حصار طروادة أول صراع بين الشرق والغرب

هـي حادثة تاريخية جامعة لكل مزايا دراسة التاريخ ففيها القصة الهزلية المسلية، وفيها العبرة التاريخية الحقة، وفيها أيضا  بدء بزوغ حضارة عريقة إغريقية هي أم حضارة الغرب القديم والحديث.
كل شيء يعجبك في القصة حتى التافه منها، فقد صيغت فيها حوادث جسيمة تثير اهتمام التفكير ولكنها تتضاءل حتى تصل إلى مستوى الهزل والدعابة وأحيانا أخرى الى استعراضات غرامية تلهيك عن حرب طراودة ونوائبها.
ينحصر تاريخ هذه الحرب بين سنة 1194 وسنة 1183ق م، وهو تاريخ شغل بال الأقدمين فقد تحدث عنه الفراعنة فيما خلفوه كما أشار إليه الحثيون، لقد قالوا جميعا أن شرق البحر المتوسط كان في حالة اضطراب دائم، وان نشاطا بحريا وبريا غير طبيعي كانت مسرحه المضايق البحرية المؤدية الى تركيا ومجموعة شواطئ آسيا الصغرى ، فما هو أن هذا النشاط البحري الشاذ وما هي  أسبابه ونتائجه؟..
كانت هناك مدينتان: احداهما في شبه جزيرة البيلوبونير(جنوب اليونان) اسمها اسبارطة تعاصر مدينة أخرى لا تزال آثارها إلى اليوم في الأراضي التركية على هضبة (مصاريق) وتسمى طروادة، وكانت لكليهما أهمية جغرافية واقتصادية لا تتوفر عليها أية مدينة من مدن البحر المتوسط في ذلك العهد، وقد حدث يوما أن زار ملك طروادة(بريام) مدينة إسبارطة حيث اجتمع بملكها(ميلاتوسي) وبأسرته التي كانت من بينها ابنته هلين، وحدث أيضا أن أحب ابن ملك طراودة، واسمه باريز الأميرة هيلين فقر عزمه على استقدامها إلى طراودة، فلما استعصى عليه ذلك اختطفها في لمح البصر وأودعها بيته، وهنا ثارت ثائرة ملك إسبارطة فاستنفر شعبه للحرب ضد أسياد طراودة الذين سلبوه ابنته دون مراعاة لكرم الضيافة، ولحسن الجوار، وتنتهي الحادثة بالحرب بين المدينتين، حشدت طراودة جيوشا جرارة ضمت كل شعوب الشرق المجاورة لها، وعقد ملوك اليونان اتفاقية تضامن فيما بينهم للوقوف بجانب إسبارطة، وبين عشية وضحاها ركب الملوك البحر عبر سفن بلغ عددها 120 سفينة وتوجهوا لملاقاة جيوش طراودة عن طريق المضايق البحرية. واستطاع اليونانيون أن يفرضوا الحصار على طروادة دون التمكن من اختراق السور، ودام الحصار عشر سنين دون جدوى وهكذا استحال غزو المدينة عسكريا مما دفع القوم إلى البحث عن وسيلة ناجعة للاستيلاء عليها وسرعان ما خطر في بالهم أن يتعمدوا الانسحاب، فانسحبوا وقد تركوا بجانب أحد أبواب السور فرسا كبيرا مصنوعا من الخشب تجمع في جوفه جنود مسلحون، وما أن ظن سكان طراودة أن اليونانيين قد عدلوا عن الحصار، وأنهم قد اتجهوا إلى البحر صوب اليونان حتى فتحوا أبواب السور على مصراعيها أملا منهم في تعقب سفن اليونان، وفجأة وقع بصرهم على الفرس الخشبي، فظنوا أنه من بقايا أشلاء الحرب، وفي غمرة من الفرح والاستغراب جر الجنود ذلك الفرس إلى داخل المدينة مهللين مكبرين بالغنيمة العجيبة. وهنا وقعت الواقعة، إذ تدفق الجنود من جوف الفرس وهم يلوحون بسيوفهم ورماحهم وسط الجموع التي احتشدت أمام الفرس، فاتقدت نار الفتنة بين السكان، وعقبها فتنة أخرى برجوع من تعمدوا الانسحاب في وقت كان فيه سكان طراودة في غفلة، ونتج عن هذا أن تدفق جنود اليونان على مدخل المدينة فخربوها وأحرقوها وبذا ثم تحطيمها كما يروي ذلك الأقدمون.
هكذا يبدو أن أسباب هذه الحرب، دراما غرامية كان بطلها الأميرة هيلين عشيقة باريز وأن اختطافها كان كافيا- حسب زعم رواية الأقدمين- لاندلاع حرب دامت عشر سنوات.
والواقع أنه من المتعذر جدا أن يكون سبب حرب شغلت بال العالم القديم مدة عشر سنوات اختطاف الأميرة هيلين، بيد أنه من المعقول جدا أن يكون هذا الحادث مناسبة لإشعال نار حرب كانت منتظرة في كل حين بين مدينتين كانتا تتنافسان على احتكار اقتصاد العالم الشرقي والغربي، فأسبابها إذا اقتصادية محض ولا أدل على ذلك من أن العداء بين المدينتين كان يزداد يوما بعد يوم بمقدار ما يتسع مجال التجارة في حوض البحر المتوسط، ووضع طراودة الجغرافي كان يزيد حنق منافستها اسبارطة، فطروادة كانت تقع على مدخل المضائق المؤدية إلى سهول البحر الأسود التي اشتهرت بخصبها واتساع أرجائها، والمضائق نفسها كانت مرتعا لنشاط تجاري كبير يدر على طراودة أرباحا طائلة تتقاضاها من رسوم الجمارك المفروضة على السفن ومن بينها سفن اليونانيين، زد على ذلك أنها قد استطاعت أن تتحكم في مصير سهول البحر الأسود وأن تستغل خيراتها سنين عديدة دون أي تزاحم غريب.
فلا غرابة إذا ضايق هذا الوضع مدينة إسبارطة وجيرانها وهم الذين يشعرون بتوفر الإمكانيات لديهم وباعتزاز بقوتهم وأصالتهم بالنسبة لعالم آخر يضم- على حد زعمهم- مجموعة من البرابرة المتوحشين فالحرب إذا كانت ضرورة نفعية وتعبيرا عنصريا لفرض الذات.
ماذا حدث أثناء هذه الحرب ؟ دامت الحرب عشر سنوات لم يعرف البحر المتوسط فيها أي استقرار، بل لقد وصفه الأقدمون بأن مياهه كانت كمياه المرجل تغلي كل يوم، وأن حركة السطو والبغي كانت من صنع اليونانيين، بل لقد كانت فرصة نادرة أتاحت للمصارع اليوناني أن يروض عضلاته ويجرب كل أنواع الفتك والتعذيب. وقد انتشرت عدوى الحرب إلى الجيران ممن استكانوا واعتزلوا، فبعد أن كان الحثيون ينظرون إلى هذه الحرب من بعيد، اجبروا ذات يوم أن يشتبكوا مع اليونانيين عندما هاجموا جزيرة قبرص واستولوا على جزء منها، ولا غرابة أيضا إذا تضايق الفراعنة من اليونانيين فالتحموا معهم على الحدود، وقد انتشرت حركة الاستيلاء اليونانية على كل جزر بحر ايجة حتى شملت كل شعوبها وهدموا كل حضارتها.
وما دمنا بصدد الحديث عن المثل الأعلى اليوناني في هذه الحرب فإنه بجدر بنا أن نشير إلى شخصية القائد اليوناني أودسيوس الذي يعتبر بطل ملحمة الشاعر اليوناني هوميروس، في هذه الملحمة الشهيرة(أوديسيا) يفتخر أودسيوس بما أنجزه من أعمال السلب وهتك الأعراض أثناء هذه الحرب، وهو يتشدق بذلك ويسهب فيه حتى يزل لسانه في الكذب والتزوير، وهي لعمري أحد الفضائل التي يتحتم على اليوناني أن يتحلى بها كي يثبت لمواطنيه مدى ما وصل إليه من رجولة حقة وكفاءة في تحمل المسؤوليات فكم من قبيلة أبادها عن بكرة أبيها دون مبرر لذلك وكم من بطون بقرها على مرآى ومسمع من جنوده في جو من الهتاف والتصفيق، وكثيرا ما حشد جموعا من البرابرة فأغرقها أو ساقها إلى سوق النخاسة.
وفي غمرة من هذه الحياة الوحشية القاسية تجري حوادث أخرى عاطفية بين الجنسين ولكنها عواطف فظة غليظة، تلبست بلبوس حزبي حيث  يسود فيها الغضب المفاجئ يؤول غالبا إلى القتل والخيانة، وفي شخصية القائد الشهير اخيلليس يتجلى لنا ذلك، فبعد أن تأكد له أن القائد الأعلى للجيوش اليونانية(أغامنون) قد راود عشيقته ذات يوم، قرر الانسحاب من المعركة مع جنوده، وهو إجراء عسكري خطير كاد أن يغير مجرى المعارك ومن يدري فقد يؤدي إلى هزيمة اليونان ؟ وفي هزيمتهم انقلاب لكل شيء في التاريخ العام وفي موعد وصول حضارة اليونان إلى الشرق.
على أن من حسن حظ الحضارة الإنسانية أن انتصرت جيوش اليونان فتقدمت جحافلهم إلى الشرق بما أوتيت من مثل عليا جافة يتعالى عنها الشرق وبما توفرت لديها من قيم حضارية مادية فامتزجت هذه القيم الإغريقية بغيرها من القيم الفينيقية والفرعونية فنشأ عن ذلك تناغم بين الحضارات القديمة سواء منها الغربية أو الشرقية وسواء منها الروحية أو المادية. ولئن كان من المستعصي على الإله اليوناني(زفس) أن يتفق اتفاقا كليا مع الإله الفينيقي(أدونيس) على كل الخطوط الرئيسية فقد استطاعا على الأقل أن يتعرفا على بعضهما وأن يزيلا اسباب الكلفة بينهما، ومن هنا بدأت قصة علاقة الشرق مع الغرب وهي علاقة تولدت عنها مشاكل عديدة ومعقدة واتخذت لنفسها سلسلة امتدت إلى يومنا هذا ولا يزال عالمنا اليوم يبحث لها عن حلول جذرية.
أما بالنسبة لليونان فشيء عجيب طرأ عليه بعد هذه الحرب، فملوك اليونان قد رجعوا من الحرب وهم في وحدة متماسكة وتعارف تام بعد أن كانوا من قبل يحكمون قبائل وشعوبا يجهل بعضها الآخر، فرقت بينها الجبال والوديان نتيجة لتضاريس اليونان المعقدة، وتمخض عن ذلك كله نشوء وحدة يونانية، بل وحدة سياسية وحضارية نسقت الأعمال في الداخل والخارج ومن هنا بدأ تاريخ اليونان.

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/941

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك