كيف تحقق اللغة العربية توازناً بين الأصالة والثقافة المُعاصرة؟

د. محيي الدين صابر

اللغة، أيّ لغة، هي مناط الثقافة في كلّ معانيها، فهي التي تحيل التصوّر إلى فكرٍ، تعبيراً عنه، وتحيل الفكر إلى عملٍ، تفسيراً له، وقد كانت اللغة أهمّ الاختراعات الاجتماعيّة التي تميّز بها الإنسان، في ما تميّز به من الأحياء التي تُقاسمه الوجد على هذا الكوكب من حضارةٍ، وبها تمايزت المجتمعات البشريّة وتعارفت.وإنّ الأمم والشّعوب التاريخيّة والمُعاصرة، ترجع في تكوينها إلى رابطة اللغة.

إنّ وظيفة اللغات تتعاظم يوماً بعد يوم، مع التقدّم البشريّ، وفي الحضارة المُعاصرة، حضارة الثورة العلميّة والتقنيّة، حضارة الاتّصال والمواصلات.يفوق دور اللغة، كلّ دورٍ جوهريٍّ كان لها، على خطر ذلك الدور في التاريخ.فالكلمة الآن أكثر سيولةً، وأبعد مساراً، وأوحى حركة عن طريق المواصلات الالكترونيّة عبر الفضاء، فهي تلفّ أقطار الأرض في أقلّ وحدات الزّمن حساباً.

واللغة ليست رموزاً، ومواصفات فنّيّة وحسب، ولكنّها في الأساس منهج فكرٍ وطريقة نظرٍ، وأسلوب تصوّرٍ.هي رؤيةٌ متكاملةٌ تحدّها خبرةٌ حضاريّةٌ منفردةٌ، ويرفدها تكوينٌ نفسيٌّ مميّزٌ، فهي تجارب وخبرة، وبصيرة، وفلسفة لأهلها.

واللغة هي المدخل المشروع إلى الحضارة المُعاصرة التي بابها العلم والمعرفة.ولتحقيق ذلك، فإنّ اللغة العربية يجب أن تكون لغة علم عربيّة؛ وإنّ الطريق إلى هذا هو تحديثها، ودعم طاقاتها التعبيريّة، للاستجابة لمتطلّبات العصر، في إطار تعريب مقوّمات الحضارة المُعاصرة ومظاهرها، بتعظيم القدرة العربيّة الاجتماعيّة.

وليس صحيحاً ما يسود من قولٍ قوامه أنّ العلم لا وطن له، فإذا كان للعلماء وطنٌ جغرافيٌّ، فإنّ للعلم وطناً فكريّاً، وهذا الوطن العلميّ هو اللغة، فإنّ اللغة تتملّك كلّ فكرٍ يدخل إليها؛ وتطبيقات هذا في الواقع المعاش، وفي التاريخ كثيرة. فنحن اليوم نجد صعوبةً في تدريس بعض العلوم كالطبّ باللغة العربيّة، في الجامعات العربيّة، لماذا؟ لأنّ الطبّ بالنسبة إلى منطقتنا أصبح وطنه اللغة الانكليزيّة، وفي بلادٍ أخرى اللغة الفرنسيّة، أو الروسيّة، والذين قرأوا التاريخ الحضاريّ يعرفون، أنّ كثيراً من العلوم وفي مقدّمتها الطب، كانت تُعتبر علماً عربيّاً، وظلّت كتب الطبّ العربيّة، تدرس في الجامعات الأوروبيّة، قبل أن تعجم لغته.وبهذه المناسبة، فلعلّه من الخير أن نذكر بأنّ الطب بدأت دراسته في العشرينات من القرن الماضي في كليّة الطب بالقصر العينيّ في مصر باللغة العربيّة، فترة تقربُ من ستّين عاماً، حتّى احتلّ الإنكليز مصر، في الثمانيات من ذلك القرن، فتحوّلت دراسة الطبّ من العربيّة إلى الإنكليزيّة.وكذلك يُقال في القرن الماضي عن "المهندسخانة"، التي كانت تدرّس بالعربية، وخرّجت كبار المهندسين، الذين عملوا على تحديث الحياة المصرية، وإنشاء الأساطيل والمصانع.وقد بدأت الجامعة الأميركيّة نشاطها في بيروت باللغة العربية...وإنّه لمثل مشرّف ضربته سوريا، فقامت الدراسة العليا فيها بالدراسات باللغة العربية منذ سبعين عاماً، وخرّجت نوابغ عالميين من الأطباء والمهندسين أثبتوا قدرة اللغة العربية ومرونتها السوية في التعبير، مثل الترجمة اللسانيّة المباشرة للمصطلح الأجنبي، أو الاشتقاق، مثل ترجمة المصطلح في سياقها الدلاليّ في العربيّة.

ولعلّ الطّريف أن نذكر أنّ شيخ "انتاديوب"، وكان زميلي في الدراسة في معهد الانتروبولوجي في باريس، وكنا الطالبين الأفريقيين الوحيدين حينذاك، قد قام بترجمة نظريّة آنشتاين إلى لغة "الوولف"، وهي اللغة الأفريقية المنتشرة في السنغال، ليبرهن على أنّ كلّ لغةٍ قادرةٌ على التّعبير، لأنّ ذلك سبب وجودها.

مثلٌ آخر من التاريخ أنّ كثيرين من المقامات العالية في الفكر والأدب العربيّ، هم من جنسيّاتٍ جغرافيّةٍ غير عربيّة...ومن الأمثلة المعاصرة، الكتّاب الأفارقة، والآسيويون الذي سلبهم الاستعمار لغاتهم وفرض عليهم لغته، فمنهم الشعراء والكتّاب، ومنهم مَن تلقى الجوائز العالميّة، ولكن إنتاجهم لا صلة له بالتراث الأفريقيّ.والجنسية الجغرافية غير الجنسيّة الفكريّة، وتوضيحاً لهذا، فالأوروبيّون أنفسهم حين يكتبون عن الأدب الذي ينشئه غير أهل اللغة يُعبّرون عنه بأنّه أدبٌ أوروبّيّ من وراء البحار.

ولا بدّ من أنّ كثيرين فكّروا في عشرات الآلاف أو مئاتها من البحوث التي كتبها المبعوثون العرب للحصول على درجات الدراسات العليا، من الجامعات الأوروبيّة منذ القرن الماضي، ليس للثقافة العربية فيها شيءٌ إلّا ما تُرجم منها، وهو قليل القليل.وقد بدأ العمل على جمع تلك الأعمال من الجامعات الأوروبيّة المختلفة، وفهرستها، كمرحلةٍ أولى، ثمّ السعي إلى إقرار مبدأ ضرورة ترجمة الرسائل العلميّة إلى اللغة العربية، حتّى يتمّ الاعتراف بشهاداتها، وتشجيع العلماء في هذا الأمر.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5399 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك