اللاعنف بين مارتن لوثر كينغ وغاندي

تأثر القسّ "مارتن لوثر كينغ" كثيراً بدعوات الزعيم الهندي المهاتما غاندي رائد مبدأ اللاعنف، بأفكاره ونظريّاته وأساليبه العمليّة في تطبيق هذا المبدأ في الواقع ونجاحه في الوصول إلى الأهداف التي تبناها خلال نضاله السياسيّ والاجتماعيّ .. فقد اعتمد غاندي على مبدأ اللاعنف الذي يستند إلى احترام عميق للقانون، ويدعو النّاس إليه بقوله: "إنّ على الذين يستخدمونه أن يفعلوا ذلك بطريقة غير عنيفة دائماً. ويركّز غاندي أيضاً على واجب الطاعة المدنيّة العام، وعلى ضرورة محاولة كلّ الصور الدستورية للعمل السياسيّ أولاً، وهذا التصوّر الذي يطرح هو تصوّر مطلق للّاعنف، وهو التصور الذي عدَّ نظرية سياسية وصلت إلى مصاف المبادئ السامية للإنسانية.

لقد رسّخ ((المهاتما غاندي)) مبادئ اللاعنف، والتي يُطلق عليها أحياناً مبدأ المسالمة، ويقول بهذا الصدد: "إنّ عقيدتي بشأن اللاعنف لم تعتمد على سلطان شخص، بل نشأت من دراستي لكلِّ أديان العالم. ويضيف؛ أنَّ الديانات المختلفة قاطبة هي زهور روضة واحدة، وأفنان دوحةٍ باسقة.

أما مارتن لوثر كينغ ((الأصغر)) فقد جعل من رسالة ومنهج المهاتما غاندي في اللاعنف حقيقة، بقوله: ربّما يبلغ مبدأ اللاعنف إلى العالم من خلال الزنجي.

لقد كان (مارتن لوثر كينغ) لا يميل إلى النزعة القتالية كثيراً، وكان قادراً على الحوار المناسب مع كلّ حالة من الحالات حتّى النهاية على أن ترضي الطرفين .. فهو يؤمن إيماناً كاملاً باللاعنف، ويردّد دائماً أنَّ اللاعنف قد ظهر، ولكن كينغ الغاندي لم يظهر بعد.

إنّ مارتن لوثر كينغ كان باحثاً جادّاً عن فهم يمكّن من إزالة الآفات الاجتماعية، وقد وجد هذه التوجّهات والآراء تطبق بشكل مباشر في مبدأ غاندي للاعنف ووجد طرائق وأساليب غاندي في سبيل النضال ضد التفرقة العنصرية في أميركا.

إنّ مبدأ اللاعنف نشأ لدى غاندي عندما نشر كتابه الشهير (استقلال الهند 1908)، وعبّر فيه عن هذا المبدأ بوصفه أداة للنضال السياسي، وأعلن جوهر هذا المبدأ في فلسفته لمقولته الشهيرة: (كلّ شيء يقهر أمام العذاب والإرادة)، وإزاء ذلك يُضيف غاندي على هذا المبدأ بقوله: إنّ زوال الفناء التامّ والإعراض الدائم عن اللذات يبطل كلّ إرادة شرّ نحو الكائنات الأخرى، ويُبلَّغ صاحبه درجة معرفة وحدة الحياة والاتحاد مع كلّ شيء في الكون.

إنّ مبدأ اللاعنف أو ما يُسمّى بالمفهوم السياسيّ بالعصيان المدني، أو ما يُسمّيه غاندي "مبدأ المسالمة" قد اكتسب قوّته وثباته من أساليب المهاتما غاندي أوائل القرن العشرين، ومارسه من أجل قضيّة تحرير الهند من الاستعمار البريطانيّ، ونجح إلى حدٍّ كبير في تحقيق أهدافه، وقد استعاره القسُّ الزنجيُّ، داعية السّلام لتحرير السود في أميركا "مارتن لوثر كينغ". وقد تبنى فكرة غاندي وأكّد ذلك بقوله: إنّ روح الحركة وحيويّتها قد جاءت من الدين، وأمّا طريقتها فقد جاءت من غاندي. رغم أن بعض نهجه قد يختلف بعض الشيء عن تعاليم غاندي التي ترفض الاعتراف بالسلطة أو بوجود الحكومة ... وإزاء ذلك يرى (غاندي) أنَّ اللاعنف هو التعبير النشيط العملي لمثل هذا الشعور، لأنّ التطهير الشخصيّ يُفضي إلى تطهير الآخرين ويحتِّم قمع الشرّ والتَّضحية بالذات، أو كما قال: ينبغي للشعب أن يقدّم على مذابح الحرية قربان قلب طاهر وعذاباً صابراً، سيُبلى صبركم بلاءً شديداً بضروب من الاستفزاز والاضطهاد. ولكن كما قيل: لا يسلم إلّا من صبر إلى النّهاية، بهذه الطريقة وحدها تغنمون الحريّة الحقيقيّة والاستقلال الحقيقيّ.

أما (كينغ) فقد انطلق من فكرة اللاعنف وهي فكرة صحيحة، فأراد أن يلفت لها الانتباه بل ذهب إلى حدٍّ أبعد بقوله: علينا أن نقابل القوة الماديّة بالقوة الروحيّة، ويجب علينا أن لا نُسيء إلى إخواننا البيض.

لقد تحقق لهذا الداعية الزنجي بعض ما طالب به من خلال مبدأ اللاعنف الذي استخدمه من أجل قضيته العادلة، وأول ما تحقق هو إزالة التمييز العنصريّ في القطارات والحافلات وفي الوسائل الأخرى، وقد كان (كينغ) سعيداً بأمر الحكومة، لأنّه حقَّق انتصاراً مذهلاً بأساليب اللاعنف. وإزاء ذلك علّق قائلاً: لقد كنّا شعباً مسالماً دائماً، نتحمّل مشاكلنا بالكفاح الإنسانيّ الفريد من نوعه، مهما تكرّر استخدام العنف ضدنا .. وفي مقاربة مع رأي غاندي، زعيم الهند ورائد مبدأ اللاعنف في هذه الاستراتيجية، يقول غاندي: لقد اقتنعتم الآن بأنّي أطلب منهم المسالمة عند مطالبتهم بحقوقهم الإنسانيّة المشروعة، ولكنكم إذا استعملتم معي العنف، وأمرتم بسجني، فسوف أعلن على الملأ صيامي، وإضرابي عن الطعام...

ترى الفلسفة التي اعتمدها غاندي في نضاله على مبدأ اللاعنف ما يلي: ألقِ جانباً بالإساءة للغير، وبالغضب، وأعرِض عن الاحتقار، وسوء النيّة، لا تُغذِّي في نفسك الحقد، حتّى ولا على الذين يُسيئون إليك، فليكن لنا تجاه جميع المخلوقات الحيّة عواطف النبل، والمحبّة، وحسن التعامل، وبهذه المسلمّات وغيرها وعى غاندي أتباعه، وكذلك مارتن لوثر كينغ مؤيّديه إلى انتهاج هذا المبدأ في الوصول إلى الأهداف السامية .. فقد كان (كينغ) يحثُّ الناس على إطاعة بعض القوانين ورفض بعض القوانين الأخرى، فقوله: هناك نوعان من القوانين، قوانين عادلة، وقوانين غير عادلة، وإنَّ القانون غير العادل هو ليس بقانون على الإطلاق .. أمَّا غاندي فقد طلب من أتباعه أن لا يُذعنوا لأيِّ قانون من قوانين الحكومة رغم احترامه لها .. وإطاعته للدولة ..

إنَّ فلسفة اللاعنف التي سادت في الهند اعتمدت مسلمّات أساسيّة، أوّلها: عدم مقابلة الشرّ بالشرّ، ثانياً: إنّ مقابلة الإساءة بالمعروف تلقّن المعتدي درساً لا ينساه، حتّى ولو اضطرّ الإنسان العاقل إلى تكرار التَّسامح ضدَّ الإساءة ومقابلتها بالمعروف. وقول غاندي وهو يخطب في النّاس ويقول لهم: لن نغلبهم إذا نحن استعملنا العنف، وإذا فرض واعتدوا عليكم فلا تقابلوا الشرّ بالشرّ، يكفي أن يؤمن كلّ واحد منكم بأنّه على حقّ.

وإزاء ذلك يتابع (كينغ) بقوله: إنّ النّاس لا يقدرون على أن يختلفوا في الرأي دون كراهية، وإنَّ الخلافات أصبحت تجرب عن طريق العنف والاغتيال، ونحن الذين خلقنا مناخ العنف والكره. ويطرح أفكاره الرئيسة في:

1- اللاعنف.

2- التغيير الاجتماعي.

3- الفرد ومسؤوليّة المجتمع.

4- ثمن الحريّة.

أمّا غاندي فيرى أنَّ جميع المخلوقات تبتغي السعادة، فليشملها عطفك إذن، ولتسع لها بأجمعها. أمّا (كينغ) فيعتقد أنَّ اللاعنف لا يُمكن أن يستمرَّ طويلاً، وأن يحتفظ ببقائه دون مؤيّدين واتباع يناصرونه. ويجب أن يكون طريقه في الحياة ..

هذه الدعوات التي تبنّاها غاندي ومارتن لوثر كينغ حققت الانتصارات، وظفرت بالأنصار، إلا أنّها كفلسفة خاصّة بالمحبّة لم تكن عمليّة دائماً، وان زاد الإصرار أكثر على تكريس أعمق للّاعنف، وشمل دولاً أخرى ومذاهب شتّى وحركات تحررية جديدة بهذا الاتّجاه السلميّ.

المصدر: مركز الامام الشيرازي للدراسات.

http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=6821

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك