فلسفة الكراهية

فلسفة الكراهية

عبد العزيز بن سعود التميمي

والخطأ يأتي-غالبا- من جهة عدم تصور الأديان تصورا صحيحا ، فيظن أن الاختلاف بين التوحيد والشرك-مثلا- من باب اختلاف التنوع..ولا عجب من النصارى في هذا ؛ إذ زعموا أن الثلاثة تساوي واحدا ، والواحد يساوي ثلاثة في مخالفة لأبسط قواعد الرياضيات

لحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين..أما بعد:

فقد كثر في عصرنا الحاضر-عصر التناقضات والعموميات- الطعن في فكرة الكراهية بإطلاق وكأنهم اكتشفوا لنا - في ظل الاكتشافات الطبيعية المذهلة - اكتشافا باهرا لم يسبقهم إليه أحد

مع أنه سَبَقَهم إلى دعوى نبذ الكراهية كثيرون كبعض الفلاسفة المنتمين إلى الإسلام حيث نظرّوا لمجتمع الدولة المدنية القائم على الحب والوفاء بصرف النظر عن العقيدة كما في كتاب"المدينة الفاضلة"للفارابي (1)كما طبقتها عمليا جمعية إخوان الصفا (2).

وهكذا سار بعض المتصوفة على التنظير إلى محبة كل شيء ؛ لأن الله لا يخلق إلا ما يحبه ويرضاه ، والله تعالى لا مكره له ؛ وعليه يجب علينا محبة كل ما أحبه الله..وهذا في غاية البطلان وغاية المكابرة ؛ لأن كل إنسان يحب ما ينفعه ويكره ما يضره ؛ وهؤلاء خلطوا بين الإرادة الكونية الحاصلة التي قد يحبها الله وقد لا يحبها ، والإرادة الشرعية التي يحبها الله تعالى وقد تحصل وقد لا تحصل كما خلط غيرهم في هذا.. (3 )

(وأما في القرون المتأخرة فقد هاجت موجة تمييع الولاء والبراء في الغرب - تحت غطاء (التسامح) والذي استمات في الدفاع عنه (جون لوك) أحد أبرز المنظرين للفكر العلماني الليبرالي ؛ حيث كتب وناضل من أجل مفهوم التسامح وإلغاء مفهوم البراء بكل أشكاله ، واتسع هذا الفكر في بلاد أوربا وقد ساهم في انتشاره ردة فعل الناس للطغيان الكنسي واستبداد الباباوات الذي ابتليت به أوربا قرونا، فانتقلوا من تطرف إلى تطرف مقابل وهكذا تكون ردود الأفعال في الغالب! )أهـ. (4 )

 

ومهما يكن من أمر ؛ فإن تسطيح مفهوم(الكراهية)وحشد عواطف الغوغاء ضده ، والتأليب عليه ، والصد عنه ، وإلقائه على كرسي النقد جسدا ..ليس من المنهج العلمي في شيء ، وليس من العقل الصريح في شيء ؛ إذ من أوضح البراهين العقلية "دليل التناقض"

 

وقد ذكرته باختصار في البرهان السابع في بحث بعنوان " تمييع الولاء والبراء" فقد ذكرت ثمانية عشر برهانا عقليا على بغض الكافرين هناك ، غير أني أو أن أبسط دليل التناقض هنا ، وأن أبين الأوجه العقلية التي تظهر عوار الدعوات التي تألب ضد الكراهية بإطلاق ؛ إذ كثير من هؤلاء يعيش في عش الخيالات في شعف من جبال الأوهام والجهالات ، فدعا إلى مجتمع أو عقل لا كراهية فيه ...

فالكراهية في قواميس اللغة وفي عرف الاستعمال ضد الحب ؛ فإذا انحسر مد الكراهية امتدت أمواج المحبة ؛ لأن الأضداد لا تجتمع البتة كالبياض والسواد أو كالحركة والسكون ، يوضح ذلك على جهة التفصيل أن الشيئين من حيث الاجتماع والارتفاع وعدمهما أربعة أقسام: متماثلان ،و مختلفان ، وضدان ، ونقيضان..

وما نحن بصدده من جنس النقيضين ؛ إذ لا يمكن أن يجتمع حب وكره مع اتحادهما زمانا ومكانا ، كما لا يمكن أن يخلوا منهما إنسان كالحركة والسكون والحياة والموت والعلم والجهل..وهلم جرا

وهذا بخلاف الضدين كالبياض والسواد ؛ إذ قد يرتفعان معا فيكون الشيء لا أبيض ولا أسود ، وإنما هو أخضر أو أحمر أو أزرق أو نحو ذلك من الألوان!!

فإن قيل:قد يجتمع في الشيء الواحد كره وحب كمن يحب طعاما لمذاقه ويكرهه لرائحته أو لعسر هضمه أو نحو ذلك..

والجواب: أن من شرط التناقض اتحاد المكان والزمان ، وقد وقع الحب والكره على مكانين مختلفين ، فمكان المذاق مختلف عن مكان الرائحة ..والسؤال هل يمكن لشخص واحد أن يحب مذاق الطعام ولا يحب مذاقه ، أو يحب رائحته ولا يحب رائحته ، أو يحبه لعسر هضمه ولا يحبه لعسر هضمه..؟! ونظير هذا من يحب المتناقضات معا كمن يحب التوحيد والشرك أو الإيمان والكفر أو الحق والباطل.. ونحو ذلك.

صحيح أن فلاسفة المنطق يفرقون بين نوعين من التناقضات ، فأحدهما:ما كان من تقابل السلب والإيجاب فهذا النوع لا يخلوا منهما مخلوق البتة كالحركة والسكون ..وثانيهما:ما كان من تقابل الملكة والعدم كالعمى والإبصار..فقد يخلوا منهما مخلوق كالجمادات فهي لا توصف بالعمى ولا بالإبصار (5 )..ونظير هذا فلسفة الحب والكراهية ؛ إذ لا توصف الجمادات بالحب ولا بالكراهية ، والصواب أن الجمادات توصف بالحب والكراهية وعليه تكون من جنس ما يتقابل فيه السلب والإيجاب مما لا يتسع المقام لخوض غماره..

وأيا كان الأمر ، فإن حديثنا عن الآدميين الذين يقبلون الاتصاف بالحب والكره بإجماع العقلاء ، وليس حديثنا عن الجمادات ، و الحب والكره نقيضان يقبلهما الإنسان فلا يمكن أن يجتمعا في مكان واحد وزمان واحد ولا أن يخلوا منهما قلب إنسان البتة.

وإن كان لا يلزم أن يوجد في قلوبنا اتجاه كل مخلوق حب أو بغض ؛ إما لعدم العلم به كما قال تعالى:( وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) وإما لعدم ميلان النفس إليها ككثير من الجبال والوديان والأشجار ونحوها

، لكن خلو قلوبنا من الحب والبغض اتجاه بعض المخلوقات لا يلزم منه خلوها من الحب والبغض ذاته لمخلوقات أخرى ، كما أن الحديث متجه إلى من يزعم محبة أحد النقيضين مع خلو الآخر من الكراهية ..كمن يزعم محب كل شيء ؛ إذ يلزم من هذا حب النقيضين معا وهذا في غاية الامتناع..

ومما يقضى منه العجب أن تجد فلاسفة كبارا ونظارا أذكياء يزعمون أن الإسلام والنصرانية واليهودية كلها طرق توصل إلى الله..ومن ذلك ما قاله جون لوك في كتابه التسامح (8):( الاعتراف الإيجابي بالأديان الأخرى على أنها مذاهب ممكنة لعبادة الله) (6 )

والخطأ يأتي-غالبا- من جهة عدم تصور الأديان تصورا صحيحا ، فيظن أن الاختلاف بين التوحيد والشرك-مثلا- من باب اختلاف التنوع..ولا عجب من النصارى في هذا ؛ إذ زعموا أن الثلاثة تساوي واحدا ، والواحد يساوي ثلاثة في مخالفة لأبسط قواعد الرياضيات ..

وإنما العجب-كل العجب-من بعض نظار المسلمين الذين وقعوا في فخاخ التناقض ولم يجزموا بكفر اليهود والنصارى كجمال الدين الأفغاني والدكتور محمد عمارة وغيرهما مخالفين بذلك صحيح المنقول وصريح المعقول وما أجمع عليه المسلمون(وماذا بعد الحق إلا الضلال)

وهذا يقودونا إلى مسألة تنزيل الأحكام على الأعيان ، والإعذار بالجهل في أصول الدين وفروعه (7)، وأن المعيار الراجح ، والبرهان الواضح في أحكام الدنيا هو التفريق بين الأمور الواضحات والأمور الخفيات ، ففرق بين من ينكر التوحيد والشمس وفوائد التمور وبين من ينكر فائدة القياس المنطقي ووجود كوكب بلوتو وفائدة المشروبات الغازية..فإنكار الأمثلة الأولى ممتنع بخلاف إنكار الأمثلة الثانية كما لا يخفى ، وإن كان بيان هذا ، وبيان أحوال الناس في الاجتهاد ، وإيضاح أوجه الإشكالات ، والتفريق بين الظهور والبطون ، والإجابة على نسبيتهما ، ونحو ذلك يحتاج إلى إفراده ببحث مستقل.

والمقصود أن"دليل التناقض" حجة أكيدة في مضمار الكراهة والمحبة ، وأنهما لا يمكن اجتماعهما بحال..إلا مع اختلاف الزمان كأن يحب اليوم زيدا ويكرهه غدا ، أو مع اختلف المكان أو الجهة..وذلك أن الكراهية شعب كما أن المحبة شعب..فمن أحب زيدا لشجاعته لا يمنع أن يكرهه لبخله لاختلاف المكانين كما لو أحب زيدا وكره عمروا ..وهذا أمر ظاهر..ونظير هذا أن يكره زيدا لكفره أو فسقه أو معصيته ويحبه للطفه أو كرمه أو لما معه من أصل التوحيد ونحو ذلك من جهات المحبة المشروعة المنفكة عن جهات الكراهة المشروعة ، والجوارح لاشك تتحرك وفق ما يمليه عليها القلب من محبة وكراهية ، فإذا أحببت رجلا ؛ لأنه أباك-مثلا- فيقتضي منك هذا الحب أن تعامله بالبر والحسنى من باب رد الجميل وإن كان كافرا ؛ لأنه في كثير من الأحيان لا تعارض بينهما ؛ فإن اقتضى برك بأبيك هضما لجناب الحق كما إذا أمرك أبوك بمعصية أو فسوق أو كفر أو مناصرة للباطل فحينئذ تقدم محبة الحق على محبة أبيك وجوبا كما قال تعالى:( وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)فإن قدمت الحب الفطري على حب الحق ومناصرته فقد يكون عملك هذا معصية أو فسقا أو كفرا بحسب الأحوال مما لا يتسع المقام لبسطه هنا.

وبهذا نعلم أن فلسفة الحب المطلق ونبذ الكراهية مطلقا مع أنها في غاية الجلاء بمكان لا يخفى على عوام الناس فضلا عن خواصهم ، فإن النصوص الشرعية في الكتاب والسنة مستفيضة في تأييد هذا المعنى العقلي الواضح ، فمن ذلك قوله تعالى:(فماذا بعد الحق إلا الضلال) وقوله تعالى:( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى)ونظائر ذلك. ولا يستحق الحب المطلق الكامل سوى الله تعالى، وهو معنى لفظ الجلالة ؛ إذ "الله" مشتق من المألوه أي:المحبوب غاية المحبة وهذا معنى العبادة ؛ إذا متى ما أحببت شيئا غاية المحبة فقد عبدته سواء ركعت أو سجد أو لم تركع جوارحك ولم تسجد فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-"(تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم..)الحديث ، قال ابن حجر:أنظر كيف سماه الله عبدا ، مع أنه لم يركع له ولم يسجد ، وإنما المراد أنه أحبه غاية المحبة...

وكثيرون من هؤلاء يحتجون بالواقع المزيف في كثير من الأحيان - من أن النصارى يحبوننا ويحبون ديننا الإسلامي ويبدوا أنهم من أنصار المدرسة الكنتية الحسية التي هي امتداد لمدرسة البراهمة الأوليين التي لا تؤمن إلا بالمحسوسات- وهذا الاحتجاج مع أنه مناف للعقل كما تقدم ؛ إذ لا يجتمع حب التوحيد والشرك في قلب البتة فهو أيضا مناف للواقع الغابر عبر القرون الممتدة في عرض التاريخ ، كما أن استقراء الواقع المعاصر يشكل بمجموعه كليا عاما يبرهن على كراهية كثير من أصحاب الأديان والمذاهب الفكرية لغير أصحابهم ممن هم ليسوا على معتقدهم فضلا عن كراهتهم للدين الإسلامي نفسه الذي يلزم من دعوى حبهم له التناقض السافر ؛ وصاحبها إما كاذب في دعواه ، أو جاهل بحقيقة الأديان ؛ إذ من الممتنع على أرض الواقع الجمع بين حب التوحيد وحب الشرك ، كدعوى من يحب الحركة والسكون في نفس الوقت ، فقد عقدت الكنائس الـأمريكية مؤتمرها التنصيري الشهير-مؤتمر كولو رادو-في مايو سنة 1978م-أعلنت فيه الحرب الصليبية الجديدة على الإسلام فقالت-في وثائق المؤتمر-:(إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية...) (8)وما حروبهم الطاحنة على بلدان الإسلام و المسلمين في العرق وأفغانستان والصومال وغيرها مع إظهار حجج متهافتة وإبطان السبب الحقيقي وراء هذه الحروب إلا نماذج حية على تأصل الكراهية في قلوب كثير ممن يعلمون حقيقة الأديان.ففي 2001م شن الجيش الأمريكي "الأطلنطي" حربا ضروسا على الشعب الأفغاني قضت على مقومات الأمن الغذائي والصحي للشعب الأفغاني ولم ينعش في تلك البلاد سوى زراعة المخدرات التي تضاعفت مساحتها ثلاث مرات..وكانت الحملات التنصيرية مع الجيوش الغازية جنبا إلى جنب..وشهيرة تلك الأزمة التي تفجرت-إعلاميا- في 19يوليو سنة 2007م عندما أسرت حركة طالبان23 منصرا كوريا كانوا يعملون على تنصير المسلمين في أفغانستان-التي ليس في شعبها نصراني واحد- وقد امتد نشاط هؤلاء المنصرين الكوريين إلى العراق-في ظل الاحتلال الأمريكي 2003م-وإلى مواطن تجمعات اللاجئين العراقيين في الأردن وغيرها ،

 

ونشرت مجلة"نيوزويك" الأمريكية إبان الحرب على العراق عدد11-3-2003م-أن الرئيس الأمريكي"بوش-الصغير"قد أقنع نفسه ، وأعلن أن حربه على العراق(هي حرب عادلة وفق المفهوم المسيحي ، كما شرحه القديس أغسطس  "354-470م" في القرن الرابع وكما فصله كل من القديس توما الإكويني"1225  -1274م" ومارتن لوثر"1483-1546م"وآخرون..) ومن ذلك أن "ريتشارد لاند"وفرانكلين جراهام" بينا أن غزو العراق لتنصير المسلمين..

وبعبارة"نيوزويك(هؤلاء المبشرين الإنجيليين لا يخفون رغبتهم في تحويل المسلمين إلى المسيحية-لا بل لا يما-في بغداد) وقد تطوع نحو 800 مبشر ونحو ذلك من الأرقام والحقائق..حتى لقد هاجم نشاطهم هذا بطريرك الكاثوليك في العراق"إيمانويل ديلي"في 19مايو سنة 2005م قائلا(إنهم أتوا لتحويل مسلمين فقراء عن دينهم باستخدام بريق المال والسيارات الفارهة) (9 )

والكلام عن هذا يطول ، ولا ينكر التأثير العقدي في تلك الحروب إلا جاهل أو مكابر.

والمقصود أن هؤلاء المتكلمين لو أعطوا العقل حضه من النظر ، وأعطوا النصوص حقها من الاستدلال ما ضلت أفهامهم ، ولا زلت أقدامهم ، وعلموا أن العقول الصريحة توافق النصوص الصحيحة.

بقي التنبيه إلى خطأ شائع في أوساط الخواص فضلا عن مثقفي الناس وعوامهم وهو أنه إذا قيل له:هل تحب الكافر؟؟ قال:أكرهه لكفر أو لعمله وإن كنت أحبه لذاته أو نحو ذلك..والكلام على هذا ينتظم في أمرين:

الأمر الأول:أن لفظ(الكافر)وصف من الأوصاف التي علق عليها الشارع حكما ، وفي مسالك العلل عند علماء الأصول أن الحكم المعلق بوصف مناسب يدل على أن ذلك الحكم علة له ، كما لو قيل لك:أكرم العلماء يعني:لعلمهم ، أو قيل لك:أهن الجهال أي:لجهلهم ، ونظير ذلك قوله تعالى:(إن الأبرار لفي نعيم)أي:لبرهم ، (وإن الفجار لفي جحيم)أي:لفجورهم...وهذا مشهور في كلام الناس ، فإذا قيل لك:هل تحب الإرهابي؟ قال:لا ؛ لأنه وصف بمعنى لإرهابه ..

 

ومثله سائر الأوصاف كالفاسق والعاصي والبخيل والكريم والشجاع ونحو ذلك ، ولا مكان للتفصيل ؛لأنه في لسان العرب عي وتطويل وبرودة في الخاطر.. وهو حجة عند جمهور العلماء في الجملة وإن كانت بعض المواطن لا ينبغي أن يختلف فيها لتضافر النصوص وتعضدها مما لا يبقى معه شك في أن الحكم المعلق على ذلك الوصف صحيح كما هو الحال في إناطة الشارع للمحبة على وصف الإيمان ، وإناطة الكراهة على وصف الكفر..

والكافر في اللغة بمعنى الجاحد ، وكل العقلاء يكرهون الجاحد ولا يحبونه ، أما لو قيل: هل تحب زيدا؟؟ فهنا يفصل الإنسان بأنه يكرهه لجحود ويحبه لشجاعته مثلا..أو يكرهه لإرهابه أو فسقه أو معصيته..ويحبه لقرابته أو لطفه أو معروفه ونحو ذلك

والأمر الثاني:أن الكلام إذا توجه للأعيان كأن تسأل عن محبة زيد أو عمرو ونحوهما –وهما في حقيقة أمرهما كافرين- جازه أن تحبهما محبة فطرية ، كأن تحبهما لمعروفهما ، أو لشجاعتهما أو لكرمهما ونحو ذلك ، لكن يجب أن تكرههما لكفرهما..والجهة هنا منفكة في الأصل ، إلا إذا تعارض الحب الفطري مع حب الحق فيجب التبرؤ من الباطل وأنصاره(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وقال تعالى:( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)

 

وإذا حصلت الكراهية لشيء من وجه ما فيلزم أن ينتفى عنه الحب الذي بإزائه ، وإن كان لا يلزم منه أن ينتفي الحب عنه من وجه آخر غير الذي كرهه بسببه ، كمن كره زيدا لبخله فإنه يزول من محبته لكرمه بقدر ما كرهه من بخله ، ومن كره رستم لكفره وباطله فإنه يزول حبه للحق الذي معه بقدر كرهه لباطله ، وقد جعل الله المعيار بحجم الحق والباطل ، فإن كان ما معه من الحق أعظم –كمن آمن بالله واليوم الأخر وبالملائكة والرسل واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره-كان في دائرة المؤمنين المحبوبين ، وإن كان قد يكره بحسب ما معه من الباطل ، وإن كان ما معه من الباطل أعظم-كمن كفر بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر- كان في دائرة الكافرين المكروهين ، وإن كان يقل عنه الكره بحسب ما معه من الحق

 

 ولهذا كانت محبة المؤمنين فريضة كما أن كره الكافرين فريضة ، وأسباب الكره والحب لدي الناس كثيرة جدا لم تنط بها الشريعة العادلة الشاملة حبا ولا كرها سوى ما تعلق بالحق والباطل تلك القضية التي يتغنى في الإنتساب إليها أدعياء الشرق والغرب ، كما أن الشريعة الإسلامية رخصت في الكره الفطري ما لم يعمل بمقتضاه أو يبوح به إلا بوجود حاجة شرعية تدعوا إلى ذلك كما في قصة امرأة ثابت-رضي الله عنه وعنها – أنها أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟) قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً)متفق عليه.

فهذا الكره الجبلي لا يؤاخذ عليه الإنسان ما لم يتجاوز فيه صاحبه بالقول أو العمل فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ"

فعلم من هذا أن الكره الفطري لا يلزم منه الكره الإيماني ، كما أن الحب الفطري لا يلزم منه انتفاء الكره الإيماني..ولهذا أباح الله تعالى معاملة الكافرين بالبر والإقساط إليهم إلا حين يصبح البر بهم والإقساط إليهم معارضا للحق كمن يقاتل ضد المسلمين أو يخرجهم من ديارهم ونحو ذلك.قال تعالى:( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)

 

والكلام عن فلاسفة المحبة والكراهية يحتاج إلى تفصيل أطول . والله تعالى أعلم.

 

الهوامش

 

 

 

 (1)قصة الحضارة (13/206)

 (2)قصة الحضارة (13/206)

 (3 )مجموع الفتاوى

 (4)تمييع الولاء والبراء بين النقل والعقل(10)

 (5 )درء تعارض العقل والنقل (4/ 36)

  (6)بواسطة كتاب نقد التسامح الليبرالي(22)

 (7)وقد أبطل ابن القيم تقسيم الدين إلى أصول وفروع مختصر الصواعق (590)

  (8)العلمانية بين الغرب والإسلام(52)

 (9)العلمانية بين الغرب والإسلام لمحمد عمارة(52-61)

المصدر: http://taseel.com/display/pub/default.aspx?id=1717&ct=24&ax=5

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك