الحوار الثقافي و"التأويل تحت الطلب"

 بومدين بو زيد

 

يسعى بعض الذين يقدّمون أنفسهم خبراء في "حوار الأديان والثقافات" إلى تقديم صورة التسامح والحوار والتعايش، التي يتميّز بها الإسلام، إلى الغرب، ولو على حساب الحقائق التاريخيّة؛ وهكذا يلجأ أغلبهم إلى تأويل الآيات القرآنيّة، ولو اختلف المعنى مع سياق نزولها، أو تقديم شخصيّاتٍ تاريخيّةٍ كنماذج للتّسامح واللاعنف. ونحن هنا، لسنا ضدّ تقديم هذه الرؤيا للتراث وللتاريخ، ولكن أنْ نتعمّد ذلك، ونُصبح تحت ضغط الرأي العام العالميّ، خاضعين في قراءتنا للتراث وتقديمه من زاويةٍ واحدةٍ، فإنّنا لا نقوم هنا بالحوار الثقافيّ أو الدينيّ، ولكن بـ "حوار المجاملة"، من أجل أنْ يرضى عنّا الغرب، أو نرتاح مع أنفسنا، لكون الدين الذي ننتمي إليه لا يتعارض مع التعايش والحريّة، وما نرغبه في حياتنا على مستوى الفرد أو الأمّة.

وقد ظهر تأويلٌ إسلاميٌّ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، يرى أنّ آية السيف منسوخةٌ، والجهاد باطلٌ، وهي دعوةٌ نبتت أكثر وسط المحتلّين، وقد ذهب وفدٌ من المغرب العربيّ مكلّفٌ من الفرنسيين، وفيه جزائريّون، منهم "بن غبريط"، وبعض الطرقيين، إلى الحجاز، لاستصدار فتوى بتحريم الجهاد وتعطيل آية السيف؛ وفي زمن العالم المقسّم إلى المعسكر الشيوعيّ والليبراليّ، ظهر تأويلٌ للإسلام، ممزّقٌ بين طائفتين، كلٌّ منها يبغي ودّ ما ينحاز إليه؛ وهذا التأويل للإسلام اليوم يتمّ أفقيّاً وعموديّاً؛ أفقيّاً: داخل الأوطان، بين إسلامٍ يحترم التقاليد الموروثة وهيبة السّلطة التقليديّة، وإسلامٍ وهّابيٍّ وسلفيٍّ يرى في الخروج عن التقاليد أو عن الدولة والاعتداء عليها جهاداً نحن مطالبون به، أمّا عموديّاً: فهو بين إسلامٍ ليبراليٍّ حواريٍّ ديمقراطيٍّ وإسلامٍ جهاديٍّ، أو "مقاوماتي"، أو قاعديّ (نسبة للقاعدة)، تنتهي معه الحدود القوميّة والجغرافيّة، وهو ما يُعرّضه لصراعٍ مباشرٍ مع ليبراليّةٍ لا تعترف أيضاً بالأشكال التقليديّة للأمّة والدولة.

هنا أتذكر الذين يقدّمون الأمير عبدالقادر خالياً من تصوّفه العرفانيّ، الذي تميّز به. فقد تماهى وفني الرّجل في العارف بالله محي الدين بن عربيّ، ونشأ على الطريقة الجيلانيّة؛ والقصد من هذا الحذف لجزءٍ من نصوص الأمير هو من أجل تقديمه على أنّه سنيٌّ ـ مالكيٌّ، وبالتالي لا علاقة له هنا لا بالماسونيّة، ولا بالرؤية الفلسفيّة الباطنيّة، وهو مسعًى يلتقي كذلك مع الذين يؤوّلون كلّ ما يُمكن أن يراه الآخرون قدحاً في الأميرـ أي في حرّيّته وإنسانيّته ـ أو محاولة تكذيبه، ولو على حساب التاريخ والحقائق؛ وقد حضرنا جزءاً من ملتقياتٍ ثقافيّةٍ، في بداية التسعينات، كانت تقدّم الأمير على أنه مؤسّس الدولة الجزائريّة المُعاصرة، كردّ فعلٍ على الحركات الإسلاميّة الراديكاليّة الجهاديّة؛ وأذكر هنا كيف تحوّل "ابن باديس" إلى منظّرٍ للعفو والتّسامح في أفواه من أيّدوا الوئام والمصالحة الوطنية.

نعم قد يكون الأمير المؤسّس للدولة الجزائريّة، و"ابن باديس" داعياً للعفو والحوار، ولكن أنْ نقول ذلك وفق  تأويلاتٍ تستجيب لسياقات الصّراع السياسيّ، أو من أجل رضا هذا الطرف أو ذاك، فعندها نُلحق فساداً بالمعرفة والتاريخ. ويحضرني هنا ما سعى إليه عسكريٌّ مصريٌّ متقاعدٌ في سوريا، كتب عن الشيخ الأكبر محي الدين بن عربيّ، وكنت أعتقد أنّه أكثر شارحيه، أو لعله يكون كـ "الكاشاني"، يوضّح ما غمض، ويفتح ما استغلق، لكنّني وجدته يبذل جهداً من أجل أن يجعل خطاب "ابن عربي" مقيّداً بالسنّة، كما يتصوّرها الحنابلة أو علماء السنّة، وأعاد طبع بعض نصوص "ابن عربي" خاليةً من العرفان، ومسائل فلسفيّة، يراها خصومه كفراً بواحاً، وتأويلاً فاسداً للإسلام؛ وهو هنا ـ أي هذا المحقّق الدارس ـ يُحاول أنْ ترضى عنه بعض الدوائر العلميّة في الخليج العربيّ، التي ترى التصوّف العرفانيّ والطرقيّة، خروجاً عن السنّة والدين؛ ترى هل يدرك دجاجلة الحوار الثقافيّ أو الدينيّ أنّهم يضرّون بالتاريخ والتراث حين يُجاملون أو يسعون لرضا الآخر؟

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5114

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك