مسألة التعايش بين أهل الديانات في التجربة الأندلسية
عندما يدخل المرءُ إلى الجامع الكبير بقرطبة، والذي تحول إلى كاتدرائية بعد سقوط الأندلس عام 1492م؛ يخيَّل إليه لأول وهلةٍ أنّ الانسجام والسكينة يسودان المكان ويبعثان رسالةً بشأن السلام الأبدي الذي ينتظر المصلّين والمتعبدين.
لكنّ نظرةً أَدَق إلى المكوِّنات الهندسية والشعائرية الدينية التي تُحيطُ بها تُشعر بأنّ هذا الانسجام الظاهر خادعٌ، وأنّ الاختلاف والتعدد هما الرسالة الثانية التي يبعثُ عليها هذا الصرح. فالأعمدةُ الرخامية التي يغصُّ بها المسجد ليست متحدةً أو متشابهة. ذلك أنّ عبد الرحمن الأول (أو الداخل) أمير مدينة قرطبة عندما أراد أن يبني الجامع الكبير عام 780م استخدم أعمدةً وتيجاناً لتلك الأعمدة مستلّة من الأبنية القوطية والرومانية السابقة والتي كانت منتشرةً على مساحةٍ واسعة من شمال إفريقيا وإلى ناربون. ولذا فإنّ الجامع القرطبي الذي يذكّر بالجامع الأُموي الكبير بدمشق، والذي بناه أجداد عبد الرحمن، يذكّر أيضاً بالأبنية الرومانية والأبنية المحلية بأسبانيا القوطية المسيحية. وقد بُني المسجد الجامع على أنقاض كنيسة قوطية على اسم القديس فيسانت، كان المسلمون يشاركون المسيحيين في جزءٍ منها للصلاة قبل بناء المسجد محلَّها.
ثم إنّ الكنيسة ذاتَها بُنيت على أنقاض معبدٍ وثنيٍ روماني بعد القرن الرابع الميلادي. وهكذا فإنّ قرطبة العصور الوسطى بمسجدها الكبير كانت مكاناً تلاقت فيه الثقافات والأديان وتمازجت وتقاطعت. لكنّ أياً تكن عناصر عدم الانسجام؛ فإنّ مسجد قرطبة كان تأكيداً لنجاج الإسلام وانتصاره. وهو نجاح توثّق وامتدّ في عهد خلفاء عبد الرحمن حتى شمل شبه الجزيرة الأيبيرية، باستثناء الجزء الشماليّ منها. وقد كان الزوار الأوروبيون يعجبون لأمجاد الخلافة الأُموية بالأندلس والتي بلغتها في القرن العاشر الميلادي. لكنّ تلك العَظَمة كانت ذات جوانب سلبية وخلافية أدت إلى حربٍ أهلية، فانقسمت الخلافة ثم سقطت بعد العام 1031م لتَخلُفَها دُوَل ملوك الطوائف. وظلت قرطبة مركزاً ثقافياً مهماً، ثم ما لبثت أن حلّت محلّها طليطلة (توليدو) على الحدود الشمالية للجبهة مع الممالك المسيحية. ورغم ضخامة أمجاد طليطلة أيضاً؛ فإنّ النزاعات فيها ومن حولها أعطت المسيحيين الفرصة التي كانوا ينتظرونها، ففي العام 1085م دخل ألفونسوا السادس توليدو فاتحاً؛ لتبدأ قصة أُخرى من قصص العيش في شبه الجزيرة في تلك العصور العجيبة، والتي امتدت إلى القرن الخامس عشر الميلادي. وهذه القرون الأربعة من التعايُش هي التي يقصُّها كتاب دودز ومينوكال وبالبال بعنوان: (فنون الحميمية، المسيحيون واليهود والمسلمون في صنع الثقافة الكاستيلية). وهدف هذا الكتاب عرض كيفية إسهام المسلمين والإسلام في صنع ثقافة عيشٍ وتسَامُحٍ وسلام في الأندلس الإسلامية. وهو للقارئ العادي، لكنه يعرض أيضاً نتائج البحوث الأكاديمية حول هذه المسائل. ثم إنه يتضمن صوراً كثيرةً معبِّرة، وترجمات لنصوصٍ معاصرة حول التعايش ووقائعه.
إنّ التاريخ الوسيط لشبه الجزيرة الأيبيرية صعبٌ جداً على المؤرِّخ، فالمسلمون والمسيحيون كانوا منقسمين إلى ممالك كثيرة تتحالف وتتخاصم فيما بينها. ثم إنها تتكوَّنُ وتسقط وتعود مرةً ومرتين وثلاثاً. ولذلك فقد اختار المؤلِّفون الاقتصار في التطورات السياسية والعسكرية على التواريخ الضرورية؛ في حين أطالوا الحديثَ في التاريخ الثقافي والحضاري الملائم لموضوعاتهم. ومن حسن الحظّ أن تكون في الثقافة الأندلسية آثارٌ ونصوصٌ وأشعارٌ ومبانٍ رائعة، تساعد على كتابة تاريخٍ كهذا.
وفي التاريخ الوسيط لأسبانيا حركتان: إحداهما بربرية، جاءت من شمالي إفريقيا مع عناصر عربية، والأُخرى جاءت من شمال أسبانيا محاولةً استعادة الأرض من المسلمين. وقد استمرت هذه الحركة قروناً، وعُرفت فيما بعد بالاستعادة أو إعادة الفتح، كما أنها اعتُبرت فيما بعد أيضاً حرباً مقدَّسة على الإسلام. والحقيقة أنّ تلك الحروب كانت تتخللها فترات طويلة من السلم والتعايُش، وتسودها تحالُفاتٌ بين أطراف إسلامية ومسيحية ضد أطراف أُخرى إسلامية ومسيحية أيضاً. وكما سبق القول فإنّ تلك العملية التاريخية الطويلة ما انتهت إلاّ عام 1492م حين سقطت غرناطة على يد فردناند وإيزابيلا اللذين وحَّدا الممالك المسيحية بزواجهما. وهكذا فإنَّ السيطرة الإسلامية استمرت بين 712 و1492م حيث كان المسلمون والمسيحيون يعيشون جنباًَ إلى جنب، وغالباً في حميميةٍ وحُسْن جوار، كما قال المؤرخ ريتشارد فلتشر. أما المسيحيون الذين وقعوا تحت سيطرة المسلمين، فقد تعربوا وسُمُّوا (الموزاراب)، وصاروا مع اليهود أقليات تتمتع بالحماية باعتبارهم من أهل الكتاب. وحدث شيء مُشابهٌ للمسلمين بعد استعادة طليطلة (= توليدو) إذ وعد ألفونسو السادس المسلمين واليهود بالحماية وبحرية العبادة؛ وسُمي المسلمون تحت الحكم المسيحي بالمدجَّرين أو المدجَّنين. وهكذا فتحت الحكمين الإسلامي والمسيحي كانت هناك حالة من التعددية والتعايُش والمُسالمة. لكنّ ذلك كلّه ظلَّ عُرضةً للتغير المُفاجئ. مثلما حصل عندما جاء الموحّدون إلى الأندلس فلاحقوا المسيحيين، ومثلما حدث عام 1391م من قيام المسيحيين بملاحقة اليهود. بيد أنّ حِقَب التعايُش كانت أكبر وأكثر امتداداً. ولذلك بدأ استعمال مفرد أو كلمة الـ Convivencia (= العيش معاً). وفي زمان العولمة والتعددية اكتسبت الكلمة أبعاداً جديدة. وعلى ذلك ركّزت روزا مينوكال في مقالتها عن (ثقافة التسامح)؛ والناجمة عن التمازُج والتفاعل بين المسلمين والمسيحيين واليهود وفي مدنٍ مثل قرطبة وطليطلة. على أنّ ذلك لا يعني غياب الإحساس بالتفوق وامتلاك الحقيقة لدى كلٍ من المسيحيين والمسلمين.
تمَّ التعايش بين هذه الأديان على مستويين: المستوى الشعبي العامّ، ومستوى النُخَب. وعلى المستوى الثاني يُحْسَبُ ذلك للمسلمين الذين كانوا متفوقين لحقبٍ طويلة. وقد تميزوا بالميل للتحضر وعشق العلوم، والغرام بالمعارف الكلاسيكية. وبالمقارنة مع المسلمين آنذاك ما كان المسيحيون أكثر من برابرة صغار. ومع ذلك فإنّ عديدين منهم أظهروا قُدرةً عاليةً على التعلُّم والاستيعاب. فألفونسوا السادس وحلفاؤه ما استولوا على قصور الأُمويين وحسْب؛ بل ورثوا عنهم أيضاً رعايتهم للعلوم والآداب والفنون. وهكذا تحولت توليدو في القرن الثاني عشر إلى مركز للترجمة من العربية إلى العبرية واللاتينية ولنصوصٍ ذات أصول يونانية أو سريانية أو عربية؛ في الرياضيات والفلك والفلسفة. وعندما بنى ألفونسو العاشر لوالده فرديناند الثالث (الذي استولى على إشبيلية) ضريحاً بعد وفاته عام 1252م، كتب عليه ألقاب الملك باللاتيني والعربي والعبري والكاستيلي. وفي تلك الحقبة ظهرت (ملحمة السيد) القنبيطور، والتي تعظّم الرجل باعتباره بطلاً مسيحياً؛ لكنْ في الواقع فإنّ أكثر حروبه كانت ضد رفاقه المسيحيين. على أنّ التبادل الثقافي ليس ضرورياً أن يكون دائماً سلمياً. فبعد القرن الثاني عشر ازدادت الجبهات تصلباً بسبب الإعلان عن الحروب الصليبية عام 1095م. وفي الأندلس انتصر المسيحيون في معركة لاس نافاس دي تولوزا عام 1212م. بيد أنّ كاستيليا ظلت مكاناً للعيش المشترك. وظلّ الحِرَفيون المسلمون يبنون الكنائس التي تُظهر تأثيرهم الفني والمعماري. وفي القرن الخامس عشر، وعندما تقبل فرديناند وإيزابيلا استسلام غرناطة؛ كانا يرتديان ملابس من صناعةٍ إسلامية.
بيد أنّ الملحوظ أنه بعد القرن الخامس عشر ازدادت الأمور سوءًا، وجرى نفي اليهود، وإرغام المسلمين (= الموريسكوس) على التنصُّر، وجاءت محاكم التفتيش، وسيطرت الاعتبارات الدينية على سائر مناحي الحياة. ولا يمكن نسبة هذه الموجة لفرديناند وإيزابلا؛ إذ عندما دخلا في سياسات الاضطهاد؛ كان الفرنسيون واليهود قد نفوا يهودهم منذ زمن. ومع ذلك فإنّ موجات التعصب تلك -بدءًا بزمن فرديناند وامرأته- تظل غريبةً بعض الشيء؛ وبخاصةٍ أنّ المُعاصرين من الكاثوليك كانوا يرون أنه لا داعي لذاك الاضطهاد الفظيع. على أنّ المؤرخ ستيوارت شوارتز يذهب- بعد دراسة مفصلة في محاكم التفتيش وإجراءاتها- إلى أنّ قدراً من التسامُح كان موجوداً في إسبانيا الوسيطة، وفي مستعمراتها بالقارة الأميركية. وقد توفّر ذلك بمقادير معينة لدى العامة، وأقلّ منه لدى النُخَب. وقد أورد شوارتز أدلةً على ذلك في ردود الأفعال لدى العامة والنُخَب على طرد المسلمين عام 1609م.
إنّ تاريخ أسبانيا الوسيط يُثبت أنّ تعايش الأديان والثقافات يُولِّدُ غنىً ثقافياً وحياتياً كبيراً. لكنه قد يعني أيضاً وجود توتُّر كبير مستمر. وفي أصعب الظروف والسياقات يظلُّ البشر المحترمون والجديون قادرين على أن يحيوا قناعاتهم بالحرية والتعايش والمودة والمُسالمة. ومن هنا تأتي فرادةُ التجربة الأندلسية ونموذجيتها.
ج.هـ. إليوت