الوحدة والتقريب وإشكاليات تداخل السياسي والمعرفي

الوحدة والتقريب وإشكاليات تداخل السياسي والمعرفي

نجف علي ميرزائي

 

لأهمية الوحدة والتقريب، وما يمكن أن ينجم عنهما من خير للأمة، بل للحياة الاجتماعية المعاصرة، وكذلك لما قد نجم عن الفُرقة والشَّرذَمة التي عشناها في تاريخنا الطويل من دمار وخراب في كل ناحية، ورغم أني أعرف مسبقًا أن الكثيرين لا يعجبهم الحديث الصريح والنقد الواضح، أراني مضطرًّا إلى أن أكون فيما أكتبه وأقوله في نهاية الصراحة علّها تساهم في إعادة اللحمة والرحمة إلى منظومة العلاقات الإسلامية بين بعضها البعض.

 

بادئ ذي بدء، أظن أن المشاريع الوحدوية والتقريبية، مع أنها قد ساهمت في تخفيف حِدّة العلاقات ولعبت دورًا إيجابيًّا في تذويب بعض الجليد التاريخي بين المذاهب الإسلامية، غير أنها لم تفلح في تحقيق غاياتها الأساسية، ولم يتمخض عنها بديل صالح وحالة صحيحة مقبولة في أرجاء العالم الإسلامي.

 

إنا إذ نقدر جهود رجالات التقريب في مصر وإيران ولبنان وسوريا وغيرها من البلاد الإسلامية العربية وغير العربية، وندعو إلى تخليد ذكراهم وتأكيد مشاريعهم، غير أن الواقع الإسلامي لم يشهد تحولاً كبيرًا وجوهريًّا، حيث الأمة لا تزال ممزقة ومقطوعة الأطراف تراوح مكانها رغم الأطروحات الإصلاحية والنهضوية والقومية والتجديدية كما يحلو لأصحابها أن يسموا مشاريعهم كذلك.

 

ولأننا نلاحظ حالة كارثية في علاقة المذاهب والتيارات الفكرية بعضها مع بعض، أرجو أن يسامحني الراغبون في تمجيد وتكريم المحاولات التاريخية في المجال التقريبي؛ لأني سأركز على النواحي الفاشلة، ذلك أني أرى الاهتمام بالنقد الصريح لإشكالية الوحدة والتقريب وفتح النقاش الواضح على أسباب تمادي التمزق الإسلامي هو الأَولى، ولا يعني ذلك الاستخفاف بما حققناه في تاريخنا الإسلامي الطويل من جهود جبارة على صعيد الائتلاف والتقارب. * معالجة التراث الموبوء!

 

وفي اعتقادي أن البداية الصحيحة للحلحلة كامنة في وعي شامل وحقيقي عن حيثيات تاريخية غير معرفية، ودخيلة على المسار الفكري الإسلامي، ما يحث على دراسة معمقة للتاريخ الإسلامي بعيدًا عن الحدود المذهبية الضيقة. لأجل فهم أن التصنيفات المذهبية ليست هي الصورة المثالية للإسلام في كل عصر، وأن التضاريس التاريخية لها الدور المهم جدًّا في تكوين تقسيمات وانشقاقات حادة؛ وهو ما أربك الكثير من محاولات التقريب، وخاصة ذلك النطاق المتعلق بتداخل السياسي مع المعرفي، في ضوء المآرب السياسية التي تطلبت أحيانًا أن تقوم بعض الجهات السلطوية من شتى الأطراف وتحت كافة الغطاءات المذهبية بتفتيت الصف الإسلامي وجعل الأمة شِيَعًا.

 

والأخطر في ذلك هو تسرب هذه المعضلة إلى أعماق المناهج المعرفية والأنساق الاجتهادية؛ الأمر الذي أسس لفهم فريقي ومذهبي للدين وتفسير طائفي له بدلاً من التفسير الديني للتيارات والتوجهات، فإن الأغلب قد حاول أن ينظر إلى المقاييس والموازين من داخل الجدران المحدودة، وتجاهل الجوهر والمرجعية الكبرى للدين، وهي الكتاب وقطعي السنة، إلى جانب دور العقل وتشخيص الثابت والمتغير في صحيح السنة.

 

وإن المنهج المألوف في المذاهب، المتمثل بالتمسك الجزئي والفرعي قبل الكلي الأساسي، قد شكّل إعاقات كبيرة أمام تحقق منهج سليم لإنتاج المعرفة الدينية الإسلامية، وأدت هذه المشكلة إلى أن يغلب المدلول التاريخي على العقل الاجتهادي، وأسفرت عن إيجاد حالة مرضية في التعامل بين بعض الأطراف؛ لأن التثبت بالجزئي أكثر من، وقبل التماس القواعد والأسس: يوجِد موانع كبيرة أمام الوحدة والتقريب، ففي الوقت الذي يفكر بعضنا في أن يفهم الإسلام بطريقة إنسانية عقلانية اجتماعية تؤسس للمجتمع الحضاري الذي يعيش الإنسان فيه بأمن وسلام مهما كان انتماؤه وفكره ومذهبه، وفي الوقت الذي نريد أن نؤكد عالمية العقيدة الإسلامية: نشهد مخاضًا إسلاميًّا صعبًا لا نزال ننتظر فيه ولادة مفهوم إسلامي يجمع أطراف الأمة، ومن المفارقة الخطيرة أن نجد من حين لآخر مزيدًا من التصدع.

 

ولعلّ بعض السبب في ذلك عائد إلى النظرة غير الواقعية إلى مقولات الوحدة وقضايا التقريب، وفشل علماء الإسلام في الخروج من الدوائر التاريخية الضيقة في بناء أصول اجتهاد ترتكز إلى مقاصد وقواعد الإسلام العامة، وإظهار تسامح كبير فيما دون ذلك.

 

ومن هذا المنطلق نرى من المهم الإشارة إلى وجود ملابسات اجتماعية سياسية محضة في بعض الجهود المهمة والمشاريع الأساسية في نظريات التقريب؛ وهو ما جعل مستقبل ومصير هذه الأعمال عرضة لأحداث اجتماعية أخرى من اتجاه معاكس. ولا شك في أن الأرضية السياسية للتقريب مهما كانت مهمة وذات سلطة وقوة اجتماعية، إلا أنها تدفن النار تحت الرماد ولا تخمدها نهائيًّا، وأن الحالة الإسلامية فيها مرشحة للانتكاسة والتراجع.

 

باعتقادنا، أن معالجة التراث الموبوء -كما يسميه الدكتور طه جابر العلواني- بطريقة حكيمة ودقيقة، وتطهيره الجريء من كل ما التصق به من عوارض وعناصر دخيلة، والعمل الإسلامي الجاد على وضع مناهج اجتهادية تؤسس لنخبة من المجتهدين يملكون الشجاعة الكافية في إعادة ترتيب وتصنيف أولويات وطبقات التراث في ضوء القرآن الكريم ويقيني وقطعي السنة، من شأنه أن يخفف من الاحتقان الحاصل في علاقة المذاهب بعضها بالبعض، ولا يخفى على أحد ما للمصادر اليقينية الثابتة من مرجعية لهذه الحركة الاجتهادية التصحيحية الصعبة.

 

ويبدو لي أن خطوط المواجهة الإسلامية، وخنادق الصمود قد تموقعت وتموضعت داخل الإسلام بمذاهبه وتياراته، بفعل إفرازات غير بريئة من خارج إطار مقاصد وغايات الشريعة. وفي ضوء ذلك، نجد أن صدمات خطيرة قد وقعت، بل تمنهجت في الأمة، وباتت إمكانيات وطاقات الأمة قد تعرضت للاستهلاك والاستنزاف على أثر هذا الخطأ الكبير في تموقع قواعد الإسلام. وبعد التي واللتيا، ودون الإصرار على خوض هذه الأسباب وهذا المنهج الذي قد وقع الجميع فيها بنحو آخر، ندعو الحريصين على وحدة الأمة أن يبذلوا الجهد العلمي الجاد والممنهج في سبيل نقل المعركة وخنادقها من داخل الصفوف الإسلامية إلى خارجها الذي يعمل اليوم تحت أخطر وأبشع العناوين لضرب القيم ولتحطيم الإنسانية والذي قد رأى في الإسلام أكبر ممانعة لتحقيق مآربه؛ لأن الفكر الإسلامي في بنيته التحتية وأسسه الثابتة من شأنه أن يتحول إلى البديل الأقوى للمشاريع الحضارية بعد ما فشل غيره في إسعاد الإنسان وبناء المجتمع السعيد. * ضرورة تصحيح منطلقات الوحدة

