الحوار الإسلامي المسيحي.. إذا انقطع

السيّد هاني فحص
دائماً... نتحدّث عن موجبات الحوار بين المسلمين والمسيحيين بشكلٍ خاصٍّ، باعتبارهم يملكون، تجربةً تاريخيّةً ومعقّدةً، ونوعاً من حضور كلّ طرفٍ منهم في الطّرف الآخر، وعياً وحيويّةً وحياةً. ومن أجل المرور في هذه المعادلة الاجتماعية بصفتها الدينيّة والثقافيّة، نحو الثنائيات الأخرى في التكوينات الاجتماعيّة الوطنيّة العربيّة، طموحاً إلى تدوير الزوايا بإدامة الحوار... دائماً... وعندما نتحدّث في هذا الشّأن، يبرز لبنان كمكانٍ وكيانٍ قام أساساً على الحوار، وتعرّض لهزّاتٍ عنيفةً نتيجة المساس، بالتناغم بين الأسباب الخارجيّة والخلل الداخليّ، بأسس ذلك الحوار الباني والضّامن لاستمرار الدور والمعنى اللبنانيّ المميّز، والذي يصلح أنْ يكون مثالاً يُحتذى في أوطان التعدّد، إذا ما استمرّ اللبنانيون، متجاوزين العثرات والنّكسات، في تجديده والتجدّد به، وانتبه العرب والمسلمون إلى ضرورة صيانة هذا النموذج، صيانةً لأوضاعهم وحركة الحوار بين مكوّنات اجتماعهم المتعدّد على أكثر من صعيد، ما يجعل هذا الاجتماع في حاجةٍ، ومن أجل أن يبقى اجتماعاً، إلى الإسهام في تنشيط الوحدة داخل الكيانات التعدّدية المحيطة ـ ولبنان أبرزها ـ.
إنّ موجبات الحوار العامّة، رغم كلّ الانقطاعات العميقة والسّطحيّة في لبنان، كان اللبنانيون قد تلقوها بوعي إضافيٍّ، يأتي من تجربتهم في الحرب والسّلام، والحوار والتقابل والسّجال... والحوار الإسلامي ـ المسيحي في لبنان، على نواقصه، أبرز أفضل ما في الدّينين، أو في حياة ووعي أهلهما من أفكارٍ وقيمٍ وضرورات حياةٍ ومصالح مشتركة ضامنة للوفاق، رغم حالات الشّقاق. وقد ساهمت هذه الأفكار والقيم والمصالح، في بناء مجتمعٍ مميّزٍ، وانفتحت على مشروعٍ للدولة محكومة بآليّات ومكوّنات مميّزة، ومفتوح على التطوّر من داخله، حيث يُتيح احترام المتّحدات الطائفيّة أنْ يسعى الجميع من أجل تطويرها من داخلها، في اتّجاه دولة المواطنة... وكان العيش المشترك هو القاعدة التي لا تزال ملائمة لهذا الطّموح؛ ومن هنا يحصل ما يُمكن اعتباره خطراً على هذه القاعدة، عندما يصل الانقسام السياسيّ إلى الحياة اليوميّة، حتّى إذا ما أحسّ المواطنون بخطر هذه الحالة، تحاوروا والتأموا ووضعوا حدّاً للانقسام السياسيّ.
لقد تحوّل العيش المشترك في التّجربة اللبنانيّة، التي وإنْ كانت النّموذج المؤهّل لأنْ يكون مغرياً للجميع، فإنّه لا يعني أنْ ليس هناك نماذج أخرى في مصر والعراق وفلسطين وغيرها من بلدان التعدّد مع اختلاف العناصر؛ هذا الاختلاف الذي لا يؤثّر في نوع التحدّي الذي يواجه الوطن والمواطن، على قاعدة اختلاف المؤتلفين أو ائتلاف المختلفين دينياً أو مذهبيّاً أو إثنيّاً (حالة العراق).
لقد ترسّخ في لبنان بعد الحرب، وعاد ليبدو واجباً وطنياً، وعي بأنّ الاختلاف سنّة إلهيّة وقانونٌ كونيٌّ، وأنّ وعي الآخر والاعتراف به كما هو، شرطٌ لوعي الذّات، وأنّ الآخر علامة حريّة وسؤال معرفيّ وإنسانيّ دائم وتقوى مسلكية ومسؤوليّة، تماماً كما أنّ وعي الذات شرطٌ لوعي الآخر؛ وهذا يلزم الذات بوعي أعمق لذاتها، بعيداً عن الصّورة النّمطيّة السّاكنة.
إنّ انقطاع الحوار في لبنان في لحظةٍ حرجةٍ أنتج حرجاً أشدّ؛ فقد أسقط الدّين من عليائه، واتبع المقدّس بغير المقدّس، وصولاً إلى تقديس غير المقدّس، على حساب المقدّس. وأسقطت الدولة على رأس الجميع، وهدّمت الكنائس والجوامع على رؤوس اللبنانيين جميعاً. وتحوّلت الصلوات إلى خطاباتٍ سياسيّةٍ تأتي من خارج الوعي الدينيّ، وتذهب به إلى ما يُنافي إنسانيّته.
إنّ الحروب اللبنانيّة أدخلت المجتمع في حالةٍ طائفيّةٍ ومذهبيّةٍ، من شأنها إذا لم تُعالج، أن تأكل الدين والوطن، وتسلّم زمام الدّين إلى أهل النّفاق والشّقاق والجريمة، لتبقى حركة التّجزئة موغلة حتّى يتحوّل المذهب إلى مذاهب، ثمّ يُصبح سهلاً أنْ يتحوّل الوطن إلى أوطان مؤقتة أو مستوطنات تسكنها جاليّات متساكنة ومتحاقدة.
المصدر: السفير