من الثقافة الأوروبيّة إلى العالميّة والفكر الإسلاميّ

المجتمع المدني: من الثقافة الأوروبيّة إلى العالميّة والفكر الإسلاميّ
هيثم منّاع
أستخدم مصطلح "المجتمع المدنيّ" للإشارة إلى فئةٍ، أو كتلةٍ اجتماعيّةٍ يُفترضُ أنْ يتوفّر فيها مقدارٌ ما من التّجانس، من الانسجام. ويُمكن القول بتعريفٍ قائمٍ على النّفي، بأنّها ليست المجتمع الواسع، وليست الدولة الجغرافيّة؛ هي منزلةٌ بين المنزلتين، باستعارة تعبير المعتزلة، تقوم على أنّ الدولة لا يُمكن ولا يجوز أن تُمثّل النّاس في كلّ زمانٍ ومكانٍ وقضيّةٍ. وأنّ المجتمع الذي سبق الدولة وصنعها قادرٌ من حيث المبدأ على البقاء خارج فضائها بأشكالٍ فرديّةٍ أو جماعيّةٍ، تلقائيّةٍ أو منظّمةٍ، بحيث يُضفي على العلاقة بين الدولة والمجتمع سلطةً مضادةً هي في الآن نفسه، صمّام أمانٍ وقوّة مقاومةٍ ومصدر إبداعٍ. من أجل ذلك، قامت بعض الجماعات والشّخصيّات بمبادراتٍ تلقائيّةٍ عفويّةٍ أو منظّمةٍ، أرادت أن تقول منها وعبرها أنّها خارج سلطات الدولة.
محطّاتٌ من التّاريخ
كان نشوء الدولة على حساب التكوينات الاجتماعيّة السياسيّة التي سبقتها، كالقبيلة والملّة والإثنيّة والعشيرة؛ لذا وقعت عمليّة تبادلٍ أو مقايضةٍ تاريخيّةٍ للسّلطة، إمّا بدخول التكوين العضويّ قبيلةً أو عشيرةً في تكوين أجهزة الدولة وعصبيّتها، أو في تنظيم علاقة وساطة بين التركيب العضويّ القديم والدولة الناشئة، بصيرورة رئيس القبيلة وسيطاً لها عند قبيلته، ووسيطاً لقبيلته عند سلطاتها. لكنّ دور الوسيط في المجتمع الواسع لم يكن كافياً لإنتاجٍ واسعٍ لشخصيّاتٍ اعتباريّةٍ، بالإمكان أن نُسمّيها مجتمعاً مدنيّاً.
منذ الكتابات الإغريقيّة والرومانيّة والعربيّة عن "المدينة الفاضلة"، بل عن كلّ شيءٍ جميلٍ في حلمٍ، أو رغبةٍ مثاليّةٍ لوضعٍ أفضل من الوضع الذي نحياه، لم تكن الدولة الممثّل الوحيد والأمثل للمجتمع في كلّ مكانٍ وكلّ قضيّةٍ، ووقفت شخصيّاتٌ اعتباريّةٌ، وهيئات مجتمعيّةٌ، مواقف أساسيّة في مناهضة العنف أو الصّدام بين الرأسمال التجاريّ التربويّ والدولة والمجتمع. هناك مثلٌ في التّاريخ العربيّ ما قبل الإسلاميّ مباشرةً، هو حلف الفضول، الذي تشكّل من مجموعةٍ كانوا يملكون أفضل الألقاب بالمعنى القبليّ والثروة بالمعنى التجاريّ، لكنّهم وضعوا لقبهم وسلطتهم خارج منطق الهيمنة، وقالوا بأنّ مهمتنا الدّفاع عن كلّ مظلومٍ وعن كلّ محرومٍ. هذا المثل الذي حيّاه رسول الإسلام هو واحدٌ من أوّل أشكال المجتمع المدنيّ في التّاