الحركات الإسلامية بين خيار العنف واستراتيجية الإصلاح

الحركات الإسلامية بين خيار العنف واستراتيجية الإصلاح

صلاح الدين الجورشي

عانت الحركات الإسلامية كثيرا من جنوح بعض فصائلها وتياراتها نحو العنف.هذه الفصائل التي اعتقدت ولاتزال أن استعمال السلاح ضد الخصوم هو "الفريضة الغائبة" والجهاد الذي تخلى عنه المسلمون. كما روجوا لفكرة مفادها أن الأنظمة السياسية فقدت الشرعية وانحازت إلى دائرة الكفر، وأصبح السلاح هو اللغة الوحيدة في التعامل معها، ومنع جورها وإقامة "حكم الله وشرعه".

 

وعلى رغم أن الحركات التي تمسكت بالخيار السلمي تشكل الغالبية، كما أنها بذلت جهودا كبيرة لمنع أعضائها من التورط في العنف المباشر ردا على سياسات الإقصاء والتشدد التي مارستها معظم الحكومات ضدها، فإن ذلك لم يشفع لها، إذ بقيت تحمل في معظم الأحيان مسئولية تفشي ظاهرتي التطرف والعنف.

 

خصص مؤتمر "دور الجماعات الإسلامية في الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط" الذي احتضنته قبل أيام الكويت وبادرت بتنظيمه صحيفة "الوطن" بالتعاون معهد "كانيجي للسلام الدولي" الأميركي، جلسته الرابعة لموضوع "فكر الجهاد وأثره في الإصلاح السياسي".

 

وقد حرص المنظمون للمؤتمر على تجميع عدد من رموز التيارات والحركات الإسلامية المعروفة بميلها نحو الاعتدال السياسي. لهذا أتاحوا الفرصة لبعض المنتمين سابقا إلى تنظيم "الجهاد" المصري، أو من كان مطلعا على أدبياته، حتى يسلطوا قدرا من الإضافة على فكر هذه الجماعة التي وقفت وراء اغتيال السادات. وقد تحدث في هذا الغرض كمال السعيد حبيب الذي كان ينتمي للتنظيم الجهادي ثم انسلخ عنه، وقام بعدد من المراجعات الفكرية. * مرجعيات "الفكر القتالي"

 

على رغم أن ما يطلق عليه "التيار الجهادي" يتبنى منهج العنف والخروج على الأنظمة الحاكمة، فإن كمال السيد يعتقد أن "الفكر الجهادي" له صلة قوية بقضية الإصلاح السياسي، بحجة أن الهدف من تمرده هو "مواجهة أنظمة ذات طابع استبدادي... لا تحترم قيمة الشورى والمشاركة". وهو يعتقد أن النظم السياسية "التي تنفتح على الحركات السياسية وعلى مجتمعها وفق قواعد واضحة تنتج حركات إسلامية قادرة على قراءة الواقع قراءة صحيحة، كما أنها في الراجح لا تنزع إلى العنف".

 

ويضيف أن "قطاعا واسعا من التيار الجهادي بدأ ينحو باتجاه الرؤى الإصلاحية التي تستبعد المواجهة مع الدولة". وذكر أن الخبرة الدامية للعنف في التسعينات طرحت على التيارات الجهادية ضرورة مراجعة مواقفها. وأشار في هذا السياق إلى إعلان "الجماعة الإسلامية" - باعتبارها "أكبر فصيل يمارس العنف" - قرار وقف العنف.

 

وهو ما يفسر توقف جميع العمليات العسكرية منذ عملية الأقصر "1997". كما أصدرت هذه الجماعة أربعة كتب راجعت فيها بشكل كامل مواقفها السابقة من النظام السياسي الذي انتهت إلى اعتباره نظاما شرعيا. وفي خط مواز أعلن انقسام تنظيم الجهاد على نفسه في مسألة العنف بعد قرار إيقاف العمليات القتالية. وقد أدى ذلك إلى تحالف شق مهم مع تنظيم "القاعدة". * لابد من دعم المراجعات وأصحابها

 

إن الاستقراء الموضوعي لواقع الحركات الإسلامية وأدبياتها يدل على وجود نزوع متزايد لدى معظم مكوناتها نحو التكيف مع شروط عملية الإصلاح السياسي. وهي ظاهرة لا ترغب الكثير من الأنظمة والنخب العلمانية في أخذها في الاعتبار، ولا تدرك حتى أهميتها من الجانبين السياسي والثقافي في تحقيق الاستقرار.

 

إن المنطق والمصلحة يقتضيان دعم هذه الديناميكية أينما وجدت، وذلك من خلال تمكين المنخرطين فيها من ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية غير منقوصة. وهو ما يقتضي أيضا أن تمارس المجتمعات المدنية ضغوطها على الحكومات حتى لا يقع إجهاض مثل هذا التطور النوعي، وحتى تتمكن جميع الأطراف من محاصرة العنف وتهميش أصحابه. كما أن مثل هذه المهمة تستوجب أن تحسن النخب المحلية إدارة حوارات معمقة وبناءة مع هذه الجماعات والحركات بعيدا عن منطق الإقصاء والوصاية. * وقفة مع دعاة الإصلاح السياسي

 

من جهة أخرى على الحركات الإسلامية المتمسكة بوسائل التغيير السلمي أن تقر بالآتي:

 

- إن عملية المراجعات الجارية منذ فترة داخل الخطاب الإسلامي نفسه لم تستكمل بعد. فهي في بداياتها إذ لاتزال الكثير من الأفكار والألغام والأسئلة المعلقة تنتظر نقدا ذاتيا عميقا وتوغلا فكريا جريئا. فالفكر لا يمكن تجزئته، والثقافة الديمقراطية متكاملة في مرتكزاتها، لا يجوز اقتطاع جزء منها والتخلي عن بقية الأجزاء. فالصدق والتناسق يفرضان الاستمرار في عملية المراجعة حتى تفضي إلى نهاياتها الطبيعية، لأنه من دون ذلك يسقط الخطاب برمته في التوفيقية الهشة التي تؤدي بالضرورة إلى الانتهازية السياسية.

 

وهنا تبرز خطورة الفقر الفكري الذي لاتزال تعاني منه عموم الحركات الإسلامية مقارنة بتضخم أجسامها التنظيمية واتساع تأثير خطابها.

 

- يجب عدم التقليل من تأثير الجماعات الراديكالية. فهي قد تبدو أقلية من حيث الحجم وعدد الأتباع، لكنها قادرة على قلب المعادلات لصالحها. وفي هذا السياق على الإسلاميين من ذوي التوجه الإصلاحي أن يحذروا من مجاراة خطاب تلك الجماعات بحجة كسب الرأي العام. فذلك من شأنه أن يؤدي إلى التورط والوقوع في الغموض الفكري والتناقض بين الخطاب والممارسة. وهي ورطة وقع فيها الشيوعيون من قبل عندما حاولوا تطويق مجموعات أقصى اليسار وسحب البساط من تحتها، وذلك من خلال التمسك بما اعتقدوه ثوابت الفكر الماركسي.

 

- التخلي عن تضخيم دور الدولة أو السلطة في التغيير الاجتماعي والفكري. وهو منهج قائم على الهرم المقلوب. فلو بذل الإسلاميون عشر الجهود التي أنفقوها في سبيل الوصول إلى السلطة، وسخروها لتقوية مجتمعاتهم المدنية لكان وضعهم وأوضاع مجتمعاتهم أفضل بكثير. إن إعادة النظر في استراتيجية التغيير مهمة أخرى مطروحة على الإسلاميين لابد أن يفكروا فيها بجدية ووضوح.

 

- أخيرا الديمقراطية ليست فقط آلية للوصول إلى الحكم، ولكنها أيضا آلية لتحقيق حيادية الدولة وتحقيق التوازن بينها وبين حرية الفرد وسلطة الغالبية. لهذا فمن المهم أن تراجع الحركات الإسلامية مواقفها من بعض المسائل الحيوية مثل الانتخابات وحرية المعتقد والتعبير والإيمان بالتداول السلمي للسلطة. لكنها إذا استمرت إلى جانب ذلك في ترديد شعار إقامة "الدولة الإسلامية" من دون تقييده وتحديده، فإن ذلك يعني استمرارها في التمسك بالطابع العقيدي للسلطة، وهو ما من شأنه أن يفتح الباب أمام التماهي والتطابق بينها وبين الدولة.

 

لهذا، وفي ظل التجارب السابقة والظروف الدولية الراهنة، قد آن الأوان لتشرع الحركات الإسلامية التي أعلنت قبولها بالآلية الديمقراطية في إدارة نقاشات معمقة ومختلفة عما هو سائد منذ أكثر من نصف قرن، تعيد التناول فيها لمسألة العلمانية وعلاقة الدين بالدولة.

 

وستكتشف هذه الحركات أن العلمانية ليست شرا في حد ذاتها، وأنها تقدم لها ولغيرها أكثر من صيغة لخدمة الشعوب وتحقيق الكثير من القيم والمطالب التي تطمح لها. ومن هذه الزاوية تأتي أهمية التفكير في التجربة التركية بعد أن فشلت كل أنماط الدول العقيدية. * صلاح الدين الجورشي : كاتب وصحافي تونسي

 

المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك