بل كان آدم عليه السلام ومن معه من بنيه على التوحيد، والكلام الذي خوطب به بنو آدم، تضمن أن الله أوجب عليهم اتباع الوحي الوارد على أنبيائهم.
القاعدة الثالثة: والتي يجب فيها الاتفاق على أن أتباع الأنبياء والمرسلين الذين يشكلون علاقة الصلة بين الخالق والمخلوق، والعبد والمعبود يحملون معهم إرشادات نورانية كفيلة لهداية البشرية، وهم قادة سفينة النجاة، شعارهم واحد وهدفهم واحد، وأن من آمن بواحد منهم فيجب عليه أن يؤمن ببقيتهم ويتبع خاتمهم، فاليهود لم يؤتوا من جهة ما أقروا به من نبوة موسى والإيمان بالتوراة، بل هم في ذلك مهتدون، وإنما بما أتوا به جهة ما لم يقروا به من رسالة المسيح ومحمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك النصارى لم يؤتوا من جهة ما أقروا به من الإيمان بأنبياء بني إسرائيل، وإنما أوتوا من جهة كفرهم بمحمد عليه السلام، وأما ما وقعوا فيه من التثليث والاتحاد فهو من جهة عدم اتباعهم لنصوص التوراة والإنجيل.
القاعدة الرابعة: ويجب أن تقوم على مبدأي العلم والعمل في فهم لغة التعايش ودورانها على كلمة الإسلام، التي تتضمن الاستسلام لله والإخلاص له في العمل، فقد عُلم أن إبراهيم الخليل "أبا الأنبياء" كان أمة وإماما لكلمة التوحيد، حتى جاءت الرسل من بعده، فابتدعت اليهود والنصارى ما ابتدعته مما خرج بهم عن دين الله الذي أمروا به وهو الإسلام "العام" بأحد الضدين لكلمة الإسلام، فاليهود غلب عليهم الكبر وقلّ فيهم الشرك، والنصارى غلب عليهم الشرك وقلّ فيهم الكبر، ولما كان أصل دين اليهود الكبر؛ عاقبهم الله بالذلة، ولما كان أصل دين النصارى التعدد في طرق الوصول إلى الله عاقبهم بالضلال، فعوقب كل من الأمتين على ما اجترحته بنقيض ضده.
القاعدة الخامسة: وتدور حول استحضار علامات صدق المحبة للخالق، لأن الحب ينتج عنه الصدق، فمن أحب الله أحب بالضرورة جميع رسلة وصدّقهم، وعليه فيجب الإجابة للرسل وطاعتهم، وهذه قاعدة مهمة في توحيد الأديان لجمعها على أصول واحدة، لان المحبة تقتضي حسن الاتباع، ولما كان المصطفى عليه السلام يمثل اللبنة الأخيرة لإتمام بيت النبوة، كان لزاما على كل مؤمن أن يحبه ويتبع إرشاداته، سيما أن دعوته تامة لجميع الخلائق.
القاعدة السادسة: وتتضمن اتباع ما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأنبياء كلهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، إلا أن أتباعهم لم يحملوا لواء هذا الأمر، فاختص الله به أمة محمد عليه السلام، وجعلهم به خير أمة أخرجت للناس، ويقع ضمن أولويات هذا المجال الدعوة إلى توحيد الأديان وتعايشها مع بعضها تبعا للمراحل التي خطها لهم خاتم الأنبياء، ولهذا فقد كان إجماع هذه الأمة حجة على سائر الأمم الذين لم يأمروا بمعروف بين الناس ولم ينهوا عن منكر فيهم، ولا جاهدوا أنفسهم لنيل هذا المطلب.
القاعدة السابعة: وتدعو إلى التزام سبل الحوار في وقت المهادنة مع الآخر، من أجل إيجاد مناخات للتعايش معه، مع القيام بالتذكير بالمبادئ الإسلامية القادرة على إدارة الاختلاف بين الأديان بكلمة التوحيد، وهو ما استفاد منه شيخ الإسلام حيث عرض على "سرجوان" ملك النصارى بقبرص مبادئ الإسلام للتعايش، التي أثبت فيها له أن أصل الأديان كان واحدا باجتماعها على عبادة الله وحده، حتى ابتدع الناس الشرك وعبدوا الأوثان كالبراهمة ونحوهم من منكري النبوات، ثم ابتدع النصارى واليهود ما ابتدعوه حتى دخل إلى دينهم الفساد، فقصر اليهود في الأنبياء حتى قتلوهم، وغلا النصارى بهم حتى عبدوهم، إلا أن المسلمين اليوم هم النواب الحقيقيون عن رسالة المسيح وموسى عليهما السلام لثباتهم على رسالة التوحيد.
القاعدة الثامنة: ويبين فيها شيخ الإسلام في سياق طرحه لمبادئ التعايش، أن المسلمين لم يجبروا أحدا من العالمين للدخول في الإسلام عنوة، إلا أن المقاتلين منهم للإسلام والمانعين للدعوة هم الذين يخيرون بين الدخول في الإسلام أو بين عقد الذمة معهم، الذي يتم بموجبه دفع الجزية مقابل عيشهم وحمايتهم في بلاد المسلمين، وحيث يلتزمون بما فيه من أحكام إسلامية عامة في المعاملات والجنايات.... الخ، كما يمنعون بموجبه من إظهار ما يعتقدون حله من خمر ولحم خنزير.
القاعدة التاسعة: وتوضح معنى عقد الذمة في الإسلام مع أهل الكتاب، حيث يتكفل المسلمون حماية أهل الذمة الشخصية وحماية بيوتهم ودور عبادتهم، ولكن دون أن يظهروا شعائر الشرك في أرض الإسلام ذات الرسالة الدينية الموحدة، لأنه لا تصح قبلتان في أرض الإسلام كما أخبر النبي عليه السلام، وليس لأحد من أهل الذمة ان يكاتب أهل دينه من أهل الحرب، ولا يخبره بشيء من أخبار المسلمين، فقد ثبت عند أهل الخبرة أن أهل الذمة من يهود ونصارى كانوا يكاتبون أهل دينهم في أخبار المسلمين ويطلعونهم على أسرارهم، لتقويض كلمة التوحيد، ومنع نشر رسالتها التي أمر الله بها عامة المسلمين.
القاعدة العاشرة: وتتمحور حول فهم رسالة الإسلام الخالدة كرسالة رحمة لجميع الأمم، وتركز على حرمة سفك الدماء بغير حق في المسار الطبيعي للدعوة الإسلامية, وهو ما يتضح بجلاء في وصايا النبي عليه السلام ووصايا الخلفاء الراشدين للجيوش الإسلامية الفاتحة، بنهيهم عن قتل أي طفل أو امرأة أو شيخ هرم أو راهب محبوس في صومعة، وهي غاية الرحمة الإسلامية حتى في أوقات الشدائد، إذا ما فهمت الوحشية التي تقاتل بها الجيوش المشركة أهل رسالة التوحيد.
الحوار الداخلي:
الحوار الخارجي: