نحو إنعاش ثقافي جذري: لنبدأ بالتعليم أولا

كـل المنصفين متفقون على أن «المغرب» قد ورث عند استقلاله تركة ضخمة من المشاكل المزمنة التي أنتجتها الظروف الشاذة التي خلقها الاستعمار في المغرب لعهد الحماية المشؤوم، ومن أهم تلك المشاكل وأخطرها مشكلة «الثقافة» في المغرب، وهي مشكلة متعددة الأوجه، كثيرة الأنحاء، تتطلب أكثر من حل، نظرا إلى أن طبيعة الثقافة ذاتها مركبة غير بسيطة، فروافدها كثيرة، وزواياها متعددة، ومجالاتها جد واسعة، وإن الذي يقارن بين المغرب لأول عهده بالاستقلال وبين غيره من الدول يجد دون أن يبذل كثيرا من الجهد في محاولة الاستنتاج –أن المغرب من الأقطار المتخلفة في الميدان الثقافي، والسبب واضح هو السياسة الاستعمارية التي كانت ترتكز في هذا الميدان لأبنائه كي يتثقفوا، لما في الثقافة من خطر ساحق على الوجود الاستعماري بصفة عامة، ومن هنا لم يكن يسمح في المغرب أيام الحماية لأفراد الشعب بأن يتثقفوا الثقافة الحرة الكريمة، اللهم إلا قلة نادرة استطاعت أن تخترق الحصار، وتخلق لنفسها الظروف المساعدة على ذلك... ولكن ندرة هؤلاء لا تخلق قاعدة، ومن هنا تبقى المشكلة قائمة.
ذلكم هو التفسير البديهي لما نلمسه من حال الثقافة في المغرب أثر الاستقلال، فضعف الثقافة ظاهرة عامة لا تحتاج إلى برهنة، تلمسها دون كبير عناء في قلة ما يكتب أو يذاع، وفي ضعف المستوى العام فكريا وأسلوبيا لأغلب ذلك الذي يكتب أو يذاع، وتلمسه أكثر في مختلف طبقات الشعب المغربي التي لم ينضج عندها بعد الوعي الكامل الذي يعطي للثقافة أولا وقبل كل شيء الاعتبار الكامل والدرجة الممتازة في سلم الحيثيات والمؤهلات..
غير أن بادرة خير وبركة على الثقافة في المغرب قد انبثقت مع فجر الاستقلال، حيث هب الشعب والمسؤولون يضعون الأسس لتشييد ثقافة مغربية منتجة تشق للمغرب طريقة نحو حياة أفضل ومستقبل لامع، ومن الإنصاف أن أذكر –كأحد المشتغلين بالثقافة والتعليم أن أشواطا لا بأس بها قد قطعت في هذا المجال، وأن انتصارات ذات قيمة ستحقق قريبا فيه عن طريق «المدرسة» أولا و«الجامعة» ثانيا...
ولكن على الرغم من النشاط المشكور الذي تبذله كل من «المدرسة» و«الجامعة» في المغرب وعلى الرغم من الأشواط التي قطعتها في مضمار التطور والانطلاق، فإن الحركة الثقافية في المغرب ستبقى مشلولة غير قادرة على الانعتاق الكامل إذا لم تراع «الظروف» التي يعيشها المغرب عند تخطيط السياسة العامة للإنعاش الثقافي في المغرب.. وإذا لم تساند بعض المؤسسات الأخرى المدرسة والجامعة في العمل، وهذه المؤسسات هي : الإذاعة ودار الصحافة، ونوادي الشباب، وما شابهها.
إن «الظروف» التي أشرت إليها، والتي ذكرت أن المغرب يعيشها الآن، هي تلك الحالة من البلبلة والقلق التي أفلح الاستعمار في زرعها بالأذهان، والتي تشكك الكثيرين وتبعث فيهم الحيرة في أنفسهم. أي الاتجاهات الثقافية المعاصرة يتبعون ؟ أهو الاتجاه المادي الصرف الذي يعتمد على مظاهر القوة الآلية، والتي تسخر لخدمته أغلب المؤسسات الثقافية في كثير من الدول الأجنبية بحكم الصراع الذي تعيشه ؟ أم هو الاتجاه الروحي الذي ينظر إلى الثقافة على أنها تهذيب للنفوس، وأرهاف للأرواح، وسمو بالأفكار، وخروج بالإنسان من ميدان الحيوانية المحضة إلى ميدان «الإنسانية» في نظرتها السامية إلى الوجود والغاية من هذا الوجود ؟
وليت أذيع سرا إذا ذكرت أن لنا إخوانا في الشرق العربي قد عاشوا نفس هذه التجربة، واكتووا بنارها زمنا، ولكنهم اعتدوا دون شك إلى الحل المعقول المنطقي حين قرروا في سياستهم التثقيفية سلوك منهج وسط يعتبر المادة وسيلة والروح غاية، وأن الثقافة تعتمد على المادة وحده، بل على أساس أن المادة سند ودعامة، إن لم تستعمل للهجوم وجب أن تستعمل للدفاع، أما الغاية من الثقافة فهي في التحليل النهائي روحية معنوية : هي ضمان الكرامة الشخصية للفرد، والسعادة للمجموع عن طريق حمايته بواسطة الثقافة من أعدائه التقليديين : الجهل، والفقر، والمرض؛ إن كرامة الفرد وسعادة المجموع قد تبلورت في الشرق العربي المتحرر تحت شعار «القومية العربية» فأصبحت جميع الأجهزة الثقافية تخدم هذا الشعار وتوجه نحو أهدافه وغاياته، يكفي لتتأكد من صدق ذلك أن نلقي نظرة ولو عجلى على أي كتاب من الكتب الدراسية المقررة بالجمهورية العربية المتحدة فنجد أن الروح العامة التي تنتظمها مطبوعة بطوابع هذه القومية مصقولة بصاقلها، فلم لا نبدأ نحن –الأمة المغربية العربية- من هذه النقطة التي انتهى إليها إخواننا في الشرق. سوف تقول : إن المغرب هو الآخر قد أعلن عن «القومية العربية» كمبدأ له في أكثر من مناسبة، على لسان جلالة المغفور له «محمد الخامس» قدس الله سره، وعلى لسان صاحب الجلالة «الحسن الثاني» أطال اله عمره، وعلى لسان المسؤولين من الدوائر الرسمية...
أجل... لقد كان ذلك كذلك، ولكن ثغرات جد واسعة لا تزال في المغرب، يتسرب منها الشك إن لم يكن الهدم والتخريب نحو هذا الهدف السامي يجب أن تسد بكامل العناية وبالغ الحذر، هذه الثغرات يجب أن يتعاون الشعب مع المسؤولين في وضع أصابعهم عليها، وأعطي أقرب مثال لذلك هؤلاء الأساتذة «الأجانب» الذين يدرسون مادة «التاريخ» لتلامذتنا في المدارس الثانوية، إذ ثبت بأكثر دليل على أن أغلبهم يتخذون هذه المادة وسيلة إلى تشويه وقائع التاريخ، خصوصا الإسلامي العربي، تشويها يبعث التلاميذ على الشك في قيمة الإسلام والعروبة، وينحو بهم نحو التنكر لماضيهم، أي مستقبل للثقافة يمكن أن ينبني على أساس الكفر بالماضي ؟ أو ليس «التاريخ» هو «ذاكرة الشعوب» كما يقرون ؟
إن مادة التاريخ يجب أن تسند لأساتذة عرب، آمنوا بماضيهم العربي المشرف، ونظروا إلى «التاريخ» كمادة طبيعة وروحية لصنع الأفراد وبناء الشعوب، كما يجب أن يكون محورها الذي تدور عليه الإيمان بالكفرة الإسلامية والقومية العربية.
وفي نطاق هذه الظروف التي نعيشها تبرز «اللغة» كمشكلة لها هي الأخرى خطورتها ونتائجها على مستقبلنا الثقافي في المغرب، فمن الملموس أن لغتين أجنبيتين قد تجاذبتا أطراف الثقافة بالمغرب أثناء فترة الاحتلال، وهما وإن لم تفلحا في إخماد جذوة اللغة العربية القومية بالمغرب، فقد اضطرتا فئات من المثقفين بهما إلى الدفاع عن وجودهما لا على اعتبار أن اللغات الحية لها دورها إلهام في حياة القرن العشرين بشتى مظاهرها السياسية والثقافية والاجتماعية، بل على أساس التعصب لهذه اللغة الأجنبية أو تلك على حساب اللغة القومية، تعصبا يدفع إليه شعور هؤلاء الناس الداخلي بأن وجودهم مستمد من وجود هذه اللغة الأجنبية بالمغرب ومستند إليه، لقصر باعهم في اللغة القومية للبلاد، أو جهلهم إياها جهلا كاملا اضطرتهم ظروفهم الثقافية الخاصة إليه، ومن الحسنات التي أذكرها للمسؤولين بكامل التقدير «حملة التعريب» التي شنوها لتعليم الموظفين المغاربة اللغة العربية، ولكنني من باب الإخلاص لله والوكن أذكر أن الوسائل التي اتخذت لتحقيق الغاية من هذه الحملة وسائل في نظري جد قاصرة، بسبب عقم «الطريقة» وعدم الدقة في اختيار كل من المشرفين والمدرسين، ففي رأيي أن الطريقة «السمعية البصرية» وهي طريقة معروفة في دوائر رجال «التربية الأساسية» بالمغرب –أجدى الطرق وأقومها وأسرعها في تعليم اللغة للكبار، كما أن الأستاذ يجب أن يختار من بين الذين سبقت لهم خبرة واسعة في ميدان تعليم اللغة العربية بالذات، ومن المطلعين على مغالقها وأسرارها.
إن الثقافة في أمة يجب أن تستند على أساس متين هو «لغتها القومية» المنحدرة معها منذ فجر تاريخها، لأن اللغة القومية للأمة ليست وسيلة للتعبير والتفاهم فحسب، بل هي شحنات من عواطفها وروحانياتها، إنها في مفرداتها وتراكيبها عقلها المفكر، ووجدانها الشاعر، وكيانها المتماسك، إن الكلمات والجمل «المغرب، الوطن، الراية المغربية، الأمة العربية، محمد الخامس، الحسن الثاني، الأم، الحرية، الاستقلال، الأندلس، طارق بن زياد»، في لغتها ومعانيها تحمل إشعاعات وشحنات روحية خاصة بالنسبة للمغاربة لا أعتقد أنها تحملها إليهم في ترجمتها الأمينة للغات الفرنسية أو الإنجليزية أو الاسبانية، كما لا تحملها إلى الفرنسيين أو الإنجليز أو الاسبان قراءة هذه الكلمات أو الجمل في نصها العربي ومن أراد التأكد من صدق هذه النظرية فليراجعها في كتاب «اللغة» لفندريس، وفي كتاب «من بلاغة القرآن» لأحمد أحمد بدوي.
وكم أثلج الصدر أن جاء القانون الأساسي الذي وضعته حكومة جلالة الحسن الثاني أثر اعتلائه العرش ناصا على أن دين المغرب الرسمي هو الإسلام، ولغته الرسمية هي العربية، فأصبح على المسؤولين والشعب منذ تلك اللحظة أن يجعلوا من ذلك حقيقة واقعة، وظاهرة ملموسة، بواسطة سن المناهج الموصلة إلى ذلك وتطبيقها.
وإذا كان التعليم قد قطع في هذا الميدان مرحلة نوهنا بها في مكانها من هذا الحديث بصفة إجمالية فإني أعتقد أن من الواجب –وأنا بصدد تقديم اقتراحات لإنعاش الثقافي بالمغرب- أن أعود فأنظر إلى مسألة «الثقافة في المغرب» ككل يتكون من أجزاء أهمها «التعليم»، وإن أصنف ملاحظاتي واقتراحاتي حول إصلاح الأساس الذي هو التعليم على الشكل الآتي : معتمدا عدم التعرض للميادين الثقافية الأخرى لعدم اتصالي المباشر بها، وقلة معلوماتي عنها :
1- المرحلة الابتدائية- يجب أن يراعى في اختيار معلميها «الكفاءة العلمية والتربوية» لكون هذه المرحلة بالذات هي الأساس الذي تنبني عليه ثقافة الجيل، ومن ثم وجب أن تضمن «العافية» لهذه الثقافة عن طريق اختيار المعلم المكتمل وذلك هو الشأن في جميع البلاد الواعية اليوم، كما يجب ألا يراعى ذلك في ناحية دون أخرى بالمغرب، وأن يشمل ذلك الحواضر والبوادي على السواء ويجب أن تزود مدارس هذه المرحلة –ومدارس المرحلة الثانوية أيضا- بالخرائط والرسوم التوضيحية والمكتبات الغنية بكتب الأطفال، لكون ذلك ضروريا جدا لها كي تفلح في أداء مهمتهما، كما يجب أن يقتصر في هذه المرحلة على تعليم لغة واحدة هي اللغة العربية القومية لما ثبت من أن قدرات التلاميذ في هذه المرحلة لا تحتمل الإرهاق بتعلم لغة أخرى لها نحوها وصرفها ومشاكلها الخاصة، وعلى هذا النهج تسير أغلب الدول اليوم بما فيها سويسرة التي لها ثلاث لغات رسمية، ولكنها تقتصر في المرحلة الابتدائية على تعليم أبنائها لغة واحدة منها فقط، ومن أراد زيادة بيان حول هذا الموضوع فليراجع الجزء الثالث من حوليات الثقافة العربية للأستاذ ساطع الحصري، في الفصل الذي كتبه حول «تعليم اللغات الأجنبية» أو مقالا لي في نفس الموضوع بأحد أعداد السنة الثالثة من مجلة «دعوى الحق» على ما أذكر.
2- المرحلة الثانية- أرى أن تزود «الثانويات» بالأساتذة الأكفاء أولا وقبل كل شيء وهذا يقتضي في نظري إدخال تعديل جوهري على الإطار العام لأساتذة في سلك الوظيفة العمومية، إذ من الواقع المر ما يلاحظ من كون الأساتذة حاملي الشهادات الجامعية «المجازين» بسلك التعليم يتقاضون أجورا أقل مما يتقاضاه حاملو نفس المؤهل في الوزارات الأخرى، الأمر الذي يجعل الغالبية العظمى من خريجي الجامعات يتجنبون الاشتغال في ميدان التعليم، مؤثرين عليه العمل في ميدان آخر أكثر سخاء، وأقل تكليفا للجهود المضنية التي يعانيها الأستاذ من أجل تحضير الدروس، وتصحيح الواجبات المدرسية، وقيادة التلاميذ على اختلاف سلوكهم وأهوائهم. يضاف إلى هذا أن الذين قدر لهم منهم العمل بسلك التعليم الثانوي يعانون حالة نفسية ممرضة، الأمر الذي سيدفعهم –عاجلا أو آجلا- إلى الفتور في القيام بمهمتهم بدافع شعوري محض ليس لهم عليه أي راد إلا من عصم الله !
كما أرى أن تزود «الثانويات» بالخرائط ووسائل الإيضاح، وبالمكتبات الغنية بالكتب التي تناسب هذا الطور من سني التلاميذ وخصوصا العربية منها، وألا يهمل عند بناء «الثانويات» تزويدها بقاعة صالحة للعرض السينمائي والمحاضرات، والاجتماعات العامة وأن تطبق فكرة إنشاء «جمعية آباء التلاميذ» التي استحدثتها وزارة التربية بكامل الدقة، لما فيها من مساعدة على خلق «التلميذ المثالي» داخل المدرسة وخارجها، ومعاونة للإدارة المدرسية والأساتذة في ميدان عملهم المرهق، وأن تستحدث أوجه النشاط الاجتماعي والفني إلى جانب النشاط الرياضي الموجود فعلا بالثانويات، لما لذلك من أثر على المستوى الفكري العام للتلاميذ.
وعند السنة الأولى من المرحلة الثانوية فقط يأتي زمن تعليم التلاميذ لغة أو لغتين أجنبيتين، على أن تكون اللغة العربية لغة المواد جميعها، وأن تدرس اللغات الأجنبية كلغات إضافية، تعتبر غاية في ذاتها، لا وسيلة إلى تلقين المواد المختلفة.
3- التعليم الجامعي- ولن أترك الكلام عن التعليم قبل أن أنوه في كثير من التقدير والإعجاب المشفوعين بالفخر والاعتزاز على أقدام المغفور له جلالة محمد الخامس –رحمه الله- على تأسيس الجامعة المغربية الحديثة بالرباط، وإحداث دراسات عليا حتى مرحلة «الدكتورا» بها... ويستطيع أن يقدر هذا العمل الجلل قدره كل من تشجم أعباء الغربة من قبل، وما عانوه هم وأهلوهم من جراء ذلك ماديا وأدبيا.
على أن الجامعة المغربية الفنية –لكي تكون مشعلا ينير للشباب المثقف الطريق ويفتح لهم الآفاق البعيدة المدى في عالم الفكر، ودنيا الحياة- يجب أن تمنح شخصية اعتبارية، تجعلها قادرة على التوثب والانطلاق، وفتح نوافذ الثقافة جميعها أمام عقول شبابنا في حرية تامة كاملة، وعندها سيجدون عن إيمان كإيمان العجائز أن تحقيق وجودهم وسيلته واحدة وهي : «إنعاش الشخصية المغربية في تراثها الخالد الذي يستمد البقاء والخلود من الثقافة الإسلامية والروح العربية».
تلكم خواطر حول إنعاش التعليم بمراحله الثلاث، أغفلت التعرض لبعض أنواعه الأخرى كالتعليم الأصلي والفني والمهني لبعد مجالاتها عني، أقدم معها اقتراحات بناءة إلى المشتغلين بشؤون الثقافة في هذه البلاد، لست أرجو من ورائها إلا مساعدتهم على أداء مهمتهم في التطور ببلادنا العزيزة ودفعها إلى الأمام، وكلي يقين أنها ستحظى منهم بما تستحق من اعتباره، تضامنا من الجميع في العمل لما فيه الصالح العام.