الأبّ تيودور خوري.. ومستقبل الحوار الإسلاميّ المسيحيّ

إميل أمين
 
 
يمكن القول، من دون مواراة أو مدارة، إنّ الأحداث الأخيرة التي فرضت نفسها على ساحة الأحداث، سواء في الولايات المتحدة الأميركيّة أو في أوروبا؛ ورأينا فيها إرهاصات للإسلاموفوبيا البغيضة من جهةٍ، عطفاً على ارتفاع صوت الجدل الدينيّ البيزنطيّ الذي لا طائل من ورائه، سوى تكريس الفتنة في مواقع أخرى من العالم - والتي لم تخلُ منطقتنا العربيّة، ومن أسفٍ شديدٍ من بعضها - قد أعادت على صعيد النّقاش الفكريّ طرح علامة استفهامٍ جوهريّةٍ، قلقةٍ مقلقةٍ: هل من مستقبل للحوار الإسلاميّ المسيحيّ في ظلّ هذه الرّدة عند البعض؟
 

في هذا السياق تتوجّب هذه الوقفة الفكريّة مع أحد أهمّ العقول العربيّة، والذي عاش ولا يزال «الحوار الإسلاميّ المسيحيّ»، عبر تجارب حقيقيّة، كان فيها ولا شكّ حامل رسالة الشرق المسلم إلى الغرب المسيحيّ، إنْ جاز هذا التوصيف غير الدقيق علميّاً وديموغرافيّاً، لا سيّما في زمن العولمة على نحوٍ خاصٍّ.

ليس الأب الدكتور تيودور خوري أستاذاً لعلوم الأديان في كبريات الجامعات الأوروبيّة، وحول العالم فقط، لكنّه رجل الدّين اللبنانيّ الكاثوليكيّ، الذي يُعدّ من ألمع الوجوه المختصة في علوم الأديان المقارنة، لا سيّما الإسلاميات، والمهجوس بالعلاقات والحوار بين المسيحيين والمسلمين في الماضي والحاضر.

وقد كتب نحو 60 مؤلّفاً وأكثر، ومن بين مؤلّفاته كتابه «مانويل الثاني باليولوغوس.. تداول مع مسلم.. المجادلة السابعة»، ضمن سلسلة ما يُعرف بـ«Sources Chretiennes» (المصادر المسيحيّة)، وهو المؤلّف الذي اعتبر قليل الحظّ عربيّاً وإسلاميّاً، ذلك بسبب اقتباس البابا بيندكتوس السّادس عشر منه عبارة تسبّبت في أزمةٍ للحوار الإسلاميّ المسيحيّ أثناء محاضرته الشّهيرة في جامعة ريغنسبورغ الألمانيّة.

على أنّ أهمّ دورٍ أدّاه اللاهوتيّ الكاثوليكيّ العربيّ هو إكماله لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الألمانية، وهي الترجمة المفضّلة اليوم لدى الألمان، مسلمين ومسيحيين وباحثين، وقد اعتمد في تلك الترجمة على أهمّ التّفاسير الوازنة لدى المسلمين ومن مختلف المدارس الإسلاميّة واتّجاهاتها عبر التّاريخ الإسلاميّ.

ليس هذا فحسب، بل إنّ الأمل المشفوع بالواقعيّة عند الأب خوري لمشروع الحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وبخاصّةٍ من زاوية الانفتاح الديني، هو الذي دفعه إلى الانتهاء من تفسير معاني القران في 12 مجلداً، والعمل على إنجاز كتابٍ جديدٍ لتحليل موضوعات القرآن يقع في أكثر من سبعمائة صفحة، وجميعها شروحات ميسّرة، محايدة عن الإسلام ومفاهيمه، وبات الكثير من الألمان على نحوٍ خاصٍ، والأوروبيين بشكلٍ عامٍّ، يفضّلون قراءة كتب خوري للتعرّف على الإسلام والتعمّق في أبعاده الفكريّة.

