حاجتنا لدراسة علم الاجتماع الديني

إذا كان اختياري قد وقع في هذا الحديث على علم الاجتماع الديني بالذات فلان هذا العلم الحديث يكاد يكون مجهولا لدى طلاب اللغة العربية بالمغرب، ولأنه يحتل اليوم مكانا عظيم الأهمية عند علماء الاجتماع المختصين بألمانيا وأمريكا وانكلترا وفرنسا، وقد أصدر  هؤلاء عدة كتب عنه بلغاتهم، لم يلبث أن ترجمت إلى اللغات الأخرى، وفوق ذلك فان موضوع علم الاجتماع الديني أصبح مادة أساسية في كليات العلوم الاجتماعية  بالولايات المتحدة وكندا وبعض الدول الأوربية، بل انعقدت مؤتمرات دولية خاصة لتبادل المعلومات عنه، والسعي في توحيد الآراء حول موضوعاته ومنهج البحث فيه.
ولكن كيف وقع الاهتداء إلى ضرورة وضع علم اجتماع خاص بالدين؟ والجواب: حيث أن وموضوع علم الاجتماع هو الدراسة العلمية  للسلوك الإنساني المتشابه والمشترك، وتحليل العلاقات الاجتماعية، فقد امتدت هذه الدراسة لتشمل كثيرا من ميادين النشاط الإنساني، فظهر علم اجتماع اقتصادي، وعلم اجتماع  قانوني، وعلم اجتماع للشغل، وأخر للسلوك السياسي، وأخر للنقابة ، وهكذا من الطبيعي  أن يظهر علم اجتماع ديني بالأولى نظرا للمكان الممتاز الذي تحتله دراسة الظواهر الدينية من بين مجموعة العلوم الاجتماعية.
ما هو إذن علم الاجتماع الديني؟ وماهي الموضوعات التي يتناولها بالبحث؟ ثم ما هي جدوى دراسة هذا العلم بالنسبة للمغرب ولأقطار العالم الإسلامي؟.
أما موضوع هذا العلم فهو بصفة عامة دراسة ظواهر الحياة الدينية في جميع أشكالها، وذلك باستخدام التاريخ المقارن للأديان، وعلم الأجناس، وطرق الإحصاء الاجتماعي كأدوات لهذه الدراسة،ويعتقد بعض الاجتماعيين أنه إذا كان الشرط الأول في الحديث عن الفن أو الشعر هو أن يتذوق المرء نفسه الشعر والفن، فالشرط الأول الذي يجب أن يتوفر لدى الباحث الذي يريد فهم المؤمن والمجتمعات المؤمنة، هو إن يكون قد ساهم ، هو نفسه، في فترة من حياته، في اعتناق عقيدة، وأن تكون مساهمته فيها وجدانية عاطفية على الأقل، وهنالك أراء أخرى في طرق البحث التي ينبغي استخدامها، والواقع أن علماء الاجتماع لا زالوا يختلفون في تحديد موضوعات علم الاجتماع الديني وطريقة تناولها.
ولنستعرض لراء ثلاثة من علماء الاجتماع المختلفي الجنسية، كتبوا في علم الاجتماع الديني مجلدات كبيرة، وتناولوا هذا الموضوع بأساليب مختلفة، لنأخذ فكرة مصغرة عن ماهية هذا العلم.
فالاجتماعي الألماني مانشينج G.Menching  يتحدث في كتابه( علم الاجتماع الديني) عن أشكال المجتمعات الدينية الوطنية، وعن الدين العالمي والدولة، وعن نظام الدين، والرؤساء الدينيين، وعن تناقص المجتمعات الدينية والأديان الحية، وعلاقات المجتمعات الدينية فيما بينها.
بينما نجد الاجتماعي الامريكي جواشام ويشي في كتابه( علم اجتماع الدين)Jaachim wach يدرس علاقات الدين بالمجتمع في نظامه الطبيعي، وعلاقات الدين مع كل نوع من أنواع المنظمات حتى الدولة، ويجعل للتجربة الدينية أشكالا للتعبير، فتعبيرها النظري هو العقيدة ، وتعبيرها التطبيقي هو العبادة، وتعبيرها الاجتماعي هو الاتحاد، ويستخلص من كل ذلك إلى النتائج ودور علم الاجتماع في الدين، وموقف التجربة الدينية تجاه العالم، والنظام العالمي، والمجتمع، والأخلاق، والمثالية، والحقيقة، وهو عندما يدرس الدين والمجتمع، ويتحدث عن شخصية الجماعة الطبيعية والجماعة الدينية، وعن مختلف الشعائر، كشعائر القرابة والشعائر الإقليمية والعنصرية والوطنية، ويدرس مختلف الأنظمة الدينية الخالصة للمجتمع، بادئا من مجتمع الأسرار في اليونان وروما، حتى سلك الكهنوت في الكنيسة، ويفرق بين المجتمع البسيط والمجتمع المعقد، ويحلل مختلف الدرجات والفروق الاجتماعية في الأديان العالمية، وعندما يشرح علاقات الدين بالدولة، يحلل الدور الاجتماعي للدولة، وشخصية الحكومة الروحية والحكومة الدنيوية، ويفرق بين الدين التقليدي والدين المؤسس، وتنافس العبادات ويختم بالحديث عن أنواع السلطة الدينية ونظام الجماعات الدينية.
أما الاجتماعي الفرنسي كبريال لوبرا Gabriel le bras فإننا نجده يخصص كتابه الضخم( دراسات علم الاجتماع الديني) لدراسة الميدان الثاني من ميادين هذا العلم، وهو ممارسة الشعائر الدينية، خاصة في البادية الفرنسية، حيث يقوم بتحليلات علمية للحياة الدينية في تاريخ البادية الفرنسية، ويتحدث عن نظام مراقبة الممارسة في  مختلف الاسقفيات عبر التاريخ. وبع أن يحلل الحيوية الدينية لاقايم بروطانيا منذ أقدم العصور حتى اليوم وتاريخ الصلبان البدوية، ونظام القرى الدينية( البارواص)، ينتقل لدراسة حالة وقيمة مختلف المراحل التي مرت بها ممارسة الشعائر الدينية بفرنسا، والتحولات الدينية للبوادي الفرنسية، منذ نهاية القرن السابع عشر، وتأثير الأنظمة الاجتماعية  على الحياة الدينية، ثم يقوم بتعليق سوسيولوجي على الخرائط الدينية لفرنسا.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الخرائط وضعت بعد عدة بحوث ودراسات إحصائية لمعرفة نسبة الممارسين للشعائر الدينية من عموم السكان في جميع الأقاليم الفرنسية، ويلاحظ أن بعض الأقاليم الفرنسية انعدمت فيها الممارسة بالمرة.
وينتقل كبرييال لوبرا في المجلد الثاني من كتابه المذكور، من علم الاجتماع البدوي إلى علم الاجتماع الحضري، ويدرس الطرقية، ويحلل البحوث الجارية عن ممارسة الشعائر لإقامة جغرافية دينية لفرنسا، ثم ينتقل من تحليل مقاييس الممارسة إلى مقاييس الحيوية الدينية للكنيسة الفرنسية، ومدى تأثير البيئات على الحياة الدينية، وينتقل مرة أخرى من دراسة علم اجتماع الكاثوليكية بفرنسا، إلى علم اجتماع الكاثوليكية في العالم، فيتحدث عن البيئات العصرية والحياة الدينية، وعن الاتجاهات الدينية، وعن الاتجاهات الحديثة لعلماء الاجتماع الديني، وأخيرا عن علم اجتماع ديني لجميع الأديان.
ويظهر من مجموع هذه الدراسات أن علم الاجتماع الديني، كعلم الاجتماع العام، يمتاز بالطابع الإقليمي الوطني، فكما أن هناك علم اجتماع أمريكي وآخر انجليزي، أو عربي ، أو فرنسي، فان لكل بلد علم اجتماع ديني خاصا بدينها داخل وطنها، وإذا لم يقدر لهذا العلم أن يخلق، كما هو الحال عندنا في المغرب مثلا، فليس معنى ذلك أنه غير موجود ضمنيا لدى كل مجتمع، وفي كل وطن.
إن من الصعب التحدث عن علم جديد كهذا في مقال، وأصعب من ذلك أن نحاول إنشاء علم اجتماع ديني مغربي قبل أن يستقر عندنا علم اجتماع عام مغربي أو عربي، ومع ذلك فاني أرى أهمية خطيرة لهذا العلم بالنسبة لجميع حركات الإصلاح الديني، وقادة الفكر في العالم العربي والإسلامي، فقبل أن نضع برامج الإصلاح لمجتمعاتنا الإسلامية يجب أن تكون لدينا معرفة دقيقة بواقعنا الديني، أن علم الاقتصاد يعرفنا مثلا بواقعنا الاقتصادي، ماذا ننتج؟ وكيف ننتج؟ ولمن ننتج؟ وكم نستهلك؟ إلى أخر الموضوعات التي تتصل بحياتنا المادية، وكذلك فان علم الاجتماع الديني هو الذي يعرفنا بواقعنا الديني الذي نعيشه، لا الذي نقرأه في التاريخ.
انا نشعر بالحاجة  الملحة لمعرفة الجواب عن الاسئلة التالية: كيف يتصور المغربي الدين؟ وماهي درجة إيمانه به؟ والى أي حد يتأثر به في سلوكه العام؟ وماهي حالة وقيمة ممارسته للشعائر الدينية؟ والجواب عن هذه الأسئلة الأربعة نريد أن نعرفه لا بالنسبة لمجموع سكان المغرب فقط، بل بالنسبة لسكان كل ناحية في البادية المغربية، وبالنسبة لكل طبقة من طبقات السكان في المدن المغربية، رجالا ونساء وأطفالا، ذلك أن ممارسة الشعائر الدينية في سوس مثلا، قد تختلف عنها في زيان أو شنقيط أو الريف أو فاس، ففي سوس نرى أن السكان إذا لاحظوا رجلا لا يصلي ولا يصوم احتقروه، فالممارسة الدينية عندهم رمز للإيمان، والإيمان رمز للفضيلة والكمال الإنساني، ولكن الأمر قد لا يكون كذلك في ناحية أو بيئة أخرى من المغرب، وقد تعتبر ممارسة الشعائر رجعية عند طبقة من الطبقات.
ان دراسة واقعنا الديني دراسة موضوعية مجردة، عن طريق الملاحظة والمقارنة والتحليل. وبالاعتماد على البحوث والإحصاءات الاجتماعية، لمعرفة نسبة الممارسين للشعائر من مجموع سكان المغرب، ونسبتهم الخاصة في كل طبقة من طبقات السكان، ومقياس الوعي والحيوية الدينية عندهم، وإقامة جغرافية دينية للمغرب المسلم، هذه الدراسة التي هي من أهم موضوعات علم المجتمع الديني، يحي أن تكون مادة أساسية في جامعاتنا الإسلامية بجانب مادة علم الاجتماع العام، والمأمول أن يقوم معهد العلوم الاجتماعية التابع لجماعة الرباط بوضع  الأسس العلمية، والوسائل العملية، لمثل هذه البحوث التي ستدل المصلحين على معرفة مواطن الداء، ووضع الأسس السليمة للإصلاح الديني.
على أن الشيء الذي يلفت  النظر في هذا الموضوع، هو أن اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية لم تقم على ما يبدو بوضع أسس علم اجتماع ديني للعالم الإسلامي، ودراسة نماذج للواقع الديني في أقطار إسلامية مرت بها كوارث مختلفة، أننا نريد أن نعرف الحالة الحاضرة للإسلام في الجزائر بعد 130 عامل من الاستعمار والتمسيح؟ وفي تركيا بعد نظام مصطفى كمال اللاديني؟ وفي الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي والبانيا وفي دول شرق اوربا بعد النظام الشيوعي؟ وفي الأقطار الإسلامية بإفريقيا السوداء بعد الاستعمار الغربي؟.كما اننا نريد أن نعرف ما هو الواقع الديني في الحجاز واليمن اللتين سلمتا من رجس الاستعمار؟ وماهو الواقع الديني في سائر البلاد العربية والإسلامية الأخرى؟
ان نتائج هذه الدراسات بالنسبة لدعاة الإصلاح وحركات الدعوة الإسلامية، لا تقدر بثمن،  انها الحلقة المفقودة بين ماضي الإسلام ومستقبله.

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/930

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك