مثبّطات الحوار مع الآخر

مثبّطات الحوار مع الآخر
( قراءة نقدية في العقل الغربي )

الدكتور قطب الريسوني
أستاذ الفقه المساعد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي

مقدمة :

إن الجفوة بين العالم الإسلامي والغرب لا يزيدها تراخي الأيام وازدحام الإشكالات إلا اتساعاً وتجذّراً ، بضغط من المستجدات الدولية الموّارة تارة ، وتأثر بتداعيات المواجهة التاريخية بين المعسكرين تارة ثانية ، فضلاً عن ضمور التأصيل الفكري المواكب لقضايا الحوار الحضاري والتعايش الأممي ، مما جعل الصراع خياراً أثيراً في معترك الحرب وهدأة السلم على حد سواء ، وأهدر فرص الحوار الحضاري القمين بتقريب وجهات النظر ، ومدّ جسور التعاون .
ومن هنا لجّ الداعي إلى استجلاء أسباب هذه الجفوة ودواعيها في إطار قراءة حصيفة لمجريات العصر وبواطن الأمور ، حتى تشخَّص الأزمة في الحوار مع الآخر ، ويوصف المخرج منها بصيغة شرعية سليمة تحفظ على الذات هويتها ، وتتيح التعايش مع حضارات أخر ، وهي صيغة لا تروم إرضاء الغرب ، وطلب ودّه ، وتطييب خاطره ؛ وإنما هو الدور الاستشرافي للإسلام يلزمنا باحتواء الآخر ، والتفاعل معه ، والإفادة منه ، في إطار الأصول المرعية والثوابت المصانة .
وإذا كانت آليات الحوار قد تقطعت أوصالها بين الذات والآخر لبواعث ودواع كثيرة ، فإننا سنجتزىء في هذا العرض برصد الأسباب الراجعة إلى الاستراتيجية الغربية التي ما فتئت تثبط إمكانات الحوار ، وتتوثب بين الحين الآخر للانقضاض على العدو ( المفترض ) بمنطق القوة والغلبة ، وتحت دثار المحافظة على حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب . ونحن لا نبرىء الذات من أخطائها وتحمل حظ من الوزر في تعطيل الحوار الحضاري ، بيد أن الغرب _ في تصورنا _ يتحمل الوزر الأكبر بحكم هيمنته المتسلطة ومعاييره المزدوجة التي ترعى مصالح الدول الكبرى والحليفة على حساب المستضعفين في الأرض ، فكيف ، إذا ، ينشأ الحوار الجاد ، وتتهيأ أسبابه في ظل الطغيان السياسي واشتطاط موازين العدل ؟!
وقد وزعنا هذه الدراسة إلى ثلاثة مباحث :
_ المبحث الأول : موسوم بعنوان : ( فرش تعريفي ) ، بسطنا فيه تعريفاً بالمفردات التي تشكّل إطار الدراسة ، وأركان العملية الحوارية ، وهي : الحوار ، والذات ، والآخر .
_ المبحث الثاني : موسوم بعنوان : ( الذات والآخر : علاقة خصام أو وئام ؟ ) ، رصدنا فيه العوامل التي تضافرت على صياغة العلاقة بين الإسلام والغرب ، وهي ثلاثة :
1 _ الصراع بين الإسلام والتنصير
2 _ الغزو الاستعماري

3 _ صورة الإسلام في المخيال الغربي
ولا غرو أن تكون العلاقة بين المعسكرين ـ بعد تبيّن هذه العوامل وتحليل أبعادها _ مشوبة بالتوتر والصراع في بعدها التاريخي وامتدادها المعاصر .
_ المبحث الثالث : موسوم بعنوان : ( مثبطات الحوار مع الآخر في ضوء الواقع المعاصر ) ، عنينا فيه بتشخيص تجليات الأزمة في الحوار مع الآخر ، وقد كان ( الآخر ) _ في تصورنا _ مؤاخذاً بجريرة إهدار فرص الحوار بين العالم الإسلامي والغرب ، لأنه غير مؤهل أيديولوجياً ونفسياً لقبول المخالف، ولا معان على استيعاب قيم التعايش والتسامح ، بعد أن عصفت به الأطماع المادية والتطلعات الاستعمارية . ومن ثم كانت مثبطات الحوار الحضاري راجعة إلى طبيعة العقل الغربي المجبول على الرؤية الأحادية للاختلاف ، واكتساح ( الآخر ) ، وفرض الهيمنة ، ويمكن إجمال هذه المثبطات فيما يأتي :
1 _ الهيمنة الغربية
2 _ مقولة صراع الحضارات
3 _ جهل الغرب بالآخر
4 _ التضليل الإعلامي
وقد ذيلنا العرض بخاتمة أودعناها زبدة القول في موضوع العوائق المنتصبة أمام الحوار الحضاري المرجو ، وعلى رأسها الغرب غير المؤهل لإجراء الحوار ، وقبول الآخر ، ورعي سنة الاختلاف ، مادامت آلياته العسكرية والتكنولوجية مسخرة في التمكين للتطرف الديني ، واستيفاء المصالح الاقتصادية ، وطمس الهوية الإسلامية بدعوى مناهضة الإرهاب ، وتحقيق السلام العالمي .
نسأل الله تعالى أن ينفع بهذا العمل قارئه ، ويوطىء له أكناف القبول يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، الذي علم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم .

المبحث الأول :
فرش تعريفي

إن تحرير مفاهيم المصطلحات مدخل إلى إنشاء حوار بنّاء ، وقطع دابر المماحكة ، واستجلاء أوجه الائتلاف والاختلاف بين الفرقاء ، ولذلك رأينا من الضرورة المنهجية بيان المفردات التي انبنى عليها الإطار المعرفي للدراسة ، وهي مفاتيح مساعدة على تنزيل الخطاب في محلّه المناسب ، وانتزاع البعد من سياقه الصحيح .
1 _ الحوار
الحوار أسلوب يجري بين طرفين ، يدلي كل منهما بما يراه صحيح المنزع ، ناهض الحجة ، ويراجع الطرف الآخر في منطقه وفكره ، قاصداً تجلية الحقائق وتقريرها ، والحوار وإن كان تعاطياً للحديث ومراجعة له ومناوبة فيه بين طرفين ، فإنه لا ينطوي على نوازع الخصومة والمراء على طريقة الجدل ،وإنما هو أداة أسلوبية لاستيفاء النظر في موضوع معرفي ، وآلية لإشباع القول في إشكالية يبدي فيها طرف رأيه ، فيتمثله الطرف الآخر ويجيب عنه ،فيمتد بينهما حبل التجاوب تأثراً وتأثيراً ، وأخذاً وعطاءً .
وإذا كان للحوار أبعاد متباينة وحقول شتى ، فإنه بالمفهوم الحضاري يعني فيما يعني البحث عن المشترك بين الأمم في القيم والآداب والأنماط الحضارية ، وإحلال التعايش محل المواجهة ، مع الإقرار بأن التنوع حقيقة ، والاختلاف حق . ومن هنا كان المقصد من الحوار الحضاري التقريب بين الفرقاء
بالتعاون على المتفق عليه ، والالتفاف حوله ، بحثاً عن المواءمة ، ونبذاً للمشاحنة .
بيد أن الحوار في سياقه الحضاري لا يعني التماثل بين الطرفين ، ونسخ المهمين الأقوى لهوية الآخر المختلف ، والانسلاخ عن المعتقد الأصلي والثوابت المرعية ، وإلا كان عارياً عن الشرعية العلمية ، ومفرغاً من الدلالة الحضارية ، ومكرّساً للهيمنة المتسلّطة . يقول المفكر التونسي محمد الطالبي : ( إن قاعدة الانطلاق هي قبول الغير كما يريد أن يكون ،والقاعدة في ذلك ألا يكون الحوار مفاوضات نقوم فيها بتنازلات كي أن نصل إلى قاعدة مشتركة . أنا أرفض أن يكون الحوار مفاوضة ، لأنه يستحيل على أي إنسان أن يتفاوض على حساب ما يعتقده حقاً ، يستحيل علي أن أقوم بتنازلات فيما أعتقد أنه حق في صلب اعتقاداتي الدينية ، وهذا يصح كذلك بالنسبة إلى المسيحي واليهودي وحتى بالنسبة لغير المعتقدين ) 1 .
ــــــــــــ
1 عيال الله للطالبي ، ص 168 .

2 _ الذات
إن المقصود ب ( الذات ) في سياق هذه الدراسة العالم الإسلامي بمشاربه الحضارية واللغوية المتباينة ، وأقاليمه الجغرافية القاصية والدانية ، فالإسلام يعدّ الآصرة الدينية التي تلحم بين الشعوب والأقطار ، والرافد الذي يثري حضارة الأمة ، ويبرز كيانها المستقل ، فلا بدع أن تميّز أمة بإسلامها ، فيصير لها شعاراً ودثاراً ، بل ومنطلقاً في حلائب العطاء والبناء والحوار الحضاري .
والعالم الإسلامي ، اليوم ، قطب بارز في عملية الحوار الحضاري ، إذ له من الوزن البشري والاقتصادي ، ووفرة الأتباع والأشياع ، ما يحمل الآخر المختلف حملاً على إعداد العدّة لمواجهته وإزالة سلطانه ، وإذا كان هذا الآخر يلهج أحيانا بحتمية الحوار الحضاري ، فإن ذلك لا يعدو الشقشقة الفارغة في أكثر الأحوال ، وربما كان المقصود من هذه الدعوة استطلاع المواقف الدفاعية للآخر / المسلم تمهيداً للانقضاض عليه .
3 _ الآخر
إن استعمال مصطلح (الآخر ) بمعنى الغرب المسيحي _ اليهودي بمختلف أقاليمه الجغرافية ، ومتباين مشاربه الدينية والحضارية ، إطلاق شائع على ألسنة المفكرين والكتاب ، لا يكاد يخلو منه حديث عن الإسلام والغرب ، وآفاق العلاقة بينهما في القديم والحديث ، وإذا كنا نميل إلى هذا الإطلاق في سياق هذه الدراسة جرياً على عرف اصطلاحي دارج ، فإننا نلحّ ، في الآن عينه ، على التوسّع فيه توخياً للدقة والاستيفاء ، ذلك أن كتاب العصر يحصرون ( الآخر ) في الغربي تارة ، والمسيحي تارة ، والأمريكي تارة ثالثة ، مع أن المصطلح لا يضيق في إهابه الدلالي عن كل مختلفٍ في دينه وحضارته أيا كان لونه أو جنسه أو موقعه الجغرافي .
فالآخر يمكن أن ينتمي ، إذاً ، إلى حضارة إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية أو اليابان ، مادام مختلفاً في دينه وحضارته عن العالم الإسلامي عقيدة وتاريخاً ومنهجَ حياة .
المبحث الثاني :
الذات والآخر : علاقة خصام أو وئام ؟

إن العلاقة بين الذات والآخر ، أو بين الإسلام والغرب ، موفورة المشاهد ، ضافية الذيول ، ضاربة بجذورها في أغوار التاريخ .. تخبو جذوة الصراع ثم يكون لها ضرام ، في أطوار تبادلية عبر تراخي العصور ، وهو صراع ديني في جوهره رغم ما يتقنّع به من سرابيلَ شتى ؛ ذلك أن الحروب السياسية والاقتصادية والعسكرية ليست إلا نقعاً مثاراً ينجلي عن حقد دفين على الإسلام ، وتضييق على أتباعه ، واستطالة على مقدّساته !!
فالإسلام يخترق الغرب في عقر داره بدعوتـه الخيّرة المعطاء ، والغرب يجترّ ( العالم الإسلامي إلى بطون إمبراطورياته ) 1 ترغيباً في نموذجه الحضاري المتهالك ، لأن الإنسان فيه تخترعه الآلـة المحايدة العارية عن أي سلوك اجتماعي أو قيمة إنسانية ، فيبتلى في حياته بالقهر الاجتماعي الناتج عن سطوة التكنولوجيا ، وهو ما يسمى في اصطلاح أهل العصر بالهوة الحضارية .
فالصراع ، إذاً ، قديم جديد ، تكتنفه حركات من المدّ والجزر ، وربما كان أبدياً لا يطوى له بساط إزاء المستجدات الموّارة وخلفيات التاريخ المحموم !! وحتى في هدأة السلم وظل التعايش الذي ينشده أهل المعسكرين فإن الصراع يبدو خفياً متستراً بدثار الهدنة الخادعة التي تعدّ جزءاً لا يتجزأ من الحرب . نعم ، قد يكون هذا السلم أو ذاك التعايش تبشيراً بأفول الأشكال التقليدية للصراع ، لكن المستقبل المرموق ربما يحبل بأشكال أخر أكثر حدّة وضراوة ومخاتلـة !! ولعل مقولـة الشاعر الإنجليزي روديار كبلنغ : ( الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا ) تختصر لنا تفاصيل الاختلاف الحضاري والقيمي بين المعسكرين في حلقات تاريخية موصولة غير مقطوعة .
والذي يبدو أن اللقاء الجديد بين الإسلام والغرب هو أخطر لقاء بين حضارتين في التاريخ كلّه ، من حيث سعة مجاله ، وتنوع أساليبه ، وأثره البنيوي في الحضارة الإنسانية ؛ ذلك أن حضارة الغرب متسلطة غازية تروم نسخ الأنماط الحضارية الدارجة ، وصهرها في بوتقة نموذجها ( الأوحد ) قيماً وأساليبَ ومقاصدَ .
ولعل من اللائق هنا بل من المتعيّن أن نرصد العوامل التي اصطلحت على تشكيل العلاقة بين الإسلام والغرب ، واستجلاء أثر هذا العامل أو ذاك في إذكاء جذوة الصراع ، وجعله بديلاً عن كل
ــــــــــــ
1 الإسلام والغرب والديمقراطية ، لجودت سعيد وعبد الواحد علواني ، ص 11 .

حوار حقيقي خلاّق !! ويمكن إجمال هذه العوامل فيما يأتي :
1 _ الصراع بين الإسلام والتنصير
يعد التنصير مطية ذلولاً لبسط النفوذ الاستعماري ، وتوطيد أقدامه على أرض الإسلام ، ذلك أن العدو يدرك تمام الإدراك أنه لا سبيل له إلى استيفاء مصالحه وتحقيق أطماعه ، وعقيدة التوحيد حيّة في نفوس بَنيها ، تصوغ القيم البانية الهادية ، وتهدي إلى شطآن الخير والأمان !!
وليس الاستشراق إلا لوناً من ألوان التنصير لاءم نفسه مع ظروف الحياة ، ولبس لكل حال لَبوسها ، ودراسة كل واحد منهما تجلّي الصورة الكاملة عن الآخر 1 ، وكلاهما صنيعة الاستعمار ، ونتاج الحروب الصليبية .
ويحلو لكتاب العصر استعمال مصطلح التبشير بمعنى التنصير ، وهو توسّع في التعبير لا شفيع له من جهة الدين والتاريخ معاً ، لأن التنصير حركة خبيثة تروم زحزحة المسلمين عن عقائدهم ، والارتداد بهم عن دينهم ، وتركب لذلك وسائل شتى ، كالتعليم الإرسالي ، والدعوة إلى الحوار بين الأديان ، والتمسّح بمسوح البحث العلمي ، وإتيان صنائع المعروف ، وكل هذه الأعمال ظاهرها السلامة والمشروعية ، وباطنها المكر والخداع ، ولذلك ترى المنصرين يعملون بخفاء ودهاء تحت دثار المدرسة والجامعة والملجأ والمصحـة ، ويبثون سمومهم الفكرية التي تعرض عليك الباطل في صورة الحق ، والضلال في زي الهدى ، والوهم في لبوس الحقيقة ، وقد يفلحون في اصطياد فرائسهم ، لأن أغراضهم مستورة بمساعي الخير ومقاصد البر ، كالعسل اللذيذ يدس في السم الناقع ، فيفتك بشاربه من الوهلة الأولى !! وهاهو شيطان التنصير زويمر ينصح المنصرين بقوله : ( لتكن لكم نعومة الأفعى في الزحف إلى قول المسلمين .. إن المسلم لا يغير دينه بسهولة لذلك كان لا بد من تخديره قبل فتح بطنه ) .
إن حركة بهذا القدر من الخبث والمكر وشؤم السريرة ، لا يمكن أن يصدق على الداعي إليها مسمى ( المبشّر ) ، لأن المعنى الذي تدركه العقول بداهة وعرفاً من التبشير هو إخبار الناس بالشيء السار كبشارات الأنبياء والمرسلين ، ومن ثم لا يسوغ أن يستعمل التبشير بمعنى التنصير إلا على سبيل الاستعارة التهكمية كقوله تعالى : ( فبشرهم بعذاب أليم ) 2 .
والذي يصدق عليه _ بحق واستحقاق _ وصف ( التبشير ) هو الإسلام الذي فتح أعين الناس على قيم الحق والخير والجمال ، وقاد الأمة إلى مواقع الريادة والسيادة ، وأخرج الدنيا من ظلمات الشرك إلى أصباح التوحيد ، فالداعي إليه بشير ، والمدبر عنه في خسران كبير !!
ــــــــــــــ
1 الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي لمحمد البهي ، ص 465 .
2 آل عمران : 21 .

وليس لأحد ممن يتعاطى النظر في أمور الفكر ، وينفذ إلى بواطن الأشياء ، أن يغفل دور الدعوة الإسلامية في التصدي لمكايد التنصير ، وفضح أساليبه ، وإدحاض شبهاته ، بل إن دعاة أفردوا هذا الغرض الجليل بالتأليف 1 ، فجاهدوا حق الجهاد بالقلم واللسان ، وبصروا الأمة بما يحدق بها من أخطار داهمة ، وقلاقل هوجاء .
والحق أن الصراع بين الإسلام والتنصير عامل ديني مؤسِّس للعلاقة بين الإسلام والغرب ، إذ إن الدينين معاً ( تبشيريان يدعوان الناس جميعاً للإيمان بهما ، وبعد أن بدأت المسيحية انتشارها وامتدادها الجغرافي بين الشعوب جاء الإسلام ، بمده الواسع ليأخذ من الكنيسة المسيحية جمهوراً واسعاً كانت تطمح في اكتسابه . فالصراع ، إذن ، كان في جوهره صراعاً على قلوب البشر وعقولهم ، وقد بلغ ذروته الساخنة المريرة في الحروب الصليبية التي تركت بصمات مؤسفة لا تزال تثقل كاهل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين إلى يومنا هذا ) 2 .
بيد أن كِفّة الدعوة الإسلامية ترجح كِفّة التنصير من حيث سعة الانتشار وعائدته ؛ فهاهو الإسلام يمدّ سلطانه في أصقاع أوروبا حيث الحرية الموفورة ، والعلم الغزير ، والعيش الرغيد ، أما التنصير فيجري في ركاب الفكر الاستعماري ، ولا يجد ضالّته إلا في مجتمعات أضناها الفقر والجهل والاستعباد !!
2 _ الغزو الاستعماري
إن الغزو الاستعماري لبلاد المسلمين امتداد للحروب الصليبية الشعواء ، وقد بلغ ذروة الطغيان خلال القرن التاسع عشر وفواتح القرن العشرين ، وذلك حين غزت الدول الثلاث : فرنسا وإيطاليا وانجلترا بجحافلها العسكرية جلّ أقطار العالم الإسلامي بذريعة فرض الوصاية على شعوب غارقة في حمأة التخلف ، واستنقاذ المستضعفين من براثن الفقر والجهل ، وهذه دعوى عريضة زائفة كانت تضمر في ثناياها حقداً دفيناً على الإسلام وأهله ، وتروم ، في الآن عينه ، تجذير التبعية السياسية والاقتصادية للنموذج الغربي ( الأوحد ) من خلال آليتين :
_ الأولى : إحباط محاولات الاستقلال السياسي ، وتعطيل الحريات العامة ، حتى لا يتاح لأبناء الوطن المستعمَر المشاركة في بناء الحكم ، والتعبير عن تطلعات الأمة ، وقيادة حركات الإصلاح والتحرر .
ـــــــــــــ
1 انظر على سبيل المثال : كتاب : ( التبشير والاستشراق : حملات وأحقاد ) للمستشار محمد عزت الطهطاوي ، وكتاب : ( التبشير والاستعمار في البلاد العربية ) للدكتور مصطفى الخالدي ، وكتاب : ( المستشرقون والمبشرون في العالم الإسلامي ) لإبراهيم خليل أحمد .
2 التغيير الثقافي بوصفه مرجعاً في صنع القرارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكمال أبو المجد ، ص 351 .

_ الثانية : إخماد روح التميز الحضاري بوصفها وقوداً ضارماً لحركات المطالبة بالاستقلال ، ورافداً مغذياً لتطلعات التحرر من أغلال التبعية الفكرية والاقتصادية .
وإذا كنا لا نرتضي في الجملة التفسير التآمري للتاريخ ، لقصور آلته عن اكتناه أبعاد الظاهرة ، وتشبّعه بنزعة انفعالية محمومة ، فإننا نساق إليه سوقاً غير رفيق في سياق التحليل التاريخي لأطروحة الاستعمار ومقاصدها المبيتة ، ولعل هذا الضرب من التفسير تعضّده الشواهد الموفورة من تاريخ الاستعمار الغربي التي تعكس على نحو من الوضوح والجلاء نزوعاً متسلّطاً إلى إحباط محاولات التميز الحضاري الإسلامي في أبعاده السياسية والاقتصادية والفكرية ، ومن الشواهد النواطق بهذه الحقيقة المرّة : اضطهاد اللغة العربية في الدوائر الرسمية وغير الرسمية ، وفرض اللغة الأجنبية بديلاً عن الفصحى، وإصلاح مناهج التعليم بما يتناغم ومقاصد الفكر الاستعماري في طمس الهويـة وإقبار مقومات الدين !!
وليس من شرطنا هنا إشباع القول في دوافع هذا التخطيط الاستعماري وتجلّياته في مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم ، وحسبنا التأكيد على أثر الغزو الاستعماري في صياغة موقف المسلمين من الآخر بأنماطه الفكرية والسلوكية والحضارية ، ويعدّ هذا الأثر _ بحق _ معطى مؤثراً في تأسيس العلاقة بين الذات والآخر في العقود الأخيرة من هذا القرن .
إن الغزو الاستعماري أفرز موقفين متضاربين من النموذج الحضاري الغربي :
_ الأول : موقف رافض ( لكل ما هو غربي أو أوروبي أو أجنبي بوجه عام ) 1 ، وهو رفض مسوَّغ من الجهة التاريخية بالاحتجاج الصارخ على عدوان ( الآخر ) على ( الذات ) بما أتيح له من ضروب القوة العسكرية ، وألوان التفوق الاقتصادي . والغالب على أصحاب هذا الموقف أنهم يصدرون في هذا الرفض المطلق للنموذج الغربي عن قناعتين :
_ الأولى : إساءة الظن بكل ما هو وافد من الغرب ، وافتراض نية التآمر والرغبة في معاودة الاحتلال 2 ، ولذلك تزخر أدبيات الكتابة وفنون القول عند العرب والمسلمين بصور قاتمة عن الغرب بوصفه صاحب حضارة ( غازية ) و ( إحلالية ) ، تشجع على انحلال القيم ، وتوطّىء للقهر الاجتماعي بأنماطه المتباينة .
_ الثانية : الدعوة إلى استقلال الأمة الإسلامية بطابعها الحضاري البائن ، وتحصين الذات من دواعي التغريب ومؤثرات الفكر الدخيل ، ولعل الإغراق في هذا الاتجاه أفضى إلى اطراح كل محاولات التجديد بوصفه رديفاً للبدعة ، ومنفذاً إلى الانسلاخ عن الثوابت .
ــــــــــــ
1 نفسه ، ص 353 .
2 نفسه ، ص 353 .

_ الثانةي : موقف متبنٍّ للنموذج الحضاري الغربي بحذافيره ، على ما يعتوره من آفاتٍ ونواقصَ مردّها إلى تسلّط الآلة الغربية العارية عن بصائر الدين ، والمحكومة بنوازع المصالح والأهواء . وأصحاب هذا الموقف خلعوا أنفسهم من منابت حضارتهم ، وآثروا الجري في ركاب الغرب بمنطق القطيع ، منبهرين بقشور المادة وبهارج التقدم الخادع ، ( واتخذ أكثرهم موقفاً معادياً لدعوات المحافظة على الهوية الحضارية ، ومعادياً بصفة خاصة للتيارات الدينية والتيارات الراديكالية الرافضة لكل مظاهر التبعية الفكرية أو لسياسة الغرب ) 1 .
3 _ صورة الإسلام في المخيال الغربي
إن الصورة التي استقرت عن الإسلام وأهله في المِخيال الغربي تضافرت على تشكيلها ثلاثة روافد :
_ الأول : أن المسلمين خصوم ألداء للحضارة الغربية ، ومناوئون لنموذج الحداثة بإطلاق ، وهذا تصور مأفون يأباه المنطق وحقائق التاريخ ، لأن الغرب عالة على حضارة الإسلام وإنجازاته المضيئة في حقول العلم والعرفان ، فلا مسوّغ لهذه الخصومة إلا من جهة استنكار التسلّط الغربي وتوثّبه للإجهاز على الهوية الإسلامية . ولا شك أن التنافس الموصول بين النشاط التنصيري وحركات الدعوة الإسلامية على امتلاك ناصية الشأن الديني في أصقاع شتى من العالم عامل محفّز على استقواء هذا الرافد العقلي والشعوري واطراد تأثيره في صياغة رؤية الغرب للآخر / المسلم .
_ الثاني : أن العرب والمسلمين أمة سادرة في أوهام الجهل والتخلف ، متخلفة عن ركب الحضارة والحداثة ، لم تظفر بمسكة من علم أو منطق أو رؤية منهجية ، والذي قوى شوكة الإسلام ومدّ من بساطه في الآفاق هو سيوف محمد لا غير .. ! وقد امتد هذا الزيف الفكري ( طولاً وعرضاً وعمقاً في التاريخ ليشمل كل ما هو عربي وكل ما هو إسلامي ، وذلك على الرغم من جهود العلماء المتخصصين من المستشرقين في دراسة الحضارة العربية الإسلامية والإحاطة بتاريخها ومظاهر عطائها الموصول للفكر الإنساني ) 2 .
ولعل أنهض شاهد على هذا التزييف لحقائق التاريخ وجوهر الإسلام مقال مقبوح نشرته مجلة أسبوعية أمريكية في مناسبة النكسة بعنوان : ( تضليل الجزيرة العربية : أمة في بحر الوهم ) ، وفحوى المقال أن المسلمين والعرب لا مصير لهم في معترك الحياة وحلبة الصراع إلا الهزيمة غبّ الهزيمة ، والانتكاسة تلو الانتكاسـة ، لأن دينهم جبري يلغي الإرادة ويعطل القدرات ، وحضارتهم غيبيـة تطمس دور العقل في الاجتهاد والتنوير ، ولغتهم خطابية عقيمة تتأبى على الضبط والتحديد ، وتقصر
ــــــــــــ
1 ، نفسه ،ص 354
2 نفسه ، ص 355 .

عن مجاراة المستجدات في مخاضها المطّرد .
ولسنا هنا بصدد إدحاض هذه المفتريات ، وكشف عوارها في ضوء الحقائق الساطعة والأدلة الناهضة ، فلذلك مقام آخر هو أملك به ، وحسبنا أن نتبيّن من هذا المثال بعض ملامح الصورة المستقرّة في المخيال الغربي عن الإسلام وأهله .
_ الثالث : ترويج الدوائر الصهيوينة لنظرية ( الميراث اليهودي والمسيحي ) التي تجلي الستار عن حقيقة دينية مؤداها أن اليهودية أصل المسيحية ، وأن التوراة أو العهد القديم جزء لا يتجزأ من الكتاب المسيحي المقدس ، ومن ثم فإن هذه النظرية تروم إبراز روابط الآصرة الدينية بين اليهودية والمسيحية ، وتشعر في ، الآن عينه ، بأن الإسلام نقيض لهذا الميراث الديني المشترك وغريب عن مصدريته .
ولا شك أن المقصد من الترويج لهذه النظرية ( الطارئة ) زبْن الإسلام في الهامش ، وإقصاؤه من حلبة الأديان السماوية ، وإلا كيف نفسّر أن الحضارة الغربية كانت تعدّ نفسها أول الأمر نتاجاً مسيحياً هيلينياً ، ثم استعاضت عن هذا التصنيف بفكرة ( الميراث اليهودي المسيحي ) ؟! إنه _ ورب الكعبة _ تحالف مشبوه من أجل إبادة الإسلام ، والذي نقرّره في هذا المقام إحقاقاً للحق ، ووضعاً للأمور في نصابها ( أن المسلمين شركاء أصليون في ميراث الإيمان بالإلـه الواحد ، والتلقي عن السماء ، والتصديق بالنبوات ، وتبني القيم الأصيلة التي تقوم عليها النبوات في وحدتها الأساسية وجوهرها الواحد ) 1 .
والعجب أن هذه الصورة الكالحة عن الإسلام لم تستقر في المخيال الشعبي فحسب ، بل تعدت ذلك إلى المخيال النخبوي ؛ إذ نصادف في أجناس الكتابة وأدبيات التحليل المعنية بالحديث عن العلاقة بين الشرق والغرب ، ثنائيات تصطنع التناظر بين عالمين متناقضين انطلاقاً من أحكام القيمة ونزوات التعصب ، ومن هذه الثنائيات :
الشرق منفعل منقود ـــــــــــ الغرب فاعل ناقد
الشرق خرافي __________________ الغرب عقلاني
الشرق روحاني __________________ الغرب مادي
الشرق يؤمن بالمطلق _______________ الغرب يؤمن بالنسبي
الشرق يؤمن بالقدر _______________ الغرب يؤمن بالحرية
الشرق حضارة القول _______________ الغرب حضارة الفعل
وهذه التعارضات الباردة المستوخمة ما زالت إلى يومنا مستقرّة في المخيال الغربي ، تلقي بظلالها
ــــــــــــــــ
1 نفسه ، ص 357 .

على أدبيات الفكر وفنون القول ، وتسهم بحظ غير ضئيل في اصطناع عوائق حضارية ومعرفيـة بين
الذات والآخر ، وهنا أضطر إلى مخالفة الأستاذ الباحث أنطوان المقدسي الذي ذهب إلى أن هذه التعارضات المدرسية المصطنعة قد تغشاها النسيان ، ومحاها ذيل العفاء ، وعلّل موقفه بأن الحضارة التكنولوجية المبرمجة توحد بين البشر في أوجه كثيرة 1 ، وفي رأيه نظر ، لأن هذه التعارضات ما زالت إلى يوم الناس رافداً لتشكيل صورة الإسلام في المرآة الغربية ، بل إن الإعلام الغربي ليس له من مادة يتقوّت عليها في تشويه معالم الإسلام ، واستعداء الناس عليه ، إلا اصطناع الهوة بين الشرق والغرب على أساس الاختلاف الديني والقيمي ، وإن بدا في أكثر الأحيان متستراً بدثار الموضوعية، ومسوح العصرنة والتحديث . أما الحضارة التكنولوجية فهي رافد لتوحيد بعض الأنماط الاقتصادية والطرائق المعرفية ، وليست همزة وصل تمحو الجفاء بين نموذجين على طرفي نقيض في كل شيء كما يقول المستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسون .
وفي ظل هذه الروافد المتضافرة على صياغة موقف الغرب من الآخر / المسلم ، وتحت ضغط الإرث التاريخي وجدلية العلاقات المتوترة بين المعسكرين ، يصبح الحوار خياراً مرجأً ، أو آلية معطّلـة ، مع غنائه وأثره المحقَّق في التقريب بين الحضارات ، ولا شك أن للغرب يداً طولى في هذا الإرجاء أو ذاك التعطيل ، وهذا ما نعنى ببيانه في الفقرات الآتية .

ـــــــــ
1 الصورة العربية عن الحضارة الأوروبية الغربية والاستجابة لهذه الصورة ( عرض تاريخي وتفسير ) لأنطوان المقدسي ، ص 108 .

المبحث الثالث :
مثبّطات الحوار مع الآخر في ضوء الواقع المعاصر

إن الحوار مع الآخر يستلزم تعددية واضحة في الفكر ، ورحابة صدر في استيعاب الاختلاف ، ومكْنة على التواصل الخلاّق في إطار المشترك من الثوابت والقيم ، فالعملية الحوارية لا بد أن تقوم بين أكثر من طرف ، والأطراف المتحاورة يستحيل أن تتواطأ _ بحكم جبلتها وتباين تركيبتها الفكرية والنفسية والمزاجية _ على مذهب واحد في الرأي ، ونمط مكرور في التحليل ، مما يجعل قبول الاختلاف _ في حدود التعايش لا التبعية _ خياراً حتمياً في نشدان الحوار الحضاري المتكامل .
بيد أن الحوار بمقتضياته الفكرية وخصائصه الحضارية لغة غريبة عن لسان الغرب ، وخيار مرغوب عنه ، ولذلك تقوم من جهته عوائق جّمة تزيد الهوة اتساعاً بينه وبين العالم الإسلامي ، فيسدّ الشجار مسدّ الحوار ، وينتصب الصراع بديلاً للتعايش ، مما يشفع لنا بالقول بأن الآخر لا يؤمن بحقيقة فطرية ناصعـة وهي أن الناس صنفان : إما أخ لك في الدين ، وإما نظير لك في الخلق والتكوين ، وفي كلا الحالين لا بد من التعايش مع أصناف البشر على تباين مشاربها الدينية ومستوياتها الفكرية ، بل لا محيص من الحوار مع الآخر المختلف حتى لا تؤول العلاقة إلى انفصام وقطيعة ، ومن الحوار مع الآخر المؤتلف تحاشياً للجمود الفكري والانكفاء الذاتي .
إن استقراء مجريات الواقع المعاصر واكتناه حقائق الأمور يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الغرب تعوزه مؤهلات الحوار مع الآخر / المسلم ، أو لعلـه لا يريد إجراء هذا الحوار وتعاطيه إشباعاً لأهوائه ، واستيفاء لمصالحه التي تدفعه دفعاً غير رفيق _ في ظل المستجدات الدولية _ إلى فرض هيمنته ، وإملاء نموذجه الحضاري الذي ينبغي أن يحتذى به حذو النعل بالنعل ، ومن ثم فإن أكثر مثبّطات الحوار الحضاري بين الذات والآخر مرده _ في تصوري _ إلى طبيعة العقل الغربي المجبول على أحادية الرؤية ، ونبذ سنة الاختلاف ، وفرض الوصاية المتسلطة ، ويمكن إجمال هذه المثبطات فيما يلي :
1 _ الهيمنة الغربية
إن الغرب يعدّ نموذجه الحضاري مثالاً للحداثة البانية والتجديد المتكامل ، ومنفذ الخلاص لكل أمة مستضعفة ، إذا ما أرادت لحوقاً بركب العصر ، وظفراً بالصلة السنية !! ولا شك أن هذا النموذج _ على إيغاله في صناعة التكنولوجيا واكتساحه لآفاق الدنيا _ محكوم بغلواء العلم ، وزيغ

الاقتصاد ، واستحكام النظرة المادية ، ومسكون ، في الآن عينه ، باختراق هوية المخالف ، ونسخ حضارة الآخـر ، بمنطق إقصائي تشحذه رغائب الاحتلال وأطماع الغزو ، وهو ما يعرف اليوم ب ( جنون القوة ) الذي يعلن بملء فيه عداءه المستحكم للإسلام ، وحربه عليه في المحافل الدولية وساحات النزال ، حتى لا يكون له رأي مطاع في أوضاع المال والاقتصاد ، وأنماط الحضارة والسلوك، وقوالب الثقافة والفكر ، يقول سيد قطب : ( إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم ، ولا يطيقون من الإسلام أن يحكم ، لأن الإسلام حين يحكم سينشىء الشعوب نشأة أخرى ، وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة ، وأن طرد المستعمر فريضة .. الأمريكان وحلفاؤهم ، إذن ، يريدون للشرق إسلاماً أمريكانياً يجوز أن يستفتى في منع الحمل ، ويجوز أن يستفتى في دخول المرأة للبرلمان ، ويجوز أن يستفتى في نواقض الوضوء ، ولكنه لا يستفتى أبداً في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي ، ولا يستفتى أبداً في أوضاعنا السياسية والقومية ، وفيما يربطنا بالاستعمار من صلات . فالحكم بالإسلام ، والتشريع بالإسلام ، والانتصار للإسلام ، لا يجوز أن يمسها قلم ، ولا حديث ، ولا استفتاء ، في مذهب الأمريكان ) 1 .
ولما كان الإسلام مستعصياً على اختراق الخطاب العلماني ، والتحول إلى صورة ممسوخة من النصرانية الغربية التي قنعت بحظها من بركات الدين ، وتركت ما لقيصر لقيصر بعد ضغوط موصولة وصراعات ضارية ، فإن الغرب نصّب العالم الإسلامي عدواً بعد اندحار الشبح الشيوعي ، وحشد لمحاربته صنوفاً من القوة عسكرية وغير عسكرية . فهذا هو جوهر الصراع ومناسبته ، وقد كتب على الإسلام كرهاً ، وفرض على أبنائه قسراً ، وما عليهم إلا إحكام خطط الدفاع ، والتزود بآليات فقه المواجهة ، ذلك أن المعركة معركة فكر ، وتوعيـة ، وإرادة ، قبل إشهار سلاح القوة ، وتجريد سيوف الغزو !!
إنه لا حداثة يستضاء بها إلا حداثة الغرب ، ولا نموذج يحتذى به إلا النموذج العلماني ( المستورد) ، وقد صرح فوكوياما بهذا الخيار الأوحد ، وأكد على ضرورة الانسياق له إذا ما أراد الإسلام مواكبة حثيثـة للتغيير ، واقتباساً شاملاً من الحداثة الغربية التي لا ترضى بديلاً عن إرساء قواعد الدولة العلمانية ، مع أنه يدرك تمام الإدراك أن الصراع موصول في الحاضر الماثل والمستقبل المرموق بسبب استقلال الحضارة الإسلامية واستعصائها على الذوبان في النموذج الغربي الكاسح .
وكان رئيس وزراء إيطاليا سيلفيو بيرلوسكوني أجرأ نبرة من فوكوياما ، وأسوأ دخيلة ، حين صرّح بضرورة انتصار الحضارة الغربيـة على الإسلام الذي يجب أن يهزم ؛ لأنه لا يعرف الحريـة
ــــــــــــ
1 أمريكا من الداخل لسيد قطب ، مجلة الرسالة المصرية في أعداد سنة ، 1951 _ 1952 م .

ولا التعددية ولا حقوق الإنسان ، والغرب سيواصل تعميم حضارته وفرض نفسه على الشعوب 1 ،
وهذا النزوع إلى الغزو الفكري واكتساح الآخر يهدر فرص الحوار ، ويذكي أوار المواجهة بين شرق معتدّ بحضارته العريقة ومقوماته الروحية ، وغرب يتحلّب ريقه طمعاً في تجذير التبعية لنموذجه المتهالك ، وإفراغ الإسلام من قيمه الهادية البانية ..
ويسلمنا الحديث عن الهيمنة الغربية إلى قضية جوهرية كانت وما تزال مَثار الجدل ومبعث النقاش بين المتهمّمين بشؤون التعليم والفكر والثقافة ، وهي تغيير المناهج الدينية في مؤسساتنا التربوية والأكاديمية ، فقد استنفرت السياسة الأمريكية قواها لاجتياح التعليم الديني ، وإعادة صياغته وفق معايير الحداثة الغربية التي لا ترضى بديلاً عن تكريس القطيعة المعرفية مع ثوابت الإسلام ، وتجذير النموذج العلماني المتشبّع بالمبدأ المسيحي : دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله !!
فلا بدع أن تطالب أمريكا الدول الإسلامية باختصار ساعات التعليم الديني إلى السدس ، وحصر مناهجه في الشعائر والعبادات ، ومحو فقه الجهاد والاستشهاد ، وما شئت من هذه المطالب التي لا تمت إلى التجديد بأوهى سبب أو نسب ، وإنما هي تبديد للدين ، وإضاعة لجوهره ، وليس كالتعليم من مدخل إلى استيفاء هذا الغرض الخطير ، إذ هو مفتاح التوعية ، وأداة التكوين ، ودرع الحصانة ، فلو سلب وسمَه الديني المؤثر ، تيسّر على العدو اصطياد فرائسه من أجيال جرّدت عن سلاح قوتها ، ونكبت في دينها وتعليمها !! يقول الكاتب الأمريكي اليهودي توماس فريدمان : ( إن الحرب الحقيقية في المنطقة الإسلامية هي في المدارس ، ولذلك يجب أن نفرغ من حملتنا العسكرية في أفغانستان لنعود مسلحين بالكتب الحديثة لا بالدبابات .. لتنمو تربة جديدة ، وجيل جديد ، يقبل سياساتنا ، كما يحب شطائرنا ) 2 .
لا شك أن مقولة تجديد العلوم الإسلامية تصنيفاً وإقراءاً ليست ابنة اليوم ، ولا صيحة جاءت من ديار الغرب ، بل هي شعار لهج به علماؤنا المجددون في كل زمان ومكان حرصاً منهم على مجاراة التطور ، ومواكبة المستجد ، إلا أنهم كانوا على وعي عميق بأصول التجديد وضوابطه ، وما يجوز منه وما لا يجوز ، إذ كانت مقاصدهم تدور في فلك معرفي وحضاري يسمو على ثقافة الكراهية السوداء ومنطق العداء الأيديولوجي .
فلا شك ، إذا ، أن الدعوة المغرضة إلى تغيير مناهج التعليم الديني تحدٍّ فكري سافر يروّج لمبادىء العلمانية ومنطق الحداثة بالمكيال الغربي ،فشتان بين تغيير المجدّدين الأصلاء وتغيير الغرب ، فالأول يغير بالإسلام ، والثاني يغير الإسلام !! 3 .
ـــــــــــ
1 صحيفة الحياة اللندنية في عددها الصادر 30 _ 9 _ 2001 م .
2 صحيفة وطني القاهرية ، 23 / 11 / 2001 نقلاً عن " نيويورك تايمز" .
3 في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام لمحمد عمارة ، ص 127 .

ومن هنا يبدو أن الغرب لا يقبل الآخر إلا تابعاً أو مريداً أو وعاء لنظرياته وآرائه ، إذ يعتقد أنه لا حداثة بدونه ، ولا نهوض بمعزل عن قيمه ، وقد انتقد هذا التصور المفكر صامويل هنتينغتون حين قال : ( إن الافتراض الشائع لدى أهل الغرب بأن الشعوب الأخرى التي تأخذ بالتحديث لا بد لها أن تصبح مثلنا ، هو نوع من الغرور الغربي الذي يوضح بنفسه صدام الحضارات ) 1 .
2 _ مقولة صراع الحضارات
منذ أن أصدر صامويل هنتينغتون أستاذ العلوم السياسية ورئيس أكاديمية هارفاد للدراسات الدولية والإقليمية كتابه الجديد : ( صدام الحضارات وصياغة العالم الجديد ) ، والناس في هرْج ومرٍج ، ما بين مؤيّد لنظريته ومفنّد لها ، وهي _ في جوهرها _ استشراف مستقبلي لآفاق العلاقة بين الغرب وأنداده ، ولاسيما العالمين الإسلامي والكونفوشي ، ودعوة إلى استطلاع ما يلوح في ساحة المستقبل المرموق القريب من نذر تنادي بأفول الزعامة الغربية وتخلّفها عن موقع القيادة المنفردة للركب الحضاري ، ذلك أن التنافس على الصدارة سيكون شديداً ومحرّضاً على الصدام الحضاري على مستويين : ( الأول : جزئي ويتمثل في نزاعات خطوط التماس ، والثاني : كلي يتمثل في التنافس العسكري والاقتصادي ومدى السيطرة على المؤسسات الدولية إضافة إلى ترويج القيم السياسية والدينية الخاصة ) 2 .
ومن المنطقي في رؤية صامويل هنتينغتون أن تتآزر البلدان ذات الحضارة المشتركة على اكتساح الآخر المختلف في حضارته وقيمه ، وحمله حملاً على الانصهار في بوتقة النموذج الغربي ، بل إنه يرد على انتقاد المسلمين لسياسة الكيل بمكيالين قائلاً : ( من المحتّم أن يكون عالم الحضارات المتصادمة هو عالم الكيل بمكيالين ، فالناس يكيلون بمكيال للبلدان التي تمت إليهم بقرابـة ، وبمكيال مختلف للآخرين ) 3 .
إن استطلاع هنتيغتون للمخاطر المحدقة بالغرب ينطوي على تحريض للقوى الغربية على مواجهة التحالف الإسلامي الكونفوشي ، وكأن بالرجل يلوّح بدعوة قومية غربية تستنهض الهمم ، وتستحثّ على إقصاء ( الآخر ) بمرجعيته الدينية ومخزونه الحضاري ، ولا شك أن التخوف من المارد الإسلامي بات يملأ السمع والبصر في ديار الغرب بعد اندحار الخطر الشيوعي الأحمر ، وهو تخوّف يغذّيه عاملان : أولهما : الخوف التاريخي من الفتوحات الإسلامية ، والثاني : التنامي الموصول للمدّ الإسلامي على مستويات شتى ، بينما يرتكس الغرب في حمأة ارتداد روحي وانتكاسة أخلاقية
ـــــــــــــــــ
1 صدام الحضارات لصامويل هنتينغتون ،ص 84 .
2 نفسه ، ص 23 .
3 نفسه ، ص 29 .
بسبب سيطرة الآلة المحايدة التي لم تخترع إلا لتلبية أشواق المادة ،وتأمين غلبة القوي المهيمن ، وهذا ما حمل ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز في محاضرته في ( ويلتون بارك ) على الدعوة إلى الاستمداد من حياض الإسلام بوصفه ترياقاً شافياً لأمراض القلوب وشقوة الأرواح .
فمن البديهي أن ينصّب الإسلام عدواً لدوداً يحارب ، وشراً مستطيراً يدحر ، وقد تلمّس فيه أهل الغرب من مقومات النهوض الحضاري ، ومؤهلات التزاحم والمدافعة ، وروافد التأثير الروحي في أبنائه ، ما يرشّحه للسيادة والريادة في مستقبل الأيام ، ولذلك لم ير هنتينغتون من موقف
إزاء التفوق الإسلامي المرتقب إلا النزوع إلى فلسفة الصراع بين الحضارات بوصفها ( حتمية واقعية ) ومآلاً مباشراً للاختلاف التاريخي والقيمي بين الغرب وخصومه . ومن الواضح والجلي أن الإسلام أمسى في التقدير الغربي مناسباً ( لملء دور الشرير بعد زوال الحرب الباردة ، فهو ضخم ومخيف وضد الغرب ، ويتغذى على الفقر والسخط ، كما أنه ينتشر في بقاع عديدة من العالم ، لذلك يمكن إظهار خرائط العالم الإسلامي على شاشة التلفزيون باللون الأخضر كما كان العـالم الشيوعي يظهر باللـون الأحمر )1 .
ولا يبدو هنتينغتون مبشّراً بالصراع المرتقب بين الحضارات المتزاحمة فحسب ، بل يتدثّر بدثار الناصح الأمين ، فيقترح على أهل الحل والعقد بالإدارة الأمريكية كيفية إدارة الصراع الحضاري عبر مراحل متعاقبة تراعى فيها أولويات المعارك وطبيعة أساليب المواجهة ، حتى يكون الظفر في نهاية المطاف مأموناً ، وهو كسر شوكة الحضارة الإسلامية والصينية ، وإقصاء كل مخالف معادٍ للحضارة الغربية ، وتصدّر ركب السيادة دون شريك مزاحم ، ( وخاصة إذا جمع هذا الشريك بين التميز الثقافي والحضاري وبين نهضة التحديث وقوة التجديد ) 2 .
وإذا كان أكثر مفكري الغرب يلوّح بمقولة واحدية الحضارة تغريراً بأهل الإسلام واستدراجاً لهم لاستلهام النموذج الحضاري الغربي ، فإن من الإنصاف أن نقرَّ لهنتينغتون بشجاعة أدبية نادرة ، وصدق في الإفصاح عن موقف الغرب من كل حضارة منافسة ؛ ذلك أنه ينصّب الرافد الثقافي معياراً لتعدد الحضارات التي قد تشترك في عمران الواقع المادي وأنماط المدنية ، ولكنها تنفصل إلى حد التدابر والتجافي في عمران النفس الإنسانية التي يصقلها الدين وترفدها الثفاقة .
بيد أن شجاعة الموقف لا تشفع لهنتينغتون في مقام الغربلة النقدية لنظرية ( صراع الحضارات ) التي أضرمت نار الحرب الباردة بعد أن وضعت أوزارها ، إلا أن العدوَّ بات الإسلام والعالم الثالث عوض الشيوعية والاتحاد السوفييتي كما يقول المفكر إدوار سعيد 3 .
ـــــــــــ
1 مسألة الهوية : العروبة والإسلام والغرب لمحمد عابد الجابري ، ص 179 .
2 في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام لمحمد عمارة ، 69 .
3 جريدة الحياة اللندنية ، العدد : 11686 ، 17 فبراير ، 1995 م .

ولعل كيشوري حبوباتي نائب وزير خارجية سنغافورا كان من المفكرين الرواد الذين اجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد في نقد نظرية صراع الحضارات وكشف عوارها ، وزبدة رأيه : أن النظرية تجلي الستار عن فشل ذريع في صياغة استراتيجية تحسن التعامل مع الآخر / المسلم أو الصيني في إطار آداب حضارية ومواثيق سلمية ، وهذا عيب مميت في الغرب على حد تعبيره 1 .
وإذا كانت هذه النظرية تحتاج إلى نقد تفصيلي يشبع القول في بيان مثالبها ورصد آثارها الوخيمة ، فإن المقام لا يسعف بذلك وربما جرّنا هذا الإشباع إلى استطرادات لا تغني الموضوع بقدر ما تبدّد سلكه وتقطّع أوصاله ، بيد أن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه ، وأمانة البحث تملي علينا تعقّب نظرية صراع الحضارات من وجوه قد يكون فيها من الدلالة على المراد والتعلّق بالمقصود ما يغني جلب أخواتها ونظائرها :
_ الأول : أن هنتينغتون يسكت تجاهلاً لا جهلاً عن الباعث الحقيقي لمخاوف الغرب ، وهو أن العالم الإسلامي رقعة شاسعة زاخرة بالطاقات البشرية والموارد الطبيعية ، ومحصّنة بثوابتها الدينية وتراثها الحضاري ، مما يجعل المسلم اليقظ في جنّة واستعصاء على احتواء الغرب حتى وهو بين ظهرانيه ، ولاشك أن معدّلات انتشار الإسلام في أقاصي العالم وأدانيه تبشّر بالمستقبل الزاهر لهذا الدين ، وتعكّر على أعدائه صفو راحتهم ، ( فقد أشارت هيئة الإذاعة البريطانية قبل ما يزيد عن السنة إلى ظاهرة اعتناق الدين الإسلامي بين الشعوب البريطانية ، إذ يدخل في الدين الإسلامي أكثر من عشرة آلاف شخص سنوياً ، وكذلك أصبح تعداد المسلمين في فرنسا في المرتبة الثانية بعد المسيحية ، وأصبح لهم ثقل وتأثير على الصعيدين الداخلي والخارجي للسياسة الفرنسية ، والولايات المتحدة الأمريكية أيضاً تشهد تزايداً ملحوظاً لأعداد المسلمين إضافة إلى نمو قوتهم وتأثيرهم وإمكاناتهم الإعلامية ونشاطاتهم ) 2 .
_ الثاني : أن هنتينغتون صاحب رؤية أحادية مبتسرة لا ترى في التعدد الفكري والاختلاف الثقافي إلا حطب فتنة ، وفتيل حروب حضارية ضارية ، وليس من اللائق أن تصدر هذه الرؤية من الغرب الديمقراطي العقلاني الذي ما فتىء يلوّح بشعارات التعددية و التكامل والانفتاح الحضاري جلباً لرداء الموضوعية ، وتمسّحاً بضرائح الفكر الحرّ .
والحق أن الاختلاف في المعتقد والفكر واللغة ليس بباعث على التدابر والتناحر ، وإنما أس البلاء ورأس الفتنة هو المصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية للغرب التي يتعذّر استيفاؤها أحياناً إلا بتوظيف الاختلاف في إطار مصلحي صرف ،واتخاذه ذريعة إلى إشباع الهوى وموافقة الغرض ، ومن
ـــــــــــ
1 صدام الحضارات لهنتينغتون مع ردود وتعقيبات لجماعة من المفكرين ، ص 60 .
2 الإسلام والغرب والديمقراطية لجودت سعيد وعبد الواحد علواني ، ص 219 .

ثم فإن ما يقال عن ( الصدام الحضاري والثقافي مجرد لافتة أو غطاء لستر المصلحة أو الحاجة الأخرى غير المعلنة ، بما يستتبعها من هيمنة وسيطرة وإن وضعت تحت شعار الخطر القادم من الهويات والثقافات المعادية للغرب وحضاراته ) 1 .
فصراع الحضارات ، إذاً ، يروّج لنظرية ( العدو المفترض ) الذي من شأنه أن يزاحمَ الغرب على رتبة الصدارة في قيادة الركب العالمي ، ويهدّد حداثته الغازية التي تروم الإجهاز على مقومات الأصالة في كل مضمار تحت دثار حتمية العلم ، ونبل الرسالة ، وضرورة تغيير البنى الموروثة البالية ، ولاسيما بعد اندحار الخطر الشيوعي الأحمر الذي كان عدواً تقليدياً للغرب وندّاً له في المعترك الحضاري .
وليست نظرية ( العدو المفترض ) بدعةً من القول ، أو شطحةً من شطحات الفكر ، وإنما هي رؤية تحليلية تأدّى إليها التدبّر العميق لمقاصد فلسفة الصراع الحضاري ، وقد عضّدها مفكرو أوروبا ممن أتيح لهم الدقّة في التقدير والإنصاف في الحكم ، وعلى رأسهم المفكر روبير شارفان العميد السابق لجامعة نيس الفرنسية عندما قال : إن رؤية صدام الحضارات تفترض حاجة بعض الدول إلى خلق عدو وهمي أو فعلي يكون بمثابة كبش فداء تنحصر مهمته في تسويغ المشاكل الداخلية لتلك الدول والتمويه على تناقضاتها الفعليـة ، فقد نهضت في هذا الإطار مقولات : " التهديد السوفييتي " و " الحرب الباردة " و" إمبراطورية الشر " و " مواجهة الشيوعية " بدور بالغ الأهمية في تسويغ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبّط فيها الولايات المتحدة وأوروبا ، لكن مع تفكك الاتحاد السوفييتي وبروز عهد العولمة والشمولية صار من اللازم البحث عن عدو خارجي آخر ، وما لبث مرتزقة المجموعات الصناعية والمالية الغربية أن عيّنوا هذا العدو : " إنه الشرق عموماً والإسلام على وجه الخصوص " 2 .
_ الثالث : أن مقولة صراع الحضارات امتاحت جوهرها الفلسفي من ثلاث نظريات غربية :
* نظرية هيجل في فلسفة التاريخ التي قامت على نسخ العصر الجديد للعصر القديم في إطار علاقة من التزاحم والصراع .
* نظرية داروين في فلسفـة النشوء والارتقاء التي قامت على صراع الأحياء ، ونسخ الأقوى للأضعف ، لأن العبرة في الصلاح والسبب في البقاء القوة لا غير .
* نظرية ماركس في الصراع الطبقي ، فالطبقة الجديدة تصارع الطبقة القديمة وترث جميع الامتيازات والسلطات ، كما هو الشأن في الطبقة البرجوازية في الليبرالية ، والطبقة البروليتارية في الماركسية .
وهذه النظريات بمجموعها وسمت هويـة الحضارة الغربية بميسَم الفلسفة الصراعيـة ، وأجّجت
ـــــــــــ
1 أكذوبة صراع الحضارات لعبد الله علي العليان ، مجلة حوار العرب ، السنة الأولى ، العدد 7 ، ص 23 .
2 نفسه ، ص 23 .
سخائم الغرب وأحقاده على حضارة الآخر وتراثه ، فآثر الصراعَ فلسفةً ، واتخذ المواجهة مطيةً إلى الاحتواء والتدجين ودمج المخالف في نمطه الحضاري ومنظومته القيمية ، وكأن الأمر قانون علمي أو رسالة نبيلة ينهض بأعبائها الرجل الأبيض لتطهير الواقع من رجس الماضي وأوضار البنى الموروثة !!
وإذا كان الغرب يصدر عن الفلسفة الصراعية في علاقته مع الحضارات وموقفه من الآخر ، وهي رؤية قديمة قِدَمَ صراعات آلهة اليونان ، فإن الإسلام ينزع منزعاً آخر في صياغة رؤيته الكونية والحضارية ، إذ لا يرضى بالواحدية مذهباً في الفكر والثقافة والحضارة ، إذ هي مقصورة على الذات الإلهية ، وما عداها قائم على التعددّ والتوازن والتناغم والارتفاق ، ومن هنا جعل الله سبحانه وتعالى التعدديّة ناموساً كونياً مطرداً في الشعوب والخلائق والألسنة والمعتقدات والشرائع والحضارات والمناهج ، ومن حاد عنه فقد حارب الفطرة ، وجار على الدين !!
ولعل السؤال الذي ينتصب في الذهن : ما هو البديل الإسلامي لصراع الحضارات ؟ والجواب : أن العلاقة بين الحضارات ينبغي أن تبنى على فلسفة التدافع والتنافس بوصفها حافزاً على الارتقاء، ومحرّضاً على الإصلاح ، ودليلاً هادياً إلى غنائم البر والخير ، وفي إطـار هذا السبيل الـراشد تعدّل ( المواقف الظالمة ، والممارسات الجائرة ، والعلاقات المنحرفة ، دون صراع يصرع الأطراف الأخرى فيلغي التعددية ، وإنما بالحراك والتسابق الذي يعيد العلاقات المختلة إلى درجة التوازن والعدل في العلاقات بين مختلف الفرقاء ) 1 .
وفلسفة التدافع ليست فكرة إسلامية جديدة يقرّها النظر الاجتهادي وتمليها مستجدات العصر ، وإنما هي منهاج صاغه الوحي وأجرى عليه الكون والخلائق بوصفه سنة من سنن الله في الاجتماع الإنساني ، وقاعدة مرشّدة للعلاقات بين الشرائع والحضارات والأفكار ، ودستور حاكم بين الفرقاء ، قال تعالى : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) 2 ، فالآية تبرز معالم منهج التدافع الذي يروم انتشال الآخر من حمأة العداوة التي تحشره في أهل السيئات ، وإنزاله منزلة الولي الحميم التي ترفعه إلى مقام أهل الحسنات ، ( فيتم الحراك بواسطة التدافع مع بقاء تعددية الفرقاء المتمايزين ) 3 .
ويحدثنا القرآن الكريم في موضع آخر عن سبيل التدافع وأثره في تعمير الكون وارتقاء الحياة على نحو موصول غير مقطوع ، قال تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) 4 .
ــــــــــــ
1 في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام لمحمد عمارة ، ص 71 .
2 فصلت : 34 .
3 نفسه ، ص 72 .
4 البقرة : 251 .

ولعل معترضاً يعترض قائلاً :أليس السكون الحضاري أنسب بديل للصراع والمواجهة ؟والجواب : أن السكون في العلاقة بين الحضارات يعني هموداً في الفكر والثقافة والتفاعل الحضاري ، وربما آل إلى إشاعة آفة التقليد والتبعية ، وتجذير المركزية الحضارية ، فهو إن اختلف عن فلسفة الصراع جوهراً إلا أنهما على بساط واحد من حيث المآل .
ويحقّ لنا بعد هذه الوقفة النقدية أن نسأل : هل تستقيم إمكانية الحوار مع الآخر في ظل مقولة صراع الحضارات ؟ أليس من الهراء أن نتحدث عن ثقافة الحوار والغرب يبشّر بصراع ضارٍ بينه وبين عدوه الجديد : العالم الإسلامي ؟
إن من شروط الحوار البنّاء أي كان باعثه ومجاله أن يصفّى جوه من شوائب الانفعال ، ويوطأ له بما يعين على جلب الألفة والود ، فكيف بحوار يوأد في مهده ، أو يولد ميتاً لا روح فيه ولا حياة ، إذ يبشّر فيه أحد الأطراف بأن الصراع قدر محتوم ومآل مرسوم لا مفرّ منهما ، والصراع والحوار نقيضان لا يجتمعان !! ولا شك أن مقولة صراع الحضارات عقبة كأداء في طريق الحوار بين الذات والآخر ، لأنها لا ترى في المخالف إلا عدواً يحارب ، وشراً يستأصل ، ولا ترى في الدنيا حضارة غير حضارة الغرب تغزو وتهدم وتنسخ كما يحلو لها ، مادام البقاء للأقوى ، والعبرة بالعتاد العسكري والآلة التكنولوجية !!
3 _ الجهل بالآخر
إن حجباً صفيقة تستر حقيقة الإسلام عن الغرب ، وتمنع من النفاذ إلى بواطن الأمور ، واستجلاء جوهر الأشياء ، ولا شك أن للجهل يداً في نسج هذه الحجب ، إذ ما زال الغرب يرى في المسلمين أمة باطنية غامضة ، ديددنها الإغراق في التأمل ، والإخلاد إلى الدعة والخمول ، وهذه الصورة لا تمت بسبب أو نسب إلى حقيقة رجل البيداء الذي خاص صراعاً موصولاً مع أهوال الطبيعة وغوائل الحياة، بل أين هذا الافتراء من جوهر الإنسان الخليفة الذي أنيط بعهدته تعمير الأرض وتسخير الكون علاقاتٍ ومفرداتٍ ومواردَ في إنشاء الحضارة ، وتهذيب عمران النفوس ، واستخلاص العبودية لله وفق ما تمليه آداب الاستخلاف أمراً ونهياً .
وزد على هذا الوهم وهماً آخر وهو أن الحضارة الإسلامية حضارة القول لا الفعل ، وبوق للبلاغة الخطابية التي تنسلخ فيها الكلمة عن إهابها الأصلي ، وتشذ عن سياقها وواقعها ، وتجترح من الغلو ما يطمس دورها الحيوي البنّاء ، ولا أدري كيف يروّج لهذا الوهم ودلائل التاريخ موفورة متواترة تقطع بفضل الإسلام على الغرب فكراً وحضارة وتمدناً ، وتشهد للمسلمين بالسبق المحمود إلى ارتياد آفاق العلم ، وفتح مغالق المعرفة ؟! صحيح أن الإغراق في النزعة البلاغية بسط سلطانه على

الثقافة العربية والإسلامية في زمن متأخر ، خبت فيه جذوة الإرادة والتوثّب ، واستعيض بالقول عن العمل ، لكن هذه الثقافة آثرت ، اليوم ، اقتصاد التعبير ، ووجازة البيان ، فيئة إلى الأصل ، وأوبة إلى النبع ، لا التماساً لطرائق التجديد ، إذ كان هذا المسلك ، مسلك الاقتصاد والكثافة ، أثيراً عند شعراء الجاهلية ، بل هو سمة معجزة في النمط الأسلوبي القرآني وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم خير من أوتي جوامع الكلم ، وأفصح من نطق بالضاد .
مهما يكن من أمر فإن جهل الغرب بالآخر / المسلم بلغ أقصى مداه ، وانتصب عقبة كأداء في طريق التواصل المرجو ، إذ لا بد للمحاور من الإلمام بالمرجعية الدينية والثقافية للطرف الآخر تيسيراً لسبل التفاهم ، وإنجاحاً لغرض الحوار ، وهذا ما ألح في طلبه الباحث مارسيل أ . بوازار في كتابه ( إنسانية الإسلام ) حين قال : ( لا يمكن تنسيق تعاون حقيقي ولا سيما في ميدان العلاقات الدولية إلا بشرط سابق وهو أن يتعرف الفرقاء بعضهم بعضاً ، ويظهروا رغبة حقيقية في التفاهم . لم تشجع أوروبا الاستعمارية مثل هذا الانفتاح الفكري إزاء العالم الإسلامي الذي كانت تسيطر عليه ، ربما لا تكون الدوافع التي حفزت على تحليل الغير كلها لئيمة ،ومع ذلك _ وباستثناء بعض الأحوال النادرة منها : لويس ماسنيون مثلاً _ كانت تلك الدوافع تفتقر إلى نزعة إنسانية حقيقية إذ كانت وحيدة الجانب. لقد غالى الاستشراق في الركون إلى تفوّقه المادي فحال واعياً أو غير واعٍ دون إنشاء حوار حقيقي يفضي إلى حكم أو تقويم سليم , وقد جلب هذا الاتجاه الذي ينظر إلى العقيدة المخالفة على أنها منحطة خيبةً ومقتاً ساعدا على زيادة الجفوة بين آراء الفريقين ) 1 .
ونغنم من هذا الشاهد _ فضلاً عن ضرورة تعرف الفرقاء بعضهم بعضاً في كل حوار بنّاء _ أن نزوع الغرب إلى معرفة الآخر / المسلم كان محكوماً بهاجس الهيمنة وباعث الاحتواء ، وإن بدا متدثراً في كثير من الأحيان بدثار البحث العلمي وشغف الاطلاع ، ولن يرعوي الأنا الغربي عن غيّه أو يفيء إلى رشده ، ما دام بناؤه الداخلي لا يستقيم أو يبلغ تمامه إلا بعملية ( ضرورية هي عملية تفكيك الآخر ، عملية سلبه أناه وإقصائه وتحويله إلى مجرد موضوع ) 2 .
وإذا كانت الثوابت الروحية لأي أمة يصوغها الدين بوصفه رافد سلوك ، واللغة باعتبارها وعاء فكر ، فإن المحاور لا بد أن يحيط خبراً بالمرجعية الدينية واللغوية للطرف الآخر رعياً لآداب الحوار وضماناً لعوائده ، بيد أن هذا الشرط لا يقيم الغرب له وزناً بدعوى أن الآخر ليس لديه من ذخائر
ـــــــــــــ
1 إنسانية الإسلام لمارسيل أ . بوازار ، ص 394 . وقد ترجم هذه الفقرات إلى العربية عبد الكريم اليافي في دراسته : ( الدين والإحياء الرةحي في الوطن العربي اليوم : دلالتهما في الحوار الثقافي مع أوروبا الغربية تباعد أو لقاء ؟ ) ، وقائع ندوة هامبورج : ( العلاقات بين الحضارتين العربية والأوروبية ، ص 231 .
2 مسألة الهوية لمحمد عابد الجابري ، ص 135 .

الروح ، والفكر ، والثقافة ، ما يغري بالاطلاع ويقوّي إرادة المعرفة ، مما جعل التجهّم للإسلام والمسلمين نابعاًً من الجهل بثابتين :
أ _ اللغة
إن الحوار الحضاري بين العالم الإسلامي والغرب يقتضي معرفة كل طرف بلغة محاوِره ، لأن اللسان وسيلة التواصل ، وأداة الفهم والإفهام ، وهذا الشرط الجوهري ليس بمرعي عند الطرف الغربي على المستويين الشعبي والنخبوي ، ولعل الشعب الأمريكي أكثر الشعوب قصوراً في مضمار اللغات الأجنبية عموماً ولغات العالم الإسلامي على وجه الخصوص ، وليس لدي من الأسباب التي أعزو إليها هذا القصور إلا أن يكون الحافز على التعلم معدوماً بدعوى تخلف المسلمين وتراجعهم إلى ذيل الركب الحضاري ، فليس لديهم من مثيرات المعرفة وثمرات العقول ما يحمل على امتلاك ناصية لغتهم ، وهذه دعوى عريضة تمليها المركزية الغربية ، وتنفخ فيها دواعي الاستعلاء الأجوف .وهنا أضطر اضطراراً إلى مخالفة الأستاذ حسن أوريد الذي ذهب مذهباً مجافياً لهذا التصور حين عدّ الغرب طرفاً مؤهلاً للحوار بامتلاكه ناصية المعرفة الواسعة بالآخر ، ونحى باللائمة على عالمنا الإسلامي الذي يعوزه الاطلاع على حضارة الغرب ولسانه ، وتنقصه المؤسسات الراعية للحوار ، يقول : ( إن الحوار يتم بمبادرة الغرب ، ويتميز الغرب بمعرفته الدقيقة والعميقة بالعالم الإسلامي ، سواء من خلال مؤسساته الكنسية أو الأكاديمية ومعرفته بجوانب الحياة في المجتمعات الإسلامية ، وامتلاك ناصية لغاتـه ) 1 . وفي هذا الرأي نظر ، لأن إتقان لغات العالم الإسلامي مقصور على نخبة غربية يمثلها أهل السياسة والعلم والاستشراق ، ورجال الأعمال والاستخبارات . والحق أن العالم الإسلامي كلِف بلغات الغرب ، وحريص على امتلاك ناصيتها ، تحدوه إلى ذلك حدواً رغائب شتى ما بين التعلّم في ديار الغرب ، والبحث في حضارته وأدبياته ، والإفادة من مستجداته ومخترعاته ، وأيا كان الباعث والحادي فإن عدداً موفوراً من المتعلمين المسلمين يتقنون الإنجليزية والإسبانية والفرنسية ، وهي لغات رسمية مقررة في المدارس والجامعات ، يحتفى بها أيما احتفاء ، وينذر لها من العناية الأكاديمية ما يضاهي العناية باللغة العربية !!
ب _ الدين
من الأمثال الشائعة : من جهل الشيء عاداه ، وهذا المثل يصدق على الغرب الذي لم يحط خبراً بحقائق الإسلام ومقاصده ، فوقف له بكل مرصد ، ورماه بكل نقيصة ، وإذا دعي إلى الحوار بالتي هي أحسن جادل بالبهت ، وكايد بالإفك ، وموّه بالباطل . وقد أقرّ الباحثون الغربيون _ ممن زانهم
ـــــــــــ
1 الإسلام والغرب والعولمة لحسن أوريد ، ص 20 .

الإنصاف وواتاهم حسن التقدير _ بهذا الجهل الفاضح ، وعدّوه مصدر التجهّم للإسلام ، والتحامل على المسلمين ، ومن هؤلاء الباحثين المنصفين وليم ستودّارت الذي قال في كتابـه ( الصوفيـة ) : ( لبعض الأسباب التاريخية وغير التاريخية كان الغربيون للديانتين الهندوكية والبوذية أكثر ألفة منهم للإسلام ، لم يسىء الغربيون فهم الإسلام فقط ، بل إنهم أكثر جهلاً به من أي دين آخر غير مسيحي، ويجوز أن يدعى الإسلام بأنه الدين المجهول ) 1 .
وفي السياق ذاته يتحدث الباحث المرموق في تاريخ الأديان روني غينون عن أثر الجهل في إثارة الحفاظ ، وإهاجة الأحقاد ، وحجب النظر الموضوعي : ( الخوف عنصر من عناصر البغضاء التي هي أشد ما تكون شراسة في بلاد الأنكلوسكسون ، هذه النفسية ناشئة عن قلة الإدراك والفهم ، ولكنها ما زالت قائمة ، فيلزم أبسط التبصر في الانتباه لها إلى حدّ ما ) 2 .
وإذا كانت الشواهد على جهل الغرب بالآخر / المسلم من الوفرة والكثرة بالدرجة التي لا تسمح بالاستقصاء والاستقراء ، فإننا ولابد أن نجتزىء منها ما يدل على مراد التمثيل ويستوفي بغرض البيان:
أ _ جاء في كتاب ( الميثاق ) لمؤلفه جيمس أ . متشنر : ( المسلمون هؤلاء أعداء المسيح الدائمون الكريهون ) 3 ، وفي السياق نفسه يقول : ( إن محمداً هو إله المسلمين يعبدونه ) 4 .
ب _ جاء في دراسة : ( صور الإسلام في الأدب الوسيط ) لهوبرت هيركومر : ( إن الأوروبيين ادعوا أن رسول الإسلام كان كاردينالاً كاثوليكياً ، تجاهلته الكنيسة في انتخابات البابا ، فقام بتأسيس طائفة ملحدة في الشرق انتقاماً من الكنيسة . واعتبروا أوروبا المسيحية في القرون الوسطى محمداً المرتد الأكبر عن المسيحية الذي يتحمل وزر انقسام نصف البشرية عن الديانة المسيحية ) 5 .
ج _ جاء في كتاب : ( العقيدة والمعرفة ) لسيجريد هونكة : ( ولقد صورت الكنيسة الأوروبية رسول الإسلام ساحراً كبيراً .. وصورت قرطبة في الأندلس وطن عباد الشيطان ، المتوسلين بالموتى ، الذين قدموا لمحمد الصنم الذهبي الذي كانت تحرسه عصبة من الشياطين ، تضحية بشرية ) 4 .
وليس من شرط هذه الدراسة أن تتعقّب الترهات الغربية عن الإسلام ، وتكشف عوراها في ضوء حقـائق التشريع ، ودلائل السيرة ، وقطعـيات التاريخ ، لأن تنزّلت إلى درك من الإسفـاف
ـــــــــــــ
1 الصوفية لوليم ستودّارت ، ص 21 .
2 الشرق والغرب لروني غينون ، ص 222 .
3 الميثاق لجيمس أ . متشنر ، ص 27 .
4 نفسه ، ص 78 .
5 صور الإسلام في التراث الغربي ، ترجمة : ثابت عيد ، ص 23 _ 24 .
6 العقيدة والمعرفة لسيجريد هونكة ،ترجمة : عمر لطفي العالم ، ص 161 ـ 162 .

الفكري يفضح نفسَه بنفسِه ، وينادي على أصحابه بالجهل المطبق ، والرأي الفطير ، والعقيدة الرديئـة ، ولا أدري كيف تكال هذه الاتهامات للإسلام وصفحاته النيّرات الزّاهرات تنطق بما بلغه المسلمون من الأوج الرفيع في التنزيه وتجريد العبودية لله وحده ،وتقديس الرسالات السماوية ،وتحرير الإنسان من أغلال الخرافة والوهم ، ونشر حقائق التوحيد في الأنفس والآفاق ؟!ونظرة عجلى في نصوص الوحي ومقاصده قمينة أن توقفنا على دور الإسلام في مواجهة أصنام الشرك ، وتسفيه أحلام الباطل ، وتنكيس رايات الخرافة ..
ومن الجهل الذي يظنّه صاحبه بسطةً في العلم والفهم ما ذهب إليه بريان بيدهام في حديثه عن الإسلام والغرب من أن بعض حقائق الإسلام كشهادة المرأة ونصيبها في الميراث لا أصل لها إلا اجتهادات ( ذكورية ) فسّرت القرآن بمحض هواها ، وخالص نظرها ، ولم يكن لأصحابها ما كان للصحابة من معايشة للوحي وتشرب لمقاصده ، فضلاً عما زان سليقتهم اللغوية من خلوص وصفاء .
ومن ثم غدت الثوابت القطعية في منظور بيدهام آراء مجردة أملتها نزعة اجتهادية متعصبة تعادي المرأة وتبخسها حقها ، وتزري بمكانتها في المجتمع !! فتأمل هذا الافتراء من رجل يزعم إحاطة بكنه الإسلام ، ويرشح نفسه حاكماً على اجتهادات علمائه ، وهو أجهل ما يكون بقواطعه التي لا يرد عليها اجتهاد ، وثوابته التي لا يعتريها تبديل ، وإنما هي أوامر ونواه حاكمة على وقائع الخلق لا محكومة برأي مجرد أو هوى عابث !!
إن جهل الغرب بالآخر / المسلم يروّج لترهات وأباطيل لا نصاب لها في الحقيقة الشرعية والتاريخية ، مما يجعل الحوار خياراً مرجأً ، والأولى منه تسفيه الباطل ، وإدحاض الشبهات ، والرد على المفتري بالحجة الدامغة والمنطق الناهض ، وليس من المعقول أن نحاور عدواً يفوّق إلى نحورنا سهام الكيد ، وندندن حول التعايش الحضاري في معترك دقت طبوله وأثير نقعه !!
4 _ التضليل الإعلامي
كانت القوة المادية المجردة منذ زمن غير قصير أداة مثلى للتغلّب الحضاري وصياغة التاريخ ، وسلاحاً يشهر في وجه المغلوب لحمله على الانسلاخ من ثوابته المرجعية والاندغام في المنظومة القيمية للغالب . لكن الأمم الأصيلة كان تبدي استعصاء على الآلة الغربية الكاسحة ، وممانعة حضارية رافضة لكل محاولات الاحتواء والمسخ ، وإن كانت المدافع وجحافل العسكر قد أفلحت في إجبار المغلوب على تسليم مقاليد السيادة بسبب ضعف الممانعة السياسية !!
ومن هنا كان على الغرب أن يراجعَ خططه ، ويعيدَ صقل أدواته ، ويعدّ العدّة لاختراق الهوية الحضارية للمسلمين من خلال استثمار عوائد الاختراع وطفـرات التكنولوجيا في مضمار الثقافـة

والفكر والبحث العلمي ، إذ لم يعد من المجدي حشد الحشود لاحتلال الدول ، وكسر شوكة الشعوب ، وإنما يجزىء في التغلّب على الخصم انتهاج أسلوب الاختراق الثقافي الذي يفرغ الأمة من قيمها ، وثوابتها ، ومقومات نهوضها ، ويتركها لحماً على وضم ، لا هي بالميت الذي أراحته رقدة القبر ، ولا بالحي الذي رزق العافية والعنفوان !!
ولم يكن للغرب ، وقد أسرعت بـه خطى العلم وواتـاه التقدّم النـاهض ، أن يركب مركب ( العنف الثقافي التقليدي الذي جربه أثناء الاحتلال من خلال إنشاء المؤسسة المدرسية والتربوية الحديثة ، وفرض لغته وبرامجه العلمية قسراً ، أو الذي جربه بعد الاستقلال من خلال حراسته علاقة التبعية الثقافية للنخب الجديدة به وإعادة إنتاجها بمختلف الصور ؛ أو بعبارة أخرى لم يركب مجدداً سبيل الهيمنة الثقافية من خلال السيطرة على مؤسسات إنتاج الثقافة المكتوبة وتوزيعها ) 1، وإنما ابتدع نمطاً جديداً للهيمنة الثقافية هو النظام السمعي _ البصري ، لما له من أثر بالغ في تكييف الوعي وصياغة الرأي العام .
إن الغرب أدرك في مخطّطه الحاضر والقابل أن ظفره بالسيادة معقود بناصية ( الصورة ) ، وحليف من يمتلك زمامها في حرب البصريات ، وأن المادة التقليدية المكتوبة قد كسدت سوقها ، وبارت تجارتها ، رغم ما يحسب لها من رجحان في الميزان المعرفي والجمالي معاً .
إنها حرب إعلامية ، إذاً ، لا سلاح فيها غير سلاح الصورة أيا كان شكلها ومصدرها ، بدءاً من الصورة التلفزيونية المذاعة عن طريق الأقمار الصناعية ، ومروراً بالصورة السينمائية ، وانتهاء إلى الصورة الإشهارية . والصورة هنا ليست قالباً أصم ، أو حلية زائدة ، وإنما هي مادة حافلة بالأبعاد ، والقيم ، والدلالات التي تؤلف بمجموعها النسقَ الأيديولوجيَّ المتحكّمَ في إنتاج المعنى والترويج له في إطار قيم جمالية راقية . صحيح أن الصورة شكل ينبغي أن تتوافر له من الشرائط الجمالية ما يضمن التأثير البالغ والإغراء الجذاب ، لكن رسائل فكرية ثاوية في تضاعيف هذا الشكل الخلاب ، تترقّب الفرصة السانحة للانقضاض على الوعي في لحظة شلل عقلي أو مقاومة خائبة !! وكلّما ترقى الأداء الجمالي إلى الأوج الرفيع من الإثارة والإغراء إلا وأصبح المتلقي طريد الخطاب المعلَن ، وضحية الإعلام الموجّه ، تأخذه الصورة كأخذة السحر ، فلا موقف يمحّص ، ولا رأي ينقد ، وإنما يقابل هذا وذاك بالوجوم والإطراق كأنها وحي منزل ، ولا غرو فإن الزخّ اليومي لملايين الصور مقروناً بالأداء الجمالي الراقي يفضي إلى وأد الحاسة النقدية لدى المتلقي ،وتعطيل قدرته على التقدير والحكم،
ـــــــــــــــ
1 النظام الإعلامي السمعي ـ البصري الغربي والاختراق الثقافي : نحو استراتيجيا جديدة للدفاع الذاتي لعبد الإله بلقزيز ، ضمن بحوث ندوة المجمع العلمي العراقي : ( إشكالية العلاقة الثقافية مع الغرب ) ، منشورات دراسات الوحدة العربية والمجمع العلمي العراقي ، ص 227 .

فيستكين لخطاب الصورة ، ويزكّي أبعادها بسكوته ، ومن هنا تجد المادة الإعلامية متنفَّسها في كل عقل عاطل ، ووجدان أصم ، وتستوفي غرضها في تشكيل الوعي بحسب قيمها ومقاصدها ، دون أي اعتراض نقدي أو محاكمة عقلية !!
ولعل مكمن الخطر في الصورة أنها تستقل بلغتها الخاصة ونمطها البياني ، رغم أنها تقارن بتعليق أو بيان موضّح في نشرة الأخبار أو الفيلم أو التحقيق المصوَّر أو المادة الإشهارية ، لكن أثر المعروض في في المصوَّر لا في المقول ، إ ذ في ( وسع الإنتاج البصري أن يستغني عن الكلام ليؤدي وظيفة تبليغ الخطاب وبناء الوجدان . وتبدأ خطورة الموضوع حين يصير في وسع الخدعة التصويرية أن توظف في وعي المتلقي فكرة غير مطابقة تماماً لواقع الحال ، ولعل ما قامت به قناة سي . إن . إن الأمريكية طوال أزمة الخليج والعدوان الأطلسي على العراق ، أعظم الشواهد على قدرة الصناعة الإعلامية البصرية في إنتاج أعلى معدلات التغليط والإيهام ) 1 .
وتقمن الإشارة هنا إلى أن حديثنا عن أثر الصورة في الترويج لخطاب منتجها ، وصياغة وعي المتلقي وبناء وجدانه ، ليس حشواً من الكلام ، أو استطراداً لا محل له من الإعراب ، بل هو توطئة ضرورية تسعف في استجلاء آليات التضليل الإعلامي الغربي وبيان مخازيه .
إن الإعلام الغربي مافتىء ينفث سموم تحامله على الإسلام ، وينسج حوله صوراً نمطية ضالة مضلّلة يراد لها أن تصبح شعاراً لكل ما هو إسلامي في مخيال الغربيين ، وقد استنفرت وسائل الإعلام برمتها في إنجاح هذا الغرض ، ووقفت للإسلام بكل مرصد ، تغمزه بالتعصب والتنطع ، وترميه بالإرهاب والعنف ، وهذا ما حمل المستشرقة الألمانية آني ماري شميل على الإدلاء بشهادة حق وإنصاف في حق هذا الدين المنكوب ، إذ عزت الخلط بين الإسلام والإرهاب إلى التضليل الإعلامي ، وقصور المتلقي عن تمحيص خطاب الصورة المضلِّلة ، ثم ساقت سؤالاً استنكارياً : إننا نرى جرائم الإرهاب في البلاد الأوروبية فهل نقول هذه هي المسيحية ؟! 2 .
فالإعلام الغربي ، إذاً ، يركب مركب التضليل والتزييف وطمس الحقائق تغريراً بالمتلقي وإيهاماً له بأن الصورة الإعلامية تطابق واقع الحال بنصّه وفصّه ، وفي هذا كله تنصّل من ميثاق الشرف المهني وعبث بآداب الخطاب وقيم التواصل ، ولا بدع أن تصير الأمور على النحو وقد أصبح الإعلام أداة ريّضة في يد رؤوس الصهيونية ، وبوقاً لسياسة الحكومات ، لا استقلال له ولا دور في صياغة الرأي
الحرّ وتشكيل الوعي اليقظ ، يقول رمزي كلارك وزير العدل الأمريكي السابق : ( ثمة احتكارات
ـــــــــــــ
1 النظام الإعلامي السمعي _ البصري الغربي والاختراق الثقافي لعبد الإله بلقزيز ، ص 229 .
2 الإسلام هو البديل ، لفيلفرد هوفمان ، ترجمة محمد مصطفى مازح ، ص 33 .

إعلامية تجارية عملاقة تقرر الأمور بالتعاون مع الحكومة ، وتنشر ما يمليه الخط الرسمي ، وتصور العدو على أنه شيطان ، ثم تخنق أي صوت يقول أي شيء ضد الهجوم الأمريكي على العراق )1.
ويجدر بنا في هذا المقام أن نتبيّن ملامح من صورة الإسلام في أدبيات الإعلام البصري الغربي ، وهي صورة نمطية قاتمة تنسجها يد الأحقاد تارة ، وأشباح الخوف تارة ثانية ، ولا أرب لها إلا الترهيب من الإسلام ، وصدّ الناس عن هداه ، حتى إذا سمع به الغربّي في إقامته أو ظعنه طار به الذعر واستفرغه الوجل !
وإليك ملامح من صورة الإسلام في ثلاث وسائل إعلامية غربية :
أ _ صورة الإسلام في برنامج فرنسي
أذاعت القناة الفرنسية الثانية في برنامج ( مبعوث خاص ) يوم 6 / 5 / 1999 تحقيقاً مصوّراً عن المرأة في باكستان ، وتحدّث معدّ البرنامج عما تحظره الشريعة الإسلامية على النساء من حق التعلّم ، وما تقرّه من أحكام تجعلها في منزلة البهائم أو سقط المتاع !! فتأمل كيف تكال هذه التهم لدين أول ما نزل من آياته البينات : ( أقرأ ) 2 ، وخير ما جاء به إيجاب طلب العلم ، وإجزال الثواب لمن احتشد له وسعى له سعيه ، حتى الحيتان في قعر البحر تستغفر له ، والنساء في هذا كله شقائق الرجال .
ولا شك أن المقصود من ترويج هذه الصورة ( إسقاطها على أوضاع المرأة المسلمة ، ليس في باكستان فقط ، ولكن في شتى دول العالم الإسلامي ) 3 ، ولذلك وصف المفكر التونسي محمد الطالبي هذا البرنامج بأنه مضلّل ومحتال 4 .
ب _ صورة الإسلام في السينما الغربية
باتت الأفلام الغربية أوروبية وأمريكية رافداً من روافد تلقين الصورة الذهنية الكالحة عن حال الإسلام والمسلمين ، ولا غرو فإن ( اللوبي ) الصهيوني قد أحكم قبضته على صناعة السينما ، وسخرها في استيفاء مصالحه ، وخدمة فكره المتطرف .
ومن الأفلام التي دارت في هذا الفلك ، ونفثت سمومها في محيط الإعلام الغربي :
* الفيلم البريطاني ( سيف الإسلام ) الذي يبرز الإسلام في صورة ران عليها غبار التخلف ، ولفتها أرديـة الانحطاط ، وكـأن المسلم نبتة أطلت برأسها في تربـة عالم عجائبي لا صلـة بواقع الناس
ــــــــــــ
1 النار هذه المرة : جرائم الحرب الأمريكية في العراق لرمزي كلارك ، ترجمة : مازن حماد ، ص 11 .
2 العلق : 1 .
3 صورة الإسلام في الإعلام الغربي لمحمد بشاري ، ص 14 .
4 نفسه ، ص 14 .

وأعرافهم الدارجة .
* فيلم علاء الدين ، وهو فيلم رسوم متحركة للأطفال من إنتاج شبكة ( والت ديزني ) يصوّر المسلم بصورة الرجل المتكالب على المتع الجنسية ، ويعرّف الإسلام بأنه عصر الحريم .
* الفيلم الأمريكي ( قرار تنفيذي ) يتحدث عن جماعة مسلمة مسلحة اختطفت طائرة بوينغ 747 ، وتتضافر أحداثه الدرامية على الإيحاء بأن المسلم إرهابي متطرف .
* الفيلم الأمريكي ( حصار ) يتحدث عن واقعة حقيقية هي تدمير أحد المنشآت الأمريكية في دولة إسلامية ، ويحاول الربط بين الإسلام والإرهاب تحت ستار إيحاءات ماكرة خبيثة .
والحاصل أن المسلم في مرآة السينما الغربية إرهابي متعصب يشهر السلاح ، ويستبيح الدماء دون غضاضة أو تحرّج ، وكأنه هيكل بارد مجرد عن نبض الإحساس ووقدة الشعور ، لم تهذّبه الرحمة ولا زانه الرفق ، فكان من اللائق أن يناط به دور الأوغاد في هوليود 1 . والحق أن السينما الأمريكية بوق دعائي للسياسة الخارجية ، ومتنفَّس طبيعي لمخططات الكيد ، وهذا ما أقرّه الباحث يمورا بكاري في محاضرته عن الإسلام والسينما في كلية الملك ألفريد حين أكد أن صناعة السينما تصدر عن منظومة ثقافية معبرة عن اختيارات قادة الغرب ، ومواقفهم إزاء الآخر 2 .
ج _ صورة الإسلام في شبكة المعلومات العالمية ( الإنترنيت )
إن خصوم الإسلام لا يجمدون على وسائل بعينها في النيل منه واستعداء الناس عليه ، بل يركبون كل مخترع جديد في مضمار الاتصال لاستيفاء غرضهم التضليلي ، وقد صارت شبكة المعلومات رافداً مدراراً لمئات الصور المسيئة إلى الإسلام ، لعل من أفحشها منظراً وأكثرها إيذاءاً تلكم الصور الإباحية التي غزت الموقع الإلكتروني لحركة حماس ، ثم ما جاء على لسان القس الأمريكي الشهير جيري فالويل من أن الإسلام دين يحرض على الكراهيـة ، ويضرم العداء بين الأديان ، ولا يسمح للآخر بحق التعبير عن نفسه ونشر معتقده 3.
ولا نحب هنا أن تحجبنا أصوات الباطل عن الإصغاء إلى شهادات حق وإنصاف أدلى بها أولو العلم والفهم من أبناء الغرب ، بعدما تلمّسوا في الإسلام سماحة لا تعادلها سماحة ، ورحابة لا تضاهيها رحابة ، وعلى رأسهم : ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز الذي أبدى اطلاعاً حسناً عن الإسلام في محاضرته بمركز الدراسات الإسلامية في جامعة أوكسفورد سنة 1993 م ، ومن جملة ما جاء فيها : ( لقد تشـوه حكمنا على الإسلام ، لأننا حسبنا التطرف هو الأمر العادي والأساسي ،
ـــــــــــــ
1 صورة الإسلام في الإعلام الغربي لمحمد بشاري ، ص 134 .
2 نفسه ، ص 131 .
3 نفسه ، ص 146 .

كثيرون من الناس هنا ينظرون إلى الشريعة الإسلاميـة على أنها قاسية وبربريـة وغير عادلـة ، إن صحفنا قبل الجميع تعشق الخوض في هذه الأحقاد ، ولا تعرف أن روحانية الشريعة الإسلامية التي ينص عليها القرآن الكريم أساسها الرحمة والعدل ) ، وختم حديثه بقوله : ( إنني مقتنع تماماً بأن عالمينا الإسلامي والغربي يستطيعان العطاء ومنح الكثير كل للآخر ، وهنا الكثير مما نستطيع أن نقوم بتنفيذه معاً ، وأنه يسرني بأن أعلم أن الحوار بدأ في بريطانيا وغيرها ، ولكننا ما زلنا نحتاج إلى بذل جهد أكبر ليفهم كل منا الآخر ، وأن نتخلص من سموم التفرقة ، ومن أشباح الخوف والتشكك ، وكلما طال مشوارنا في هذا الطريق فإننا نكون قد خلفنا عالماً أفضل لأطفالنا وللأجيال المقبلة )1 .
وهذه الشهادة على نبلها وعمقها الحضاري لم تكن لتصرف الغرب عن غيّه ، وتعيد إليه رشداً تنكّرت له خطاه ، بعد أن استحكمت العداوة وذرّ قرن الصراع حيناً بعد حين ، ولذلك لم تحز هذه الشهادة وأخواتها حظاً من الاعتناء أو الشيوع في وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الجماهيري ، إذ قصد التعتيم عليها ، والانتقاص منها ، فضاع نداؤها الخيّر المعطاء في غمرة أصوات الشر ونذر حرب الحضارات !!

ــــــــــــــ
1 الإسلام والغرب لزكي ميلاد وتركي علي الربيعو ، ص 75 _ 76 .

خاتمة :

وبعد :
فإن الحوار قبْسة من الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، لكنه لا ينبت في ظلال الرعب ، وأتون الصراع ، وحمأة التسلّط ، وإلا أفرغ من محتواها الشرعي ، وقيمه الحضارية ، فلا تعصّباً طوى ، ولا تسامحاً حوى !!
وفي ضوء هذه المسلّمة لا بد أن ينطلق الحوار من الإيمان بالحرية الإنسانية في انتقاء المعتقد والرأي والوجهة ، والاقتناع بأن التنوع حقيقة تراعى ، والاختلاف حق يصان ، فلا استطالة ولا مصادرة ، أما أصحاب الرؤية الأحادية فغير مؤهلين ثقافياً وحضارياً لامتلاك ناصية الحوار ، لأنهم على يقين بأن القوة أداة طيّعة لإقصاء الآخر وترويضه للسيد المهيمن الأقوى ، ولذلك فإن المتأمل في مقاصد الصناعة التكنولوجية والمخترعات العلمية يدرك بسهولة ويسر أنها مسخّرة لإحكام السيطرة وتأمين الغلبة على المستضعفين في الأرض .
ومن التناقض الصارخ أن العقل الغربي يلحّ في الدعوة إلى الإقرار بالطابع العالمي الكوني ، وصيانة قيم التعدّد والتسامح والمساواة ، ثم يعوزه الفعل ويبرّح به التطبيق ، ناقضاً غزله ، ومعلناً ردّته ، إذ يمعن في نبذ الآخر وزبن حضارته في الهامش ، وكأنه يزعم لنفسه احتكار الحقيقة المطلقة ، وامتلاك حق الحجر على المنطق المخالف وإن كان موفور الحظ من السداد والرجحان ، وفي هذا كله تضييق لواسع لا ترضاه الحداثة نفسها ، ولا تقرّه أدبيات الفكر الحر .
فالشرط ، إذاً ، فيما يرام من التعايش الحضاري أن لا يرى الغرب في الآخر / المسلم عدواً لدوداً ، وشيطاناً رجيماً ، وإنما مختلفاً يصغى إليه ، وندّاً تفسح له فرص الاستقلال الذاتي كاملة غير منقوصة ، ومن هنا ينداح الحوار طريقاً لاحباً تحفّه رياحين التسامح ، ومنهجاً مستقيماً يحوطه النجاح من قرنه إلى قدمه .

فهرس المصادر والمراجع

1. الإسلام في عيون غربية بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء لمحمد عمارة ، دار الشروق ، القاهرة ، ط 1 ، 1425 هـ / 2005 .
2. الإسلام هو البديل لفيلفرد هوفمان ، ترجمة : محمد مصطفى مازح ، بيروت ، 1993 م .
3. الإسلام والآخر لمحمد عمارة ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ط 1 ، 1425 هـ / 2004 .
4. الإسلام والغرب والديمقراطية ( قراءة وتعليقات على مقالتي : صدام الحضارات لصامويل هنتيغتون والإسلام والغرب لبريان بيدهام ) ، لجودت سعيد وعبد الواحد علواني ،دار الفكر المعاصر ،بيروت ، ودار الفكر دمشق ، ط 1 ، 1417 هـ / 1996 م .
5. الإسلام والغرب والعولمـة لحسن أوريد ، منشورات الزمن ، الكتاب رقم : 6 ، المغرب ، ط 1 ، 1999 م .
6. إشكالية العلاقة الثقافية مع الغرب،(وقائع الندوة الفكرية التي نظمها المجمع العلمي العراقي) ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت .
7. بين الإسلام والغرب : ضراوة أحقـاد ومـرارة حصاد لعلي محمد عبد الوهاب ، دار عالم الكتب ، الرياض ، ط 1 ، 1421 هـ / 2000 م
8. صور الإسلام في التراث الغربي لهوبرت هبرركومر ، ترجم : ثابت عيد ، تقديم : محمد عمارة ، القاهرة ، 1999 م .
9. صورة الإسلام في الإعلام الغربي لمحمد بشاري ، دار الفكر ، دمشق ، ط 1 ، 2004 م .
10. العقيدة والمعرفة لسيجريد هونكة ، ترجمة : عمر لطفي العالم ، شق ، 1987 م .
11 . العلاقات بين الحضارتين العربية والأوروبية ، ( وقائع ندوة هامبورج ، 11 / 16 / 1983 ) ، الدار التونسية للنشر ، تونس ، 1985 .
12 . الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي لمحمد البهي ، مكتبة وهبة ، القاهرة .
13 . مسألة الهوية : العروبة والإسلام والغرب لمحمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1995 م .
14 . النار هذه المرة : جرائم الحرب الأمريكية في العراق لرمزي كلارك ، ترجمة : مازن حماد ، الشركة الأردنية للصحافة والنشر ، عمان ، 1993 م .

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك