في أصول الحوار الثقافي وموضوعاته

عبد الإله بلقزيز
أيّ حوار نريد، بين المثقفين العرب والمسلمين ومثقفي الغرب؟
نسارع ابتداءً إلى التّشديد على أنّ الحوار، أيّ حوار، إنّما يكون، في ما نخال، بمعنَيَيْن: بمعنى المناظرة والجدل بوسائل الاحتجاج العقليّ والتاريخيّ في المسائل التي تكون موضع خلافٍ واختلافٍ. ثمّ بمعنى التّفكير من منطلقاتٍ مشتركةٍ، أو قابلةٍ لتفهُّمٍ متبادلٍ من طرفي الحوار، في مسائل يُسعى الى بناء إدراكٍ مشتركٍ لها، أو يُسعى الى بناء تفاهمٍ حول مساحات اللقاء المُمكن حولها. وعندي أنّ الحوار بهذين المعنيين مطلوبٌ بين الثقافتين العربيّة والغربيّة والقائمين عليها قيام صناعة وإنتاج من مثقّفين وباحثين وجامعات ومراكز دراسات. فنحن، بالمعنى الأوّل، لا نزال على مسافةٍ بعيدةٍ جدّاً من حالة الجدل الفكريّ والمناظرة العلميّة في مسائل خلافيّة وإشكاليّة عديدة. ثمّ إنّ حواراً، بالمعنى الثاني، يؤسّس لاستيلاد إدراكٍ مشتركٍ بين نخب المجالين الثقافيين ما زال هدفاً بعيد المنال.
سنُميّز منهجيّاً بين هذين المستويين من الحوار، على ما بينهما من تداخلٍ واتّصالٍ، مركّزين ابتداءً على المعنى الأوّل بما هو الحلقة الأولى التأسيسيّة لأيّ حوارٍ.
مدار هذا الحوار المطلوب موضوعات إشكاليّة خلافيّة بين الثقافتين، يُؤسّس إلى خطابٍ خاصٍّ و"مستقل". لعلّ في صدارة تلك الموضوعات مسألة الإسلام، وعلاقة الدينيّ بالسياسيّ في مجتمعات العالمين العربيّ والإسلاميّ، وعلاقة الإسلام بالحداثة، ثمّ مسألة الكونيّة والخصوصيّة في الثقافة والاجتماع ونظام القِيَم، وصلات ذلك بجدليّة العولمة والهويّة، و"المركزيّة الأوروبيّة" والغربيّة التي يُلقي مثقّفون عرب ومسلمون بتهمتها في وجه المجتمعات الغربيّة ونُخَبِها الثقافيّة...، وسوى ذلك من المسائل التي ندرجها تحت عنوان "اختلاف الأنساق والمعايير" الثقافيّة بين المجالين ومثقّفيهما.
أشبع الكثير من هذه المسائل بحثاً لا حواراً من قبل كلّ طرفٍ على حدة. غير أنّ بحثها والنّظر فيها، ما خلا أحياناً من منزعٍ عصابيٍّ لدى الجانبين، أو هو على الأقلّ حاد عن تقاليد البحث ومفرداته. في الأحوال كافّة، ساد في تناول هذه المسائل نوعٌ من سوء التّفاهم الذي يُمكن أنْ يُردّ إلى تجاهل كلٍّ من الفريقين لتاريخيّة الحقل الثقافيّ والاجتماعيّ للفريق الآخر، ولبعض ما في نطاق معطياته من خصوصيّاتٍ لا تقبل التّجاهل. حين يتعلق الأمر بالإسلام مثلاً، لا يُحاول أكثر المثقّفين في الغرب أنْ يتفّهم حساسيّة الموضوع في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة ومركزيّته في الحقلين الثقافيّ والسياسيّ، ولا يكاد يُلقي بالاً لحقيقة أنّ هذه المجتمعات لم تعرف الإصلاح الدينيّ، ولا الانفصال بين السياسيّ والدينيّ، كما عرفتهما المجتمعات الأوروبيّة والغربيّة، وحين يتعلّق الأمر بالكونيّة مثلاً، لا يُحاول أكثر مثقّفي العالم العربيّ الإسلاميّ أنْ يتفهّم السياق التاريخيّ الذي قطعته الثقافة الغربيّة وحقّقت فيه تراكمها، وأهّلها لأنْ تُكرّس قيمها نُظُماً مرجعيّةً، وأحياناً معياريّةً للمعرفة الإنسانيّة المُعاصرة، فتتحوّل الكونيّة بذلك إلى خصوصيّةٍ لها، وإلى هويّةٍ.
يتجاهل الأوّل التاريخ الاجتماعيّ والثقافيّ الخاصّ للثاني، فيدمغه بمعاداة التقدّم، والانكفاء عن العصر، وتهديد قيمه الكونيّة. ويُبادل الثاني الأوّل تجاهله، فلا يرى في ثقافته ومنظومة قيمه غير منزعٍ مرضيٍّ إلى إشهار التفوّق وتأكيد المركزيّة الذاتيّة، فيتّهمه باقتراف عدوانيّةٍ رمزيّةٍ هي رديف العدوانيّة الماديّة المسلّحة ضد الخصوصيّات الثقافيّة. وهكذا يشترك الفريقان في التأسيس لسوء تفاهمٍ كان في الوسع بقليلٍ من الإصغاء المتبادل تجنّبه.
على أنّ هذا التقاطب لم يكن دائماً حادّاً وحدِّيّاً إلى هذه الدّرجة. فلقد وُجد من مثقّفينا من شاطر مثقّفي الغرب أفكارهم: كلّاً أو بعضاً، وسلَّم بوجود مشتركٍ ثقافيٍّ لا يقبل النكران بدعوى الخصوصيّات، ووُجد في الغرب مثقّفون أتقنوا فهم مشكلات الثقافة والاجتماع في البلاد العربيّة، وأفلحوا في مقاربتها بوعي تاريخٍ غير إسقاطيّ. غير أنّ هؤلاء وأولئك كانوا في عداد قلّةٍ لا يُسقط استثناؤها قاعدةً، وفعلوا ما فعلوه في النادر: والنادر لا حكم له. وهذا على الأقلّ مبرّر آخرٌ إضافيٌّ لشرعيّة ذلك الحوار الذي ندعو إليه.
هل هو مُمكنٌ حقاً؟
نحسب أنّه مُمكنٌ متى ما أمكنه أنْ ينطلق من دون مسبَّقاتٍ أو قبْليّاتٍ مغلقةٍ. أمّا الهدف منه، فهو أكثر تواضعاً ممّا قد نظن: ذلك أنّه لن ينصرف قطعاً إلى اجتراح رؤيةٍ مشتركةٍ لقضايا الخلاف بين العرب والغرب، بين ثقافتيهما ومثقفيهما، وإنّما سينصرف في المقام الأوّل إلى تأسيس قواعد للتّفاهم حول موضوعيّة، وربّما شرعيّة، ذلك الاختلاف، والحوار من ثمّة على هذا المقتضى.والأهمّ من ذلك أنّه سيكون ضروريّاً ومفيداً لفكّ التّعبئة النّفسيّة المتبادلة، وتبديد الصّور النّمطيّة المترسّبة في الوعي واللاوعي لدى الفريقين، ورفع العوائق السيكولوجيّة التي تنتصب حائلاً دون انطلاق حوارٍ موضوعيٍّ وخصبٍ في مسائل قد لا يبعد أن ينشأ حولها اتفاقٌ أو تفاهمٌ أو تقاطعٌ في الرأي.