ولعلّ علامة الاستفهام في هذا المقام: كيف استطاع تيودر خوري أن يُقدّم نفسه كجسرٍ وقنطرةٍ بين الإسلام المشرقيّ والمسيحيّة الأوروبيّة، وأنْ يمثل نموذجاً للكيفيّة التي يُمكن أن يكون عليها الحوار الإيمانيّ الصّادق السّاعي لخدمة الإنسان من دون طنطنةٍ كلاميّةٍ أو تظاهرةٍ إعلاميّةٍ؟

حتماً.. إنّ من يتعمق في فكر وكتابات تيودور خوري التخصصيّة المعمّقة في الإسلام وعقائده ومفاهيمه وتشريعاته يجد أنّها تقدّم للعقليّة الغربيّة قراءة عقلانيّة موضوعيّة عن الإسلام والمسلمين، وعلى نحوٍ يكاد يجعل القارئ يرى في شخصه صورة مبشّرٍ للإسلام ومروّجٍ له، للوهلة الأولى.

وفي الحق، إنّ الرجل العالم لا يفعل ذلك، كما أشار البعض، من باب التبشير الإسلاميّ، إذ ليس بوارد الخروج على إيمانه ومعتقده المسيحيّ الكاثوليكيّ، وإنّما يظهر كذلك لأنّه يقدّم مجتهداً، الإسلام وفق ما يقدّمه المسلمون، لا أكثر. وهذه ليست سمة عابرة، لا سيّما أنّ اللاهوتيّ اللبنانيّ قد أخذ على عاتقه في كثير من المواقع والمواضع فضح زيف اتهامات باطلة وتفنيد إشكاليات عقلانية متهافتة ساقها البعض ضد الإسلام، وضد الثقافة الإسلامية، وفي هذا يدرك المرء التعبير الذي ذهب إليه كثير من المسيحيين العرب على أساس أنهم مسيحيو الديانة إسلاميو الثقافة، وقد كان ما كان من أمر الأب خوري تعبيرا عن إدراكه لطبيعة هذه الثقافات وحقيقة ما يتحدث به النص الإسلامي. ولا يوفر خوري في حقيقة الأمر نقداً لواقع حال الظاهرة الدينية في أيامنا، خاصة عندما يمضي البعض في محاولة لي عنق النص الديني ليخدم أهداف سياسية، وعنده أنه إذا كان الدين يخدم السلام ويدعو إليه فإنه علينا أن نفهم الدين بانتباه إلى القرائن الزمنية، وقد كان لدينا في الماضي مسيحيون غير مسالمين ولم يعبروا عن روح المسيحية، كما نشهد مسلمين أو إسلاميين غير مسالمين ذلك أنهم يقرأون بعض آيات القران الكريم من دون التوقف عند أسباب النزول آنذاك.

ولا يقتصر نقده على الإسلام والمسيحية، بل ينسحب كذلك إلى اليهودية، فهناك آيات في العهد القديم تتحدث عن العنف ويريد بعض اليهود المتدينين اليمينيين تطبيقها حرفيا على زماننا الحاضر، وهذا خطأ، فكل استخدام للعنف على أساس ديني غير مقبول، ومرفوض جملة وتفصيلا. وحتى لا تضحى أحاديثنا عن الحوار كنحاس يطن أو صنج يرن نتساءل: هل من شروط لا بد من توافرها عند تيودور خوري لمن يسعى إلى الحوار بصدق نية وحسن طوية؟ يعتبر البروفسور خوري أن من يرد الحوار فعليه أن يكون قابلا للانسلاخ من ذاته، وأن الحوار لا يعيش من انفتاح الطرفين واستعداد كل منهما لتقبل الآخر فحسب، إنما يعيش أيضا بالقدر ذاته من الاندفاع الجدي الوفي الذي يبديه كل طرف إزاء إيمانه الخاص وإزاء دينه الخاص.

وهذا الوفاء لا يعني التعلق الأعمى بكلّ ما يمتّ إلى التقاليد بصلةٍ، لكنّه لا يسمح للمرء بأن يتخلّى استخفافاً عمّا يكون قوام التراث المأثور، أو ما يُعادل جوهر الدّين ويُمثّله.

ولأنّ القناعات الإيمانيّة والموروثات الدوغمائيّة في حقيقة الأمر كثيراً ما تقف حائلاً في طريق الحوار، كما رأينا أخيراً، فإنّ الأب خوري يرى أنّه في حال التّناقض أو الاختلاف فقط يجب أن نعلم، لا ما يقوله المحاور فقط، بل يجب أن نحاول أن نفهم لماذا يُفكّر فيه ويقول به، أي أنّه يجب استكشاف سبيل المؤمن الآخر إلى قرار قناعاته الدينيّة لكي نفهم موقفه فهماً حقيقيّاً.

وإذا كان أديب فرنسا الكبير "أندريه مالرو" قد تساءل في ستّينات القرن المنصرم بالقول: هل سيكون القرن الحادي والعشرين قرناً دينيّاً أم لا؟ فإنّ ما يهمّ خوري في الأمر ليس نهضة الأديان بوصفها التجريديّ العقائديّ المستمدّ من قدرتها على تقديم مجموعة من القيم والمعاني، بل يرى أنّ النّهضة المطلوبة والمرغوبة يتحتّم أن تقوم على مقدرتها على تقديم مجموعة من القيم والمعاني التي تُضفي على الحياة مغزاها وغايتها.

والشّاهد أنّ الأديان إذ تعود في أصلها إلى مرجعٍ إلهيٍّ ما ورائيٍّ «ميتافيزيقيٍّ»، فإنّها يُمكنها أيضا كما يؤكّد البروفسور خوري أنْ تقوم كناقدٍ ومصحّحٍ في شتّى أنواع الاستبداد الدنيويّ، كاستبداد الآيديولوجيات التي تسعى إلى تحديد أبعاد الحاضر على حساب البحث وراء الحقيقة، وعلى حساب الحريّة، واستبداد التخيّلات التي تسعى إلى تحقيق أحلامٍ مستقبليّةٍ على حساب الحاضر، وحياة أبنائه، واستبداد التسلّط والعنف للفئات التي تفرض مطالبها وكأنّها تسترق قدرة الله العلي. وكالطبيب النّطاسيّ، يضع الأب خوري يده على الجرح الذي يبدو أنّه لم يندمل بعد شرقاً وغرباً، عندما يقرّر أنّ المسيحيين والمسلمين في صفحات تاريخهم المشترك الطويل كانت متسمة بالمجابهة والصدام، فكلّما حاول المسلمون إثبات حضورهم والجهر بمطالبهم، أفاق ذلك في صدور المسيحيين، الذين يرتبط تاريخهم وثقافتهم بالتراث المسيحيّ، مشاعر غامضة تبعث على التساؤل الحائر والغضب والتهجّم. وبالعكس كلّما حاول المسيحيون إعادة النظر في موقفهم من الإسلام، تخوّف المسلمون من اندلاع ملّةٍ صليبيّةٍ جديدةٍ أو محاولةٍ لفرض الاستعمار الغربيّ، ذلك الاستعمار الذي لم ينته إلّا منذ زمنٍ قريبٍ.

يطرح خوري ضمن طروحاته الكثيرة طرحاً جديراً بأصحاب الافتراق، لا سيّما في عالمنا العربيّ والإسلاميّ، التأمّل فيه ومن حوله: هل يستطيع المسيحيون والمسلمون أن يعوا مسؤوليتهم المشتركة، بعضهم تجاه بعضٍ، وتجاه العالم كلّه، فلا يكتفون بأن يكونوا رفاق سفرٍ بل يصبحوا شركاء يعمل بعضهم مع بعض؟

ويبقى القول إنّه إذا كان لدى الغرب من الرّجال والمرجعيّات ما يقيه شرّ الوقوع في الفتن المستمرّة، التي تتحوّل بفعل مرور الوقت إلى مستقرّة، فإنّه ومن أسفٍ كبيرٍ يبقى العالم العربيّ - في غالبه - مستسلماً لغرقه في بئرٍ تاريخيّةٍ من غير العثور على طريقٍ للخروج منه، في حين أنّ التّسامح هو بداية الخيط وأوّل الطّريق، وهو علاقة إيجابيّة بين الأنا بكلّ دوائرها والآخر بكلّ ألوان طيفه.. ومن هنا يبدأ الحوار.

هل نعي دعوة الأب خوري أننا، مسيحيين ومسلمين، نظراً إلى وعينا لمسؤوليّتنا المشتركة في سبيل إقامة نظامٍ اجتماعيٍّ عادلٍ، فإنّه يقع على عاتقنا واجب تضامن بعضنا مع بعض وجمع قوانا وتشغيل إمكاناتنا لإيجاد حلول موافقة لمشكلات عالمنا المشترك؟

البديل الوحيد لرفض مثل هذه الدعوة المتسامية الإيجابيّة، هو العودة إلى «الغيتو» بمعانيه الزمانيّة والمكانيّة والفكريّة، وهو درب لا يقود إلّا إلى سوء التفاهم والرّفض والمهاجمة للآخر.. فأيّ السُبل ينبغي على أبناء إبراهيم أن يسلكوا؟

المصدر: الشرق الأوسط

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك