حول الهويّة والحقوق الثقافية في النقاش المعاصر

محمّد الشيخ
لم تطرح مسألة (التعدّد الثقافيّ) - وما تدور عليه من مفاهيم شأن (الهوية) و(الخصوصيّة) و(الاعتراف)... - في المجتمعات الليبراليّة الكلاسيكيّة بالشكل الملحّ الذي صارت تطرح به اليوم. وذلك لأنّ البوادر الأولى للمجتمع الليبراليّ، بأمريكا القرن الثامن عشر وبإنجلترا القرن التاسع عشر، لم تكن لتجد مجتمعات متعدّدة الأعراق والثقافات، وإنّما مجتمعات منسجمة بانسجامٍ يكاد يكون تامّاً: وحدةً في اللسان والأصل العرقيّ والهويّة القوميّة، بل وحتّى في الإيمان المسيحيّ... وما كانت الأقليّات العرقيّة والدينيّة والثقافيّة بالقاعدة ولا العمدة، وإنّما كانت الاستثناء والفضلة. لكن الغريب في الأمر أنّ الليبراليّة - الداعية إلى قيمتي (الحريّة) و(المساواة) الكونيّتين - كانت هي نفسها من أسهم في بناء الدولة الوطنيّة الصّاهرة لهويّة الأفراد الثقافيّة في بوتقةٍ واحدةٍ، وما زالت تفعل حتّى صير إلى الحديث عن (قوميّةٍ ليبراليّةٍ) ألفت بين حدّين ليس يأتلفان من حيث المبدأ. هو ذا ما يُسمّيه المفكّر الكنديّ ميشيل سيمور Michel Seymour باسم (مفارقة الليبراليّة)، وما يُسمّيه الفيلسوف الكنديّ ويل كيمليكا Will Kymlicka بسمة (مفارقة القوميّة الليبراليّة)، وما يوسمه الباحثان الفرنسيان سيلفي موزير Sylvie Mesure وألان رونو Alain Renault بميسم (مفارقة الهويّة الحديثة)؛ وذلك بحيث صار الإنسان المُعاصر يحيا، في آنٍ، برغبةٍ في هويّةٍ (ليبراليّة) وبتوقٍ إلى اختلافٍ (قوميٍّ)؛ أي أنّه صار يحيا في إطار ضربٍ من (الهوية المختلفة)؛ إذ ما من فردٍ محدث إلّا وأمسى هو يطمح إلى أن يعترف به بوسمه هويّة واختلافاً في آنٍ. وذلك لدرجة أنّ إحدى الباحثات -مارغريت كونوفان Margaret Conovan- ذهبت إلى حدّ القول: (لقد عمد المفكرون الليبراليون دوماً إلى التعمية على انتماءات الأفراد اللسانيّة والثقافيّة والقوميّة، وما ناقشوها هم البتة. وذلك لأنّهم افترضوا على الدوام وجود انتماءٍ قوميٍّ واحدٍ في الدولة الواحدة. أَوَ ليست الصّعوبة تكمن على الدوام في صعوبة التّفكير في ما هو قريبٌ منّا حد التّعامي عنه التّعامي كلّه؟). أَوَليس أبعد البعداء من كان بعيداً وهو القريب بأشدّ قربٍ يكون؟ أَوَليست نظريّة العدالة لصاحبها الفيلسوف السياسيّ الأمريكي جون راولز John Rawls، مثلاً، تفترض ضمناً - على مستوى الدولة الواحدة- مجتمعاً منسجماً لسانيّاً وقوميّاً؟ وأليست تفترض هي - على مستوى المجتمع الدولي- أن تعدّد الشّعوب إنّما ينهض على مبدأ أنّ لكلّ شعبٍ دولته الخصوصيّة بحيث لا توجد شعوبٌ متكثرةٌ لدولةٍ واحدةٍ لا ولا هي توجد، بالتلقاء، دولة لشعوبٍ مختلفةٍ؟
على أنّ الذي أيقظ الليبراليين من سباتهم الوحدويّ العميق مفارقة صارخة ما تفتأ المجتمعات الغربيّة المعاصرة تشهد عليها: كلّما اتّجهت الثقافة المُعاصرة إلى الليبرالية، تعلّق النّاس بهويّةٍ ثقافيّةٍ؛ وكلّما توحّدت قيم المواطنين السياسيّة الجوهريّة (الديمقراطيّة، دولة الحقّ، الحريّات الأساسيّة...) طالبوا هم باستقلالهم الذاتيّ وراموا تأسيس جماعتهم السياسيّة والثقافيّة المخصوصة! أكثر من هذا، كلّما تقدّم المجتمع نحو الليبراليّة برزت القوميّات المختلفة داخل الدولة الواحدة!
والحال أنّه كان من أثر هذه المفارقات الصّارخة أن صار ثمّة مسيس حاجة إلى مراجعة الموقف الليبراليّ الكلاسيكيّ على ضوء هذه المستجدات، ومحاولة تبين أشكال الوشائج بين الليبرالية، من جهة، والوحدة والتعدّد الثقافيّ من جهةٍ أخرى.
هذا ولقد بدأ النقاش حول هذه المسألة -أول ما بدأ- في حقل الفلسفة السياسيّة بالولايات المتحدة الأمريكيّة وكندا، خلال الربع الأخير من القرن الماضي، حين اتّخذ صورة نقاشٍ حول مدى أولويّة الحريّة الفرديّة في الاعتبار. فكان أن تمّت المواجهة بين أهل الحريّة الفرديّة (الليبراليون) وأهل الجماعة المندمجة (الجمعويّون). إذ اعتبر الأوائل أنّ الأصل في الأفراد أن يكونوا أحراراً، بالأولى والأجدر والأحقّ، في أن يحدّدوا بأنفسهم تصوّرهم الخاصّ لما يعتقدون أنّه الحياة الطيّبة. إذ لا دخل للدولة، لا ولا للجماعة، في تحديد هذا التصوّر، إنّما هو قناعة شخصيّة ورضا ذاتيّ. ومن ثمّة اعتدّ الفردانيّون الليبراليّون بأوّليّة (الفرد) على (الجماعة)، واحتجّوا بأحقيّة (الذات) على (النّحن)، وتأيّدوا بأهميّة (الأنا) على (الهم)، وما كان للجماعة من أهمّية، في نظرهم، إلّا بقدر ما تخدم الفرد ولذاذة عيشه، وإذا ما حدث أن ما عاد الأفراد يطيقون طوق الجماعة ولا يقدرون عوائد الجماعة الثقافية، فإنّه ليس يكون لهذه الجماعة أن تكرههم على ذلك، لا ولا حتّى أن تصارع وتقاوم وتكافح من أجل الحفاظ على هذه العوائد، لا ولا كان لها الحقّ – بالأولى- في أن تمنع الأفراد من تغيير هذه العوائد الثقافية أو التخلّي عنها بالمرّة أو رفضها الرفض الراديكاليّ.
وعلى الضدّ من هؤلاء، فإنّ الثواني - أقصد (أهل الجماعة)- رفضوا فكرة (الفرد المستقلّ) هذه التي لطالما اعتدّ بها الفردانيّون من الليبراليين. إذ الذي عندهم أنّه ما كان الفرد عن جماعته بمعزلٍ ومبعدٍ ومنأى، وإنّما هو - شاء ذلك أم أبى- في الجماعة وبالجماعة كان بها، وبها يكون. فلا كينونة إلا الكينونة الجمعيّة، لا كينونة بالبينونة. إنّما شأن الفرد أن يكون منخرطاً في العلائق الجمعيّة منهمكاً فيها منغمراً مستهلكاً، وإنّما الشّأن فيه أنْ يؤدّي أدواراً اجتماعيّةً محدّدةً متعيّنةً. فما كان الأشخاص الأفراد على شيءٍ، لا وكانوا بالتّبع هم من يشكّل تصوّره عن الحياة الطيّبة، ولا بالأحرى هم الذين يعدلون هذا التصوّر، إنّما شأنهم أن يرثوه وأن يستهدوا به ويقتدوا. وبالبدل من أن يعتبر أهل الجماعة هؤلاء من المفكرين الجماعيين أنّ العوائد الاجتماعية، إذا ما حقق أمرها، نتاج اختيارات فرديّة، فإنّهم يعتبرون أنّ الأفراد ما كانوا إلا نتاجاً لهذه العوائد الاجتماعيّة والثقافيّة. وفضلاً عن هذا، فإنّهم تشكّكوا في أن تكون مصالح الجماعة إنْ هي إلّا مصالح أفرادها ليس إلّا. فمصالح الجماعة شيءٌ ومصالح أفرادها شيءٌ آخر. ومن شأن مصالح الجماعة أن تعلو على مصالح الأفراد. وبعد، في تولية حريّة الأفراد واستقلاليّتهم المنزلة الأولى تدمير للجماعات. إنّما الجماعة السليمة من تحقق التوازن بين الاختيار الفرديّ وحماية نمط العيش الجماعيّ، بما يتطلبه ذلك من أن يتمّ الحدّ من الآثار التدميريّة للأولى على الثانية.
ولقد ساد الاعتقاد لردحٍ من الزّمن غير يسيرٍ أنّ حقوق الأقليات - لا سيّما منها الحقوق الثقافيّة- متعلّقة بما إذا كان المفكّر النّاظر في الأمر يتبنّى وجهة النظر الليبرالية أم وجهة النظر الجماعيّة. فإذا ما كان من الأوائل، وكان هواه مع حرية الفرد، فإنّه لا محالة رافض لحقوق الأقليات بتعلّة أنّ من شأنها أن تمسّ بأولويّة الفرد المشروعة، وإذا ما كان المفكّر جماعيّاً، وكان هواه مع ثقافة الجماعة، اعتبر، بالضدّ، أنّ حقوق الأقليّات وسيلة مناسبة لحماية الجماعات ضد تدمير استقلاليّة الفرد لعوائدهم، لا سيّما ما تعلّق منها بالحقوق الإثنيّة والثقافيّة، وأنّ الإثنيّات (العرقيّات) الثقافيّة لهي ما يستحقّ مثل هذه الحماية، وذلك لداعيين اثنين: لأنّها أكثر من سواها عرضة إلى مخاطر الاندثار، ولأنّها تصون نمط حياةٍ جماعيّةٍ يتطلّب أن يُحمى.
لكن بدا عرض الأمر على هذا النحو من العرض لمفكّري الحقوق الثقافية شديد التبسيط حدّ الاختزال. إذ ما كانت حقوق الأقلية بالضرورة حقوقاً جماعيّة، ثمّ إن مطالب الجماعة الحقوقيّة ليست موجّهة - بالضرورة- ضد الليبرالية والحداثة، بل قد تكون باسم هذين تتمّ. فالقيم السياسية لبعض الجماعات، شأن الكاتالانيين بإسبانيا مثلاً، ليست تختلف عن قيم الإسبانيين عموماً. مع بعض الاستثناءات النادرة شأن طائفة الأميش Amich بالولايات المتحدة، حيث تتبدى النزعة الجماعيّة معادية لليبرالية والحداثة بأشدّ عداءٍ يكون. لكن، لئن هو حقّ أنّ أغلب الجماعات الأقلية صارت ليبراليّة النّزعة والهوى، فلماذا تريد هي حقوقاً خاصّةً بها تتعدّى سقف الحريات الفردية المضمونة للجميع بحسب ما تنصّ عليه مبادئ الليبرالية المعروفة؟ لماذا لا تقنع هي بالحقوق المشتركة التي تنصّ عليها آداب المواطنة الليبراليّة؟....
أنظار تشارلز تايلور في الثقافة والحقوق الثقافية
لنبدأ بموقف الفيلسوف الكنديّ تشارلز تايلور. فقد اشتهر بكتابه (سياسة الاعتراف) Politcs of Recognition (1992) ، والذي فكّر فيه في مسألة (التعدّد الثقافي) و(حقوق الأقليّات الثقافيّة)، بدءاً من مبدأ (الاعتراف)، أو ما صار يُعرف تحت مسمّى (سياسة الاعتراف). والذي عنده أنّ مسألة (الاعتراف بحقوق الأقليّات)-لا سيّما منها الحقوق الثقافيّة - ما كانت مطروحة في المجتمعات القديمة. فهذه المجتمعات إنّما بنيت على مبدأ (الشّرف) و(النبل)، لا اعتراف فيها إلّا للشريف النبيل، أما الخسيس الوضيع فلا اعتراف به. على أنّه ما كان للمجتمع القديم أن يدوم إلى الأبد، وإنّما كان من شأنه أن يبيد، وإذ ظهرت فكرة (الكرامة) - كرامة كلّ الناس بصرف النّظر عن أصولهم، أكانت نفيسة أم خسيسة، شريفة أم وضيعة - فإنّ عصر الأنوار دشّن بداية ظهور مفهوم (الهويّة الفرديّة). وهو المفهوم الذي حكم المجتمعات الغربيّة الحديثة.
على أنّ المجتمعات الحديثة ألفت نفسها - في العقود الأخيرة- على قرني إحراجٍ: إنّ مقتضى مبدأ الكرامة - كلّ الكائنات البشريّة تستحق أن تحترم على جهة المساواة بحيث لا فرق- إنّما هو تحقيق كونيّة، بل سويّة، بين كلّ البشر؛ بما ينتج عنه محو التّمايزات والتراتبيات القديمة، بل وكلّ الاختلافات والتباينات. ممّا يتأدّى إلى صهر الكلّ في بوتقةٍ واحدةٍ بحيث لا تمايز، وإنّما هويّة أغلبية مهيمنة. هو ذا ما يُسمّيه تايلور (العمى عن الاختلافات). وإنّ مبدأ (الاعتراف) -الاعتراف بكلّ إنسانٍ بقطع النّظر عن أصوله - ليقود – بالضد- إلى المطالبة بمبدأ (الأصالة)؛ أي إلى المطالبة بأحقيّة كلّ فردٍ، وجماعةٍ، بحفظ اختلافه وتميّزه وهويّته. بناءً على أنّ (سياسة الاختلاف) إنّما بُنيت على مبدأ أنّ لكلّ إنسانٍ الحقّ في تشكيل هويّته وتحديدها بوصفه فرداً وبوصفه ثقافةً. والأمر يعرض على هذا النّحو: (ما هو متضمن اليوم في مطلب الاعتراف إنّما هو مبدأ مساواة كونيّة شاملة، وإنّ سياسة الاختلاف لتدين كلّ أشكال الميز، ولترفض كلّ مواطنة من الدرجة الثانية. ممّا يجعل من مبدأ المساواة الكونية مدخلاً إلى سياسة الكرامة. لكن، عندما نجد أنفسنا في خضم هذه السياسة فإنّ المطالب (مطالب التميّز) يصعب توفيقها مع هذه السياسة. ذلك أنّ سياسة الكرامة تتطلب بالفعل الاعتراف والإقرار بمنزلةٍ مخصوصةٍ لميزةٍ غير مشتركةٍ بين المواطنين أجمعين، وغير معترفٍ بها على جهة الكونيّة (ميزة خاصّةً)؛ بمعنى آخر ليس يتمّ الاعتراف المشروع إلّا لأمرٍ حاضرٍ - لكلّ هويّته- وذلك بالاعتراف بما لكلّ فرد. إنّ المطلب الكونيّ ليعصف بالاعتراف بالخصوصيّة. بهذا نصير أمام أمرٍ مفارقٍ: بينما (سياسة الكرامة البشريّة) التي ناضلت من أجل أشكال عدم التّمييز تعمى عن أشكال الاختلاف بين المواطنين، فإنّ (سياسة الاختلاف) تشكّك في مفهوم (عدم التمييز) بين المواطنين هذا، وترى أنّه هو نفسه مبدأ تمييزيّ يلغي اختلاف المواطنين. فهو نفسه أساس التّمييز. وما جاء لأجل إلغاء التمييز صار هو عينه –ويا لسّخرية الأقدار!- مبدأ للتمييز. ها هنا نلفي أنفسنا أمام مفارقة صارخة: قد تولدت السياسة الثانية -سياسة الاختلاف- عن سياسة الكرامة، لكن صارت وكأنها تولد المختلف -هوية خاصة- عن المؤتلف -حقوق مشتركة شاملة كونية! من هنا دخول هاتين السياستين -(سياسة الكرامة) و(سياسة الاختلاف)- القائمتين على مبدأ (الاحترام) في تصادم. بالنسبة إلى الأولى، فإن مبدأ (الاحترام للجميع) يتضمن أن نعامل الكل على قدم المساواة، وقد عمينا عن كل الاختلافات؛ أما بالنسبة إلى الثانية، فإنه ينبغي الاعتراف بالخصوصية، بل وتشجيعها. وإنّ ما تعيبه الأولى على الثانية لهو أنّها تخرق مبدأ (عدم التمييز). وإنّ ما نعيبه الثانية على الأولى لهو إنكار كلّ هويّةٍ، وذلك بفرض قالبٍ نمطيٍّ على كلّ النّاس ليس يناسبهم.
أكثر من هذا، يطرح هذا الأمر تفكيك الفكرة الليبرالية ذاتها بوصفها تعمى عن الاختلافات وتفرض التنميطات. وإنّ أنصار ضروب (سياسية الاختلاف) الأشدّ راديكاليّة - شأن بعض النزعات النسويّة مثلاً- لتذهب إلى حدّ اعتبار أنّ (الليبراليات العمياء) إنّما هي نفسها انعكاس لثقافاتٍ خاصّةٍ. فكيف للخاصّ أن يمنع الخاصّ؟ أَوَ ليست الليبرالية هنا - وهي الخصوصية- تتقنع خلف مبدأ كونيٍّ؟
وموقف تايلور أنّه وإن هو أقرّ بنقص هذا الضّرب من الليبرالية، فإنّه لا يذهب إلى حدّ تبنّي النّقد الراديكاليّ. فهو يعتبر أنّه توجد حقاً سياسة احترام متكافئ يصفها بأنّها (غير مضيافة)؛ أي غير متسامحة مع الاختلافات وغير رافدة للاختلافات؛ لأنَّها تقوم على تطبيقٍ حرفيٍّ للقواعد التي تحدّد حقوق الناس، بلا استثناء، ولأنّها شديدة الحذر من كلّ مقاصد جماعيّة. وبالطبع يقرّ أنّ هذه السياسة ليست تسعى – بالقصد- إلى إلغاء الاختلافات الثقافية: فهذه تهمة محالة. وإنّما يكتفي بتوسيمها بأنّها (غير مضيافة للاختلافات)؛ أي ليست تستضيف التباينات (الثقافية) بين المواطنين. وذلك لأنّها لا يمكنها أن تقبل بما يطمح إليه أعضاء الجماعات المتباينة: أن تبقى الجماعة فلا تفنى.
لكن لحسن الحظ توجد أنحاء أخرى للمجتمعات الليبرالية أكثر مضيافية تقبل ببعض الحقوق الثقافية أو تقول بمبدأ (التعدد الثقافي). هناك إذن شكلان لليبرالية: الشكل الأول -ما يسميه (الليبرالية الإجرائية)- منشد أيما أنشداد إلى حقوق الفرد؛ وبالتالي إلى دولة محايدة قيميا وصارمة؛ أي إلى دولة بلا مقاصد ثقافية أو دينية، بل حتى بلا أهداف جماعية مشتركة عدا الحرية الفردية والأمن الشخصي ورغد عيش وسلامة المواطنين. وثانية هي الليبرالية التي تنخرط فيها الدولة في حفظ المجتمع ككل بما فيه ثقافاته المختلفة ودياناته المتباينة، شريطة الحفاظ على حقوق المواطنين الأساسية. ولا خفاء أن تايلور يفضل الضرب الثاني من الليبرالية -وهو الشكل الذي يتوافق مع (سياسة الاعتراف) التي يدعو إليها.
أنظار "ويل كيمليكا" في الثقافة والحقوق الثقافية
أوقف المفكّر والفيلسوف الكنديّ "ويل كيمليكا" الكتب العديدة على مناقشة أمر "التعدّد الثقافيّ". لعلّ أشهر تلك الكتب على الإطلاق كتابه "مواطنة التعدّد الثقافيّ"Multicultural Citizenship (1995)، والذي عنده أنّه ليس يُمكن أن نطلب من شعوبٍ متعدّدةٍ أنْ تندمج في دولةٍ متعدّدة القوميّات من غير أن تحصل هذه الشّعوب - من جهتها- على اعترافٍ لا مراء فيه بهويّتها. فلكي تقبل الشّعوب أنْ تندمج في إطار فيدراليّةٍ أو في إطار اندماجٍ يضمّ مختلف القوميّات، يلزم أن تنسج ثمة وشيجة ثقة بينها وبين الدولة الجامعة، ولا إمكان للثقة من غير اعترافٍ متبادلٍ. فإذاً، حلّ المفارقة الليبراليّة ليس يتأتّى، عند الفيلسوف الليبراليّ، إلّا بتبنّي سياسة اعتراف بالحقوق الجماعيّة للشّعوب؛ فما تكمن الليبراليّة في الإقرار بالحقوق الفرديّة وحدها، وإنّما في الحقوق الجماعيّة أيضاً، وفي مقدّمتها الحقوق الثقافيّة. أكثر من هذا؛ من حقوق الإنسان الأساسيّة حقه في الثقافة، بل لا وجود لحريّةٍ فرديّةٍ بلا ثقافةٍ. هذا مع تقدّم العلم أنّه يقصد بالثقافة ما يُسمّيه "الثقافة المجتمعيّة". وقد أفاد به ضربا من الثقافة يمنح لأعضائه أنماط حياةٍ ذات معنى توجّه مجمل أنشطتهم في الحياة، وذلك على مستوى المجتمع والتربية والدّين والاقتصاد، وسواء في المجال العموميّ أو الخصوصيّ؛ أي باختصار ثقافة لا تتعلّق بالذاكرة أو بالقيم المشتركة، وإنّما بالمؤسّسات والممارسات المشتركة. وعنده أنّ الإنسان - بل النّاس- أساساً مخلوقٌ ثقافيّ، وأنّ تعلّق الناس بثقافتهم واقعةٌ ليست تكذب. إذ يشعر أغلب الأفراد في أغلب الأوقات بالرباط العميق الذي يصلهم بالثقافة التي ينتسبون إليها.
بناء على ما تقدّم، يتحصّل أنّه ليس يُعقل ألّا تمنح دولة ليبرالية لأفرادها حق الاختيار الثقافيّ. إذ لا ليبراليّة إلّا ما كان من ليبرالية الحقوق الجماعيّة. على أنّه يُميّز بين ضربين من ضروب حقوق الأقليّات: ضربٌ أول؛ هو ضربٌ يتعلّق بحقوق الجماعة ضد أفرادها؛ أي ضد سعي بعض أفرادها إلى التمرّد على عوائدها الثقافيّة التقليديّة. يرى "كيمليكا" - على هذا المستوى - أنّ الأمر شديد الإشكال، إذا ما نحن نظرنا إليه بمنظورٍ ليبراليٍّ؛ وذلك لأنّ من شأن مثل هذه الحقوق أن تحدّ من الاستقلال الفرديّ. فلا نظريّة ليبراليّة حقّة في حقوق الأقليّات، إلّا وليست تقبَل، بالمبدأ، فكرة أن جماعات يمكنها شرعيّاً أن تحدّ من الحقوق المدنيّة والسياسيّة لأفرادها، وذلك بما في هذه الحقوق الحقّ في أن يبتعد هؤلاء الأفراد عن جماعتهم نفسها. وضرب ثان من حقوق الأقليّة، يتعلّق هذه المرّة بحقوق جماعةٍ ما ضد المجتمع المهيمن. وهي تهدف إلى حماية الجماعة ضد آثار القرارات الخارجيّة (شأن القرارات الاقتصاديّة والسياسيّة التي يتّخذها المجتمع المهيمن ولا تكون في صالح جماعةٍ معيّنة). وعنده أنّ هذا الضرب من الحقوق عادة ما يقبل أن يتوافق مع مبادئ الليبرالية. أكثر من هذا، ينبغي دراسة هذه الحقوق حالةً حالةً بغايةٍ تبين إمكان توافقها والمبادئ الليبرالية. ولا مساغ هنا لادّعاء أنّ هذه الحقوق جماعيّة المبدأ، وبالتالي منافية لروح الليبراليّة بحيث تتأدّى إلى التّعارض مع أقدس أقداس الليبرالية: مبدأ استقلال الفرد.
لكن، أَوَ ليست تُعدّ هذه الحقوق الأقليّة امتيازات غير مبرّرة؟ يُجيب "كيمليكا" بأنّ ردّ هذا الاعتراض يقتضي منّا النّظر في دور الدولة. فالذين يذهبون إلى إبداء هذا الاعتراض يفترضون أنّ شأن الدولة أنّها محايدة من النّاحية القيميّة، بحيث لا تحيّز عرقيّ أو ثقافيّ للدولة بالمبدأ، وأنّ من أمر الدولة أن تتبنّى، من حيث المبدأ، موقفاً محايداً من الهويّة العرقيّة والثقافيّة للمواطنين، من غير ما أن تشغل نفسها بمدى مقدرة الجماعات العرقيّة والثقافيّة على إدامة نفسها عير عوادي الزّمان. فكما أنّ الأصل في الدولة الليبراليّة ألّا تُناصر ديناً بعينه، فكذلك الأصل فيها ألّا تُشّجع ثقافةً مجتمعيّةً بذاتها. فما الذي بقي، بعد هذا، للجماعات حتّى تُطالب به، وقد استرضيت بهذا الحياد المبدئيّ، اللهم إلّا أن تطالب بامتيازاتٍ غير مستحقّة؟ الحال أنّ الكثير من الباحثين (تامير، سبينر، كيمليكا) يذهبون إلى حدّ التّشكيك في ادّعاء الدول الليبراليّة الحياد العرقيّ والثقافيّ. والشّاهد عندهم على ذلك تشجيع الدولة الأمريكيّة - نموذج الحياد بامتياز- على تعلّم اللسان الإنجليزيّ (تعليم إجباريّ للأطفال في المدارس، تعليم المهاجرين (الأقلّ من خمسين سنة) بغاية الحصول على المواطنة الأمريكيّة، كما يعدّ هذا التّعليم الإجباريّ شرطاً للحصول على شغل في الإدارة). وذلك من أجل تشجيع (ثقافة مجتمعيّة) واحدة؛ أي ثقافة متركّزة في مجال جغرافيّ معيّن، متمحورة على لسانٍ واحدٍ مستعملٍ استعمالاً واسعاً في مؤسّسات عموميّة أو خصوصيّة كثيرة (مدراس، وسائل إعلام، قضاء، اقتصاد، إدارة...). مع تقدّم العلم،إنّ إعمال مفهوم (الثقافة المجتمعيّة) هنا جاء بغاية توجيه النّظر إلى حقيقة أنّه يتضمّن فكرة اللسان المشترك والمؤسّسات الاجتماعيّة أكثر ممّا جاء ليُوحي بالمعتقدات الدينيّة المشتركة والعوائد الأسريّة أو طريق العيش الفرديّة. ولئن كانت هذه (الثقافات المجتمعية)، بداخل الديمقراطيات الحديثة والليبرالية، تعددية بالضرورة، ما دامت هي تتضمّن، فضلاً عن المسيحيين، مسلمين ويهوداً وملاحدة... كما أنّها نتاج الحقوق والحريّات التي تضمن للمواطنين في الدول الليبراليّة، فإنّها تعدّدية تقوم على انسجامٍ لسانيٍّ ومؤسّسيٍّ متقصد. والحال أنّ هذا التوحيد، وإن أثبت أحياناً ضرورته وجدواه، لا بدّ ظالم لبعض الجماعات. ومن ثمّة ما عادت هذه الحقوق (امتيازات) وإنّما هي (جبر ضرر) واقع حاصل متمكن.
وبالجملة، تكون حقوق الأقليّة مشروعة متى حمت حريّة الأفراد داخل الجماعة، وحقّقت علاقات مساواة (لا هيمنة لأغلبيّة على أقليّة ولا لأقليّة على أغلبيّة) بين الجماعات.
بين النظرين
عادة ما أشار فيلسوفا حقوق الأقليّات الثقافيّة هذان إلى بعض أوجه الخلاف بينهما. إذ سعى كيمليكا - بحسب ما ذهب إليه تايلور- إلى الدفاع عن ضرب من سياسة الاختلاف لا سيّما في صلتها بحقوق الأهالي بكندا، في كتابه عن الليبرالية الجماعية والثقافة (1989)، لكن في إطار نظريّةٍ مبنيّةٍ على أساس مبدأ الحياد الليبراليّ. وذلك على الرّغم من أن كيمليكا لم ينفِ تشكيكه في مبدأ حياديّة الليبراليّة، في ما بعد، وذلك في كتابه عن مواطنة التعدّد الثقافيّ (1995). إذ بنى استدلاله بدءاً من الحاجة الثقافية للجماعات -على الأقلّ لغة ثقافية تمكّن جماعة من المواطنين من أن تتحدّد وأن تحدّد وأن تبحث عن تصوّرٍ للحياة الطيّبة - ففي بعض الظروف، ولدى بعض السّاكنة التي تُعاني من التمييز، فإنّه يُباح تخصيصها بموارد وحقوق أكثر من غيرها من السّاكنة. على أنّ تايلور يرى أنّه لئن نحن سلّمنا جدلاً مع كيمليكا بوجاهة هذا الطّرح - أي بأحقّية هذه الجماعات في تخصيصها ببعض الامتيازات التي لا توجد لدى غيرها- فإنّ الأمر - حقيقة- ليس يطرح في الحاضر وحال الجماعة حال ضعفٍ اقتصاديٍّ واجتماعيّ - وإنّما يطرح في المستقبل: هل سيتمّ الحفاظ لها على نفس الامتيازات؟ ذلك أنّ ما يهمّ السّاكنة حقيقة هو مستقبل جماعتها أكثر من حاضرها؛ أي إمكان بقائها في المستقبل كجماعةٍ متميّزةٍ مختلفةٍ. وهو ما غاب على ذهن كيمليكا.
وبالمثل، سعى الثاني إلى تقويم فكرة تايلور. وقد رأى أنّ تايلور -الذي يصنّف عادة ضمن مذهب أهل الجماعة- يقترب في بعض مواقفه من الحجّة الليبراليّة الخاصّة بحقوق الأقليّات. ذلك أنّه يُدافع عن فكرة أنّ من حقّ النّاس أن يُطالبوا بالاعتراف باختلافاتهم، وذلك لا ضداً على الحريّة الفرديّة، وإنّما باعتبار هذه شرط الحريّة ذاتها. ولكن مع ذلك، وانطباقاً مع الفكرة الجماعيّة، فإنّه يرى أنّ مصلحة الجماعة في الحفاظ على ثقافتها لا يُمكن أن يردّ إلى مصالح الأفراد الذين يشكّلونها. ومن ثمّة، فإنّ من حقّ الجماعة الحفاظ على عوائدها الجمعيّة في صلة مع حقّ الأفراد في اختيار أن يحفظوا تلك العوائد أم لا. ومن هناك، فإنّه يعتبر أنّ موقف تايلور موقف يقع بين الفكرة الجماعيّة القديمة والحجّة الليبراليّة الجديدة المتعلّقة بحقوق الأقليّات، مذبذبٌ لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك.