انعكاسات الحوار الإسلامي ـ المسيحي محليّاً وعالميّاً

ونذكر من تلك الفوائد ما يلي:
1. لقد طغى، فيما مضى، على الحوار الإسلامي المسيحي همّ إقناع الآخر بعدم صوابيّة معتقداته الدينية. وكانت تلك الحقبة تتّسم باستعمار الدول الغربيّة لمناطق عديدة من العالم، ومنها مناطق إسلاميّة. إلّا أنّه، ومنذ النّصف الثاني من القرن العشرين، زال، من جهة، الاستعمار، وأجرت جميع الكنائس المسيحيّة إعادة نظرٍ في لاهوتها المتعلّق بالأديان الأخرى.
وهكذا، أصبح الحوار الإسلاميّ المسيحيّ ينطلق، شيئاً فشيئاً، من المساحات المشتركة في العقائد والأخلاقيّات والقيم، ليؤسّس قواعد مسلكيّة، وحالة ذهنيّة، واستعداداً نفسيّاً لبناء المشترك، لا سيّما في المجتمعات المتعدّدة الأديان والطوائف.
قبل النّصف الثاني من القرن العشرين، وعلى الرّغم من وجود مستشرقين غربيين قلائل راحوا يعرفون أهل الغرب على الإسلام، فإنّه لم يكن هناك من مؤسّسات أو هيئات دينيّة تعنى بالحوار الإسلاميّ المسيحيّ.
إلّا أنّ الحقبة التي قام فيها حوار إسلاميّ مسيحيّ، تقوم به مؤسّسات دينيّة وجامعات غربيّة تدرّس فيها الحضارة الإسلامية، فهي الحقبة التي تمتدّ من النّصف الثاني للقرن العشرين وحتّى أيّامنا.
فعلى سبيل المثال، أنشأ مجلس الكنائس العالميّ الذي يضمّ جميع الكنائس في العالم، باستثناء الكنيسة الكاثوليكيّة، التي لها صفة مراقب، لجنة دائمة، تهتمّ بموضوع الحوار ما بين الأديان ومنها الإسلام. وكذلك الفاتيكان أنشأ أيضاً مثل هذه اللجنة. وعلى صعيد الشرق الأوسط هناك "مجلس كنائس الشرق الأوسط".
لا أحد ينكر أهمية تدعيم العيش المشترك وإرسائه على أساسات عميقة تعدّدية المصدر وثابتة. إنّه الطّريق الوحيد لاحترام حريّة المعتقد، ولجعل ثراء، ولإنماء الانتماء إلى المواطنة الواحدة ضمن التعدّدية بالمساواة في الحقوق والواجبات.
وهناك دور آخر يمكن أن يؤدّيه الحوار الإسلاميّ المسيحيّ في المجتمعات ويقوم، أوّلاً على معالجة جذور التوترات الطائفيّة، وثانياً، على منع توظيف الاختلافات الدينيّة في الخلافات السياسية وصراعاتها.
فالكثير من التوترات والصّراعات، وحتّى الحروب الأهليّة، التي تقوم في بعض المجتمعات المتعدّدة الأديان والطوائف، تجد جذورها في السياسة والاقتصاد؛ ومع ذلك يُعيد المغرضون أسبابها إلى الفروقات الدينيّة والطائفيّة والمذهبيّة.
وعندما تقوم مثلاً اختراقات وتناقضات دينيّة أو طائفيّة، يُسرع المغرضون أنفسهم ودائماً إلى توظيفها سياسيّاً، فيستخدمونها زيتاً يصبّونه على نار الخلافات السياسيّة.
2. وكما كانت المصالح المادية القومية والفئوية هي التي تتحكّم في العلاقات ما بين الدول، فإنّ الدول المتطوّرة اقتصاديّاً وعسكريّاً وسياسيّاً لا تتوانى ابداً عن استخدام ضعف دول العالم الثالث من جهة، وتمسّك شعوبها بالدين من جهةٍ ثانيةٍ، لتتدخل باستمرار من خلال الاختلافات الدينية لدى تلك الشّعوب، فتحوّل الاختلافات إلى صراعاتٍ. من هنا يأتي دور الحوار الإسلاميّ المسيحيّ في كشف تلك التدخّلات الخارجيّة وفضحها، وبالتالي منعها من زرع الفتن في مجتمعاتنا، إلّا أنّ الحوار الإسلاميّ المسيحيّ الحقيقيّ، وفيما هو يقوم بوظيفة ضد التدخلات الخارجيّة وتعطيلها، عليه بالوقت نفسه ألّا يغفل عن التناقضات الفعليّة في داخل كلّ مجتمع. وهكذا، يُصبح من مهمّات الحوار تحصين الجبهات الداخليّة والتّصدّي للتدخّلات الخارجيّة في آنٍ واحدٍ.
3. أما على الصعيد العالميّ، فإنّ الحوار الإسلاميّ المسيحيّ الصّادق والعميق لا بدّ وأن يأتي بثمارٍ طيّبةٍ أقلّه على صعيدين:
الأوّل: هو إنماء "ثقافة الحوار" بدل الثقافة النرجسيّة والاستعلائيّة والانتصاريّة والإقصائيّة.
أما الثاني: وهو مكمل للأوّل، وتطرحه على السّاحة العالميّة الأحداث الراهنة، فهو ما سمّي بصراع الحضارات، وفهم منه أنّه صراع حضاراتٍ أساسها صراع أديان، لا بل صراع دينين: المسيحيّة الغربيّة والإسلام.
فتكذيب هذه الأطروحة أمر مهمٌّ وملحٌّ، ولربّما أنّ حالة العيش الإسلاميّ المسيحيّ المشترك، في الشرق العربيّ هي بحدّ ذاتها تكذيبٌ لأطروحة صراع الحضارات. مع ذلك، فعلى الحوار الإسلامي المسيحي، في سبيل إنماء العيش الواحد، أنْ يضع في برنامجه تأكيد حوار الحضارات والثقافات والأديان وتكاملها؛ آنذاك تصبح إحدى المهمّات الرئيسيّة للحوار الإسلامي المسيحي، وعلى الصعيد العالمي، كما على الصّعيد المحليّ والإقليميّ، تفكيك الثنائيّات الحدّيّة والرائجة في هذه الأيّام، كثنائيات: شرق/ غرب، إسلام/ مسيحيّة، حضارات متفوقة/ حضارات واهية، صليبية/ جهاد، وغيرها...
مع تفكيك تلك الثنائيات يُبرز الحوار الإسلامي المسيحيّ دور الدين في حمل جميع المشاريع الإجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، ومنها مشروع "العولمة"، إلى أنْ تضع في أولى درجات سلّم أولويّاتها: جعل الإنسانيّة أكثر إنسانيّة بانصياعها إلى مشيئة الله.
المصدر: المستقبل اللبنانيّة