صراع السنة والشيعة المفتعل والتنازع على مقاعد التايتانيك

صراع السنة والشيعة المفتعل والتنازع على مقاعد التايتانيك
عبد الوهاب الأفندي
في منتصف الثمانينات، حينما كانت حرب الخليج بين العراق وإيران في أوج اشتعالها، دخلت الولايات المتحدة طرفاً في تلك الحرب بدعوى حماية دول الخليج من الخطر الإيراني. وأذكر وقتها حواراً دار بيني وبين مفكر إسلامي كان يدعم الموقف الخليجي ـ العراقي بقوة بحجة أن الشيعة أصحاب عقائد منحرفة وهم خطر يجب محاربته حتي إذا استدعي ذلك ممالأة أمثال صدام وريغان. فقلت لصاحبي: هل نفهم من ذلك أن الأساطيل الأمريكية قد جاءت إلي المنطقة لمحاربة البدع وإقامة السنة الصحيحة؟
أجاب الرجل قائلاً إنه لو كان له جيش لكان يومها في الخنادق مع صدام أو في البحر مع الأمريكان لمحاربة الشيعة المبتدعة، فليس هناك جهاد أولى من هذا الجهاد، ولا حتى الجهاد في فلسطين!
دارت الأيام وعادت الأساطيل الأمريكية إلي الخليج، ولكن هذه المرة لمحاربة صدام الدكتاتور المارق. ولا يمكن أن ألوم صديقي المجاهد في ثبات موقفه، لأنه كان أيضاً يقف وراء الأساطيل الأمريكية، ولكن هذه المرة لمحاربة صدام العلماني المعادي للإسلام والناقض للعهود. وفي الحالين كان هناك دعاة وأئمة يطوفون الآفاق ويعتلون المنابر في دعم الموقف إياه، والوقوف وراء ولي الأمر. وكانت الولايات المتحدة تهش لهؤلاء الدعاة وتطرب لمقولاتهم المؤيدة لصحيح العقيدة، والمحاربة لبدع الشيعة التي كانت ترى فيها أكبر خطر على الأمن والسلم في العالم، حتى أن الدعاة إياهم أصبحت لهم مكاتب في واشنطن ومساجد في كل مدينة أمريكية كبرى.
ثم جاءت أحداث ايلول (سبتمبر) فغزو العراق، فانقلب كل شيء. الآن أصبح دعاة التوحيد المحاربون للبدعة وهابيين خارجين عن الملة، يطاردون في كل مكان ويلعنون من على كل منبر. أما الإسلام الشيعي الذي كان يوصف في الماضي بـ(الخمينية) ويهاجم من كل موقع، فإنه أصبح اليوم عنوان الاعتدال ومفتاح الديمقراطية. وأصبح اليوم يدعى للإمام علي السيستاني رضي الله عنه من على منابر واشنطن وصفحات نيوزويك والواشنطن بوست.
ومن يستمع إلى بعض مقولات المهللين لهذا الفتح الأمريكي المبين يكون معذوراً لو اعتقد أن الرئيس جورج بوش قد بعث بين يدي المهدي المنتظر ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، ويعجل بفرج آل البيت ويكبت عدوهم. وهكذا أصبح الجهاد اليوم كتفاً بكتف مع المارينز على مشارف كربلاء وعلى بعد خطوات من مراقد الأئمة هو الجهاد الأكبر الذي يأثم تاركه ويفوز من يتولاه. وأنعم بمن فتح الله عليه حتي يكون من جند الشيطان الأكبر الذي أصبح بقدرة قادر نصير الأئمة وسند أهل البيت.
تكفي نظرة عجلى على مثل هذه المصائر والمنقلبات حتى يرى من رزقه الله من العقل أقل نصيب أن الوقت حان للتوقف وللتأمل في حال هذه الأمة، ومسارعة كبار قادتها إلى التهلكة. فمن الواضح أن هناك خللاً كبيراً في التفكير يدفع الناس إلى ورود موارد لا يقترب منها عاقل. وكل ذلك نتيجة العكوف على النظرات الطائفية الضيقة، وعدم التدبر في العواقب.
ولا نريد هنا للحظة أن نقول أنه لا يوجد خلاف حقيقي بين الشيعة والسنة، فالخلاف موجود، وهو خلاف ليس باليسير. وهناك مفكرون يقللون من شأن هذا الخلاف، مثل الشيخ حسن الترابي الذي يقول إنه ليس بسني ولا شيعي. وإذا كان هذا الموقف النظري له ما يبرره كما سنوضح لاحقاً إن شاء الله، فإنه لا يحل المشكلة فيما يتعلق بالاستقطاب الطائفي القائم، لأن طرفي هذا الاستقطاب لا يقبلان الحياد، وسيتساءلان: هل أنت شيعي محايد أم سني محايد؟ (ويذكرني هذا بطرفة رواها سفير هندي سابق في بغداد عن أطفاله الذين أتوه بعد أول يوم لهم في المدرسة في بغداد يتساءلون: يا أبي، هل نحن هندوس شيعة أم هندوس سنة؟).
ولكن الخلاف شيء والصراع شيء آخر. فليس هناك ما يدفع المختلفين إلى الصراع، خاصة إذا لاحظنا في حالات الخلاف التي أشرنا إليها أن كلا الفريقين لم يكن فقط مستعداً للتعايش مع غير المسلمين ممن يخالفونه العقيدة إضافة إلي مناصبته العداء، بل كان مستعداً للقتال جنباً إلي جنب معهم. أفلا يسع إذن هؤلاء مع إخوانهم المسلمين ما وسعهم مع العدو البعيد، خاصة وأن المطلوب منهم ليس القتال إلى جانبهم، بل مجرد الكف عن قتالهم؟
وهذا يقودنا إلى نقطة افتعال الصراع الدائر اليوم والذي يكتسي طابعاً طائفياً عقائدياً. فنحن نقول بأنه صراع مفتعل لأنه لو كان هناك صراع ديني أو مذهبي لكان من هم أولى بالقتال هم المخالفون في الدين. ولكن الطائفية اليوم افتقدت تماماً أي بعد ديني، وأصبحت ظاهرة قبلية. فالانتماء الطائفي كما يتبلور في هذه الصراعات لا علاقة بالعقيدة من بعيد أو قريب. ذلك أن الشيعي (بمعنى من انتمى آباؤه إلى الطائفة وتربى في كنفها) يعتبر في عرف هؤلاء المتقاتلين جزءاً من الطائفة حتى وإن كان ملحداً لا يؤمن بالله ورسوله، فضلاً عن أن يكون من مساندي إمامة أهل البيت. أما السني (بمعني الآخر) فهو مرفوض حتى وإن كان مؤمناً محباً لأهل البيت (ولا يوجد مسلم سني لا يحب أهل البيت ويتبرك بهم). وبالمثل فإن الصف السني يشتمل في عرف متولي كبر هذا الصراع على من انتمى إلى المعسكر المعني حتى وإن كان متطرفاً تكفيرياً، أو ملحداً أو علمانياً. وفي الحالين يتغاضى عن جريمة المجرم من أهل الصف ويغفر ذنبه، بينما تعظم جريمة الآخر مهما صغرت وتحمل طائفته كلها الجرم بحيث يستحل القتل لمجرد الانتماء لتلك الفئة. وهكذا يرتكب الكل الجرائم التي يخلد صاحبها في النار وهم يدّعون اتّباع منهج الدين.
يضاف إلى هذا صحة ما لمح إليه الشيخ الترابي في أن الخلاف القديم الذي أسس للانقسام السني الشيعي لم تعد له علاقة بواقعنا اليوم. فلا يوجد بيننا حالياً أئمة من أهل البيت ينتظرون دورهم في الحكم، كما لا يوجد أدعياء خلافة من بني أمية أو بني العباس يناصبونهم العداء أو يتولون اضطهادهم. وبنفس القدر فإن الروايات التاريخية عما ارتكب من كبائر في حق هذه الفئة أو تلك لم يعد بذي موضوع، وأن اجترار تلك الأحداث والمرارات كان له في الماضي دور في الدعاية الحزبية، ولكن لم يعد له اليوم دور أو وظيفة.
لقد اندثر اليوم ملك قريش بأميتها وعباسها وهاشمها، ولم يعد هذا أمراً يستحق الالتفات له أو النبش في خفاياه إلا للمؤرخين. وما يواجه السنة والشيعة معاً هو واقع جديد لاعلاقة له بذلك الماضي. فالصراع على السلطة في الدول الإسلامية هو بين مجموعات عرقية أو تيارات سياسية، أو بين المتدينين والعلمانيين. أما الصراع الأهم فهو صراع الاستقلال وتحرير إرادة الأمة، وهو صراع تساهم النزاعات الطائفية في خسارته، حتي وإن لم تؤد هذه الخلافات إلي انحياز هذا الطرف أو ذاك إلى المستعمر والمحاربة في صفه.
وإن من الانصرافية ما يقوم به البعض من تبشير طائفي لكسب الأنصار هنا أو هناك، لأن الأمر كما ذكرنا غير ذي موضوع. فالولاءات التي تتبلور ليست ولاءات دينية، وإنما هي عصبيات طائفية، والتزيد فيها يؤدي إلي المزيد من الاستقطاب وشق الصف.
ولو كان الأمر أمر دين، لكان الأولي بالدعوة القسم الكبير من الشيعة في إيران والعراق ممن أداروا ظهرهم للدين، وهم يوشكون أي يصبحوا غالبية في إيران، وهم بالقطع الغالبية في المهجر، خاصة في الولايات المتحدة. والأقربون أولى بالمعروف.
إن التحديات التي تواجه الأمة أكبر من أن يتم الانشغال عنها باهتمامات انصرافية، وأمور تعمق أزمة الأمة وتخلق في وسطها انشقاقات جديدة نحن في غنى عنها. هناك خطر يتهدد اليوم إيران، وأخطار تتهدد السعودية وبقية دول المنطقة. ويجب كذلك أن ما سماه الكاتب ولي نصر (النهضة الشيعية) هي ظاهرة مهددة بدورها، لأنها جاءت على حراب الأمريكان، وهم أول من تنبه لخطرها. وستكون خطوتهم التالية هي العمل على تحجيمها، لأن مخططهم في ضرب إيران لن ينجح بغير ذلك. والمخطط الآن هو استخدام الشيعة لإخضاع العراق، ثم التحول لتحجيمهم. وفي الماضي كان الاستهداف والاستنصار يأتي على موجات. وهكذا كان هناك عهد طغى فيه الحديث عن خطر شيعي إيراني، ويستنجد فيه بالخارج ضد إيران، ثم تلا عهد أصبح الشيعة فيه هم من حباهم الله بنعمة رضى أمريكا وأصبحوا يتقربون إليها بسب الوهابيين المغضوب عليهم. ولكننا نشهد اليوم اندماج المرحلتين. فالأصوات تتصاعد مستنجدة بأمريكا من الهلال الشيعي، في نفس الوقت التي تتصاعد فيه أصوات أخرى تحرض أمريكا على الخطر الوهابي. ولا شك أن المدعو الأمريكي يرحب بإجابة هذه الدعوات، ولكنه سيختار بنفسه ترتيب الأولويات، وبمن يتغدى وبمن يتعشى، وبمن يفطر في اليوم التالي.
هناك مثل إنكليزي مشهور يقول عمن يشتغل بأمور انصرافية في وقت الشدائد: (هذا كمن يرتب المقاعد علي ظهر التايتانيك). والتايتانيك التي اشتهرت مؤخراً بالفيلم الذي صور كارثتها هي بالطبع تلك السفينة الضخمة التي غرقت في مطلع القرن الماضي بعد اصطدامها بجبل جليدي وهي في طريقها من بريطانيا إلى أمريكا، وكان على متنها قرابة ألف شخص لم ينج منهم إلا القليل. وما نراه اليوم من صراع واستهداف طائفي هو أسوأ، لأنه تنازع على مقاعد السفينة الغارقة التي تقصف ليل نهار. فأي فائدة من غنائم كهذه؟
ليس هذا مجال الوعظ وتنبيه الغافلين والتذكير بقيم الإسلام والأخوة، لأن مثل هذا التذكير في الغالب لن ينفع. ولكن فقط نذكر بعاقبة من انتهج هذا النهج في السابق وما حاق به من خسار وندامة، وما أمر صدام منكم ببعيد. فمراعاة المصلحة الذاتية قبل مراعاة حقوق الله والعباد توجب الانتهاء عن هذا النهج الذي يجمع بين الإثم والضلالة، وضيق الأفق وقصر النظر، لأن عاقبته الخاسرة تأتي بأسرع مما يتصور من يتورط هذه الورطة. * د. عبدالوهاب الافندي: كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
المصدر: جريجة القدس العربي 29-01-2007