قيم التعايش

قيم التعايش

منح الصلح *

لم يكن أبو العلاء المعري متشائماً بقدرة الإنسان، وكيف يكون كذلك وهو الذي خاطب الإنسان قائلاً:

وتحسب أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

ولعله ما من بيت من الشعر شرح للانسان قدراته وعظمته كهذا البيت للمعري الذي قال: كل شيء لكل إنسان من أول الطريق فالكون والانسان هما قطبا الحوار الثنائي المستمر منذ فجر الخليقة.

لعل أهم ما أعطته الأديان السماوية للتقدم الحديث هو تسليمها بعد طول ممانعة بقدرة الفرد الواحد على تجاوز ذاته، والتحول الى ينبوع عطاء لا ينضب، بل إن الانسان لايكون إنساناً بالمعنى الصحيح إلا اذا اعتبر العطاء للغير تاج سلوكياته، والضابط الموجه لتصرفاته.

ولعله قبل أن يعرف الانسان بأنه حيوان ناطق كما صنفه بعض العلماء كان محيطه قد فهمه وتعامل معه البعيد والقريب على أنه موجود ليعطي وليزيد من إنسانية الانسان بدءاً بأسرته ومحيطه، ووصولاً الى مطلق انسان يلقاه في هذا العالم ويتعامل معه ويشاركه معنى الحياة وقيمها وأهدافها.

وإذا كانت المحبة هي القيمة الروحية التي التزمتها المسيحية كدين سماوي فإن جهاد النفس أو الجهاد الأكبر هو القيمة التي دعا اليها الاسلام المسلمين إثراءً لحياتهم.

ذلك لأن كلتيهما عمليتا عطاء وإن تكن الثانية تبقى في بلداننا ذات رتبة خاصة لأن المعطي تجربته وآلامه لا أمواله فقط هو الأسمى والأكثر إثراء للآخر ذلك لأنه يكون قد أعطاه عصارة حياته وهيهات أن تكون الأموال من دون تجربة الحياة قادرة وحدها على أن توصل المتلقي الى ساحة النجاح والسلامة معاً.

وإذا كانت المحبة هي القيمة الروحية التي قدمتها المسيحية كدين على كل قيمة فإن جهاد الذات أو الجهاد الأكبر هو القيمة الروحية التي دعا اليها الاسلام.

لقد أثر عن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يتحدث مرة عن الجهاد الأكبر فلما سأله أحد المؤمنين ما الجهاد الأكبر يا رسول الله وما أفضليته على غيره أجاب إنه جهاد النفس أي ترويضها وتمكينها من التغلب على شهواتها، والاندفاع في المروءات؛ فالمؤمن هو أولاً القوي القادر على نفسه والعامل لخير إخوته في الانسانية، المعوز منهم حتى يتحرر من عوزه، والمغلوب على أمره حتى ينهض ويستقوي بنوازع الخير في أعماقه ونفثات الأخيار حيثما هم فذلك هو حجر الزاوية في انطلاقة الخير.

ولعل أرقى ما أعطته الأديان للبشرية توجيهها الى تنقية الذات أولاً من نوازع الطمع والاستئثار وإهدار حقوق الآخرين من أبناء الانسانية.

وقد تم الفراق بين المسيحية واليهودية بإعلان المسيحية أولوية تحرير الذات من نوازع الكيد للآخر وسد الطريق في وجهه، وتعطيل مسيرته وكأن الأنا الطامعة في اليهودية هي صاحبة القرار الأزلي.

فالديمقراطية ليست أغنية، ولا هي رتبة يعتز لبنان بالحصول عليها بين مجموعة الدول العربية المحيطة به، وإنما هي شهادة بسن الرشد الذي بلغته السياسة اللبنانية التي تميزت منذ العصر العثماني فالانتدابي الفرنسي فالاستقلالي بجهوزيتها للأخذ بهذا النظام المتقدم الذي احتكره الغرب سنوات طويلة.

وإذا كان تاريخ النهضة العربية قد مرَّ ويمر دائماً أولاً بمصر، فإنه قد احتفظ ايضاً بحصة للبنان شريك مصر في قاطرة التقدم العربي ولطالما كانت سورية هي المستفيدة الأولى من الخطوات اللبنانية على طريق التقدم. وهذا قديم ومكتوب له الاستمرار الى المستقبل لما فيه خير العرب كل العرب.

إن بعض دولنا العربية تتهاتر فيما بينها بالسابق والمسبوق، ولكن الوعي العربي عند الشعوب قد تخطى مثل هذه الدعوات المسرحية الخالية من الجد، والنزوع الى التقدم، فالمقارنة المشرفة لكل عربي هي التي تكون في تسجيل سبقٍ على إسرائيل لا على أي بلد عربي آخر. وهذا أدب ينبغي أن نؤدب به أنفسنا نحن العرب.

فالقوي على ذاته هو أقوى الأقوياء، والضعيف أمام ذاته هو أضعف الضعفاء.

وإنما الجهاد ضد النفس هو أصدق المعايير في امتحان النوعية التي ينتمي اليها أي بشري.

إن النبوة رتبة عليا لم تُعط من قديم لبشري إلا إذا كان هذا البشريّ عرف بعمق معنى جهاد الذات، بالممارسة لا بالكلام فقط.

وإذا كانت المسيحية كدين امتاز بين الأديان بدعوة المحبة فإن الاسلام امتاز بجهاد النفس رتبة وممارسة روحية سامية دعا اليها كل المؤمنين من كل الأديان.

ذلك ان أصعب الجهاد وأكرمه عند أهل التقوى هو جهاد النفس والقاضي فيه هو الضمير الذاتي للفرد العارف وحده بما أعطي وما كان بإمكانه أن يعطي، وما الكبير الحقيقي من الناس إلا الكبير في عين نفسه وعيون الكبار الحقيقيين من البشر القريب منهم والبعيد فهؤلاء هم المقاييس يكون الفرد بهم نموذجاً بين الناس وللناس بالفضل والمثال فأنت تحسب أنك تأخذ منهم بينما أنت شريك بينهم تعطي خير ما يعطي إنسان للبشر وهو المقياس في التعامل والهدى وسواء السبيل.

ولقد منّ الله على اللبنانيين بأن جعل مؤسسي دولتهم المستقلة من الأحرار الذين واجهوا الحكم الأجنبي كبشارة الخوري ورياض الصلح وعبدالحميد كرامي وعادل عسيران ممن كانوا الصفوة التي جسدت النقلة من عتمة الانتداب الى أنوار الاستقلال، ولعل قلائل يعرفون أن الاستقلال السوري عن فرنسا والاستقلال اللبناني كانا اشبه بالفخر في حركة التحرر النضالي لدول آسيا وأفريقيا.

كان الرئيس فؤاد شهاب الذي يعتبره الكثيرون من اللبنانيين أحد أفضل رؤسائهم ينصح معاونيه بعدم تضخيم الزلات على حساب الايجابيات في سلوكيات العمل الحكومي؛ لأن نتيجة ذلك زرع الاحباط في نفوس الناس.

إن الزهد بالمظاهر وبساطة العيش رفعا من منزلة الرئيس فؤاد شهاب عند عامة الناس وخاصتهم خصوصا وهو من الأمراء وأجداده حكموا البلاد بعضهم كان مسيحياً وبعضهم كان مسلماً وهذا ما أضفى على شخصه بريقاً خاصاً جذاباً عند مختلف الطوائف فالكل يعتبره قريباً منه لا من حيث المشرب السياسي فقط بل من حيث الدين أيضاً.

والأهم أنه كان وظل ديمقراطياً بالمعنى السياسي والاجتماعي، جدياً في مفهومه لوظيفته وعمله وتوقعات الناس منه.

يتذكر الناس في لبنان فؤاد شهاب لأنه كان لبنانياً وعربياً وكان مسيحياً ولم يكن بعيداً عن الاسلام.

اعتبره بعض اللبنانيين حركة تصحيح على الديمقراطية التي عرفوها والتي لم تكن تحمل معنى الدولة.

وإذا كان بعض القادة المزيفين قد صنعوا احيانا طغاة وظالمين فإن القادة الحقيقيين اعتبروا انفسهم دائماً صنفاً متقدماً من البشر، والتزموا بذلك فهم مؤذنو الفجر في انتقال البشرية من حال الى حال وإنما سميت هذه البلاد شرقاً لأنه منها أشرقت في وقت مبكر أنوار التقدم البشري الأولى في وقت كانت فيه البشرية تعيش في ظلام دامس الأُمرة فيها لمن فرض نفسه قائداً بقوة السلاح والتقدم العلمي، فالقوي هو صاحب الصوت الأصيل المسموع يشير على الناس بالخطو الى أمام فيتقدمون وبالانكفاء فينكفئون..

* الرياض السعودية

المصدر: http://rpcst.com/news.php?action=show&id=3957

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك