نحو تفعيل الحوار الإسلاميّ المسيحيّ

على هذا، فإنّ أحد المنطلقات التي يجب أن يتأسّس عليها الحوار هو النّظرة إلى شرعية التعدّدية. فالتعدّدية الدينيّة والطائفيّة هي، من وجهة نظرٍ لاهوتيّةٍ، وفي الحكمة الإلهيّة ومقاصدها، تعدّدٌ في سُبل الخلاص، استنساباً للزمان والمكان ولأوضاع البشر المختلفة. لذلك، فالتعدّدية تتناقض مع احتكار شكل التديّن، والاستكبار، والاختزال، والاحتواء، والاستتباع. بل هي دعوة إلى الحوار لمعرفة الآخر كما يعرف هو ذاته ويُعرّف هو عن ذاته، وصولاً إلى احترام متبادل ومشاركة فعّالة لبناء المدينة الأرضية، كما يُريدها الله، وليس كما يخطط رصف مداميكها البناؤون. "فإن لم يبنِ الربُ البيت، باطلاً يتعب البنّاؤون".
أمّا على مستوى طبيعة الحوار الإسلاميّ المسيحيّ، فعلينا أن نعطي الأولوية إمّا إلى حوار الحياة والعيش المشترك، وإمّا إلى الحوار العقائديّ، وإما إلى المستويَين معاً. إنّها مسألة خيار. وكل مستوى من تلك المستويات له ما يبرّره. إلّا أنّه، وارتكازاً على خبرتنا في هذا الحقل، وصلنا إلى قناعة ومفاد هذه القناعة أنّ حوار الحياة، أو حوار العيش المشترك، قد يكون أكثر إلحاحاً وإفادةً من الحوار العقائديّ. ولربّما يكون الوسيلة الأفضل التي تمهّد لحوارٍ عقائديٍّ لاحقٍ، وتسهّل فرص نجاحه. لكن حوار العيش المشترك يجب أن ينطلق من قاعدة إيمانية حقيقية، وليس من اهتمامات سياسية قد تكون آنيّة وظرفية، وبالتالي عابرة. هذا وإنّه، في قناعتي، لا يُمكن إنجاح الحوار الحياتيّ إنْ لم يرسُ على مبادئ لاهوتيّة، أي أن يكون الحوار منطلقاً من دوافع دينيّة مبنيّة على أسسٍ لاهوتية تُلزم المؤمن بأن ينظر إلى الآخر نظرة محبّة وتقدير واحترام. ما عدا ذلك، فالنّظرات الأخرى الحواريّة والتضامنيّة تبقى رهن الظروف السياسيّة والاجتماعيّة التي قد تتغيّر.
أمّا على مستوى الأهداف المجتمعيّة الميدانيّة التي على الحوار الإسلاميّ المسيحيّ أن يحدّدها، فهناك أكثر من هدفٍ تنكشف لنا أهمّيته لا بل إلحاحيّته لتحسين صحّة العلاقات المتبادلة بين أفراد مجتمعاتنا وشرائحها. نذكر هنا بعضاً من تلك الأهداف:
أوّلاً، رصْد حالة العيش المشترك في كلّ من بلداننا، رصداً موضوعيّاً، علميّاً، معمّقاً، يخلو من كلّ أنواع الأفكار المسبقة، والأحكام القيميّة، والتّصوّرات المتخيّلة الوهميّة والمتوارثة في الذاكرة الجماعية، وجميع الإسقاطات المُغرضة التي نسجها الغرب، بمستشرقيه وسياسييه، وفرضها على مجتمعاتنا الشرقية بقوة هيمنته الثقافية الاستعمارية.
ثانياً، تحديد مواقع التوترات والنزاعات التي تُستخدم فيها المشاعر الدينية وقوداً لإذكاء الصراعات بين فئات المجتمع الواحد، والدين الأصيل منها براء.
ولمّا كانت المصالح المادية القومية والفئوية هي التي تتحكّم في العلاقات ما بين الدول، فإنّ الدول المتطورة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً لا تتوانى أبداً عن استخدام ضعف دول العالم الثالث من جهة، وتمسّك شعوبها بالدين من جهة ثانية، لتتدخّل باستمرار من خلال الاختلافات الدينية لدى تلك الشعوب، فتحوّل الاختلافات إلى صراعات. من هنا يأتي دور الحوار الإسلامي المسيحي في كشف تلك التدخلات الخارجية وفضحها، وبالتالي منعها من زرع الفتن في مجتمعاتنا. إلاّ أن الحوار الإسلامي المسيحي الحقيقي، وفيما هو يقوم بوظيفة صدّ التدخّلات الخارجية وتعطيلها، عليه في الوقت نفسه ألاّ يغفل عن التناقضات الفعلية في داخل كل مجتمع. وهكذا يصبح من مهمات الحوار تحصين الجبهات الداخلية والتصدّي للتدخّلات الخارجية في آن واحد.
ثالثاً، استكشاف المساحات المشتركة، على صعيد الدين، والأخلاق، والقيم، والثقافة، وما يشكّل تحدّيات مشتركة تهدّد المصير الواحد. ومما يسوّغ مثل هذا الاستكشاف هو أنّ مساحات عديدة مشتركة وايجابية جداً، غالباً ما تكون مطموسة، مغيّبة، متجاهَلة، منسيّة، مهمَلة، محرَّفة، ومُستلبة. فالبحث عن القيم الروحية والإنسانيّة المشتركة في تراث الدينَين وفي سلوك أتباعهما، وعن النماذج المشرقة لتجارب العيش المشترك والتضامن والتراحم والتوادّ، وإبراز تلك النماذج، إنما يشكّل تمهيدَ أرضيةٍ واسعة ومؤاتية لإنجاح أي مشروع حواري مشترك.
أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تفعيل الحوار الإسلاميّ المسيحيّ بشكلٍ عميقٍ وفعّالٍ، سيأتي بثمارٍ طيّبةٍ على المستوى العالمي، وذلك على صعيدين:
الأول هو إنماء "ثقافة الحوار" بدل الثقافة النرجسيّة والاستعلائيّة والانتصاريّة والإقصائيّة.
أمّا الثاني، وهو مكمّل للأوّل وتطرحه على السّاحة العالميّة الأحداث الراهنة، فهو ما سمّي بصراع الحضارات وفُهِم منه أنّه صراع حضارات أساسها صراعُ أديان، لا بل صراع دينيْن: المسيحيّة الغربيّة والإسلام. فتكذيب هذه الأطروحة أمرٌ مهمّ وملحّ. ولربما كانت حالة العيش الإسلاميّ المسيحي المشترك، لا بل الواحد، في الشرق العربيّ هي بحدّ ذاتها تكذيب لأطروحة صراع الحضارات. مع ذلك، فعلى الحوار الإسلاميّ المسيحيّ في سبيل إنماء العيش الواحد، أن يضع في برنامجه تأكيد حوار الحضارات والثقافات والأديان وتكاملها.
المصدر: /جريدة "المستقبل" اللبنانية