 

أكدت ذلك لأقول: إن مسارات التقريب والائتلاف الإسلامي قد اتخذت مناحي انحرافية في بعض الحالات من خلال ارتباطها الوثيق بمصالح التعامل السياسي والاجتماعي أكثر من الاتفاق على التقاء المذاهب الإسلامية على أسس وثوابت الإسلام. وأرى من المهم جدًّا الالتفات إلى ضرورة تصحيح منطلقات الوحدة، وتخفيف الدور السياسي في المشاريع الوحدوية لصالح تفعيل الدور الاجتهادي والمعرفي في إعادة صياغة أصول الدين وعدم تنزيل مراتب الفروع المنزلة الأولى في الفكر الديني، واعتبار الوحدة الحقيقية في وحدة الرؤية الإستراتيجية والمقاصدية والفلسفية لأساس الدين. إنه هدف لو تحقق فسيشهد الشارع الإسلامي الكثير من الانفتاح والرحمة فيما بينهم، وستنتقل الشدة واللاتسامح إلى عمق الجبهة المعادية للقيم الإنسانية السامية، وتسود علاقات سليمة المذاهب الإسلامية كافة مهما اختلفت في فهمها واجتهادها.

 

وينبغي لنا القول: إن الحالة الوحدوية لا تعني وضع حد للاختلاف والتعدد ولا يقصد منها السعي إلى توحيد الاجتهاد وإعاقة حركية منطق ومنهج الفهم الديني، وإنما المراد الجوهري هو وجوب توحيد المرجعيات والمفاهيم الأساسية، وتركيز العمل الإسلامي على هذه الأسس، وإبداء أوسع نطاق من التسامح فيما دون ذلك. ولا داعي للخوف من القول: إن الحالة الراهنة في الاجتهاد الديني المرتكز على تغليب المذهبية على الأسس الثابتة والقطعية، لن تنتهي إلى تكوين الأمة إلا لمن يختصر الأمة في مذهب خاص دون غيره.

 

ومن المحزن المؤسف أن يرى المرء هنا وهناك محاولات تأسيس حالات طائفية ومذهبية حادة، وخاصة ما يجري في المنطقة هذه الأيام مما ينذر بخطر تعميق وتجذير، بل تأصيل التفرق والتشرذم. وهنا يجب إبداء أعلى درجات الغرابة مما يجري في العراق، حيث نرى أن المذاهب الإسلامية منغلقة على نفسها، وهي تبدد ممالك أجنبية تحاول تسجيل النقطة والامتياز على بعضها.

 

إن الخطاب السياسي في عراق اليوم، خطاب مذهبي وطائفي غير صحي من كل الأطراف؛ دون استثناء، ولم أجد حالة وطنية عرقية إلا في النطاق المذهبي والقومي، رغم وجود محاولات مشكورة وشعارات جيدة، غير أن الحقيقة يجب أن تقال مهما ثقلت على بعضنا. والسبب الأساسي في ذلك هو تاريخي مزمن لا يجوز الاستخفاف به أو الوهم في سهولة تجاوزه؛ لأن الديكتاتورية والسياسة التوتاليتارية قد تُقحم في واقعها مواقع مذهبية أحيانًا، مما يعقد المشاريع الوحدوية، ونحن نعرف أن الموقع السياسي لن يكون الجهة الأصلح في إصلاح العلاقات بين المذاهب لو لم نقل بأنها هي الأساس التاريخي في إعاقة هذه المشاريع الوحدوية.

 

إن تأملات صادقة في منحنى القرار السياسي والخطاب الاجتماعي في العراق وغيره من المجتمعات الإسلامية تحكي وجود هيمنة غير فكرية على المسار الفكري الديني، وتؤكد وجود امتداد مزمن لحركة الاستغلال المذهبي من قبل الأطراف كافة في الساحة، وهذه حالة لا تنسجم مع غايات الدين الإسلامي، ولا تتناغم مع مقومات المجتمع الديني. * نجف علي ميرزائي: مدير مركز الحضارة للدراسات الإسلامية الإيرانية العربية.

 

المصدر: إسلام أون لاين

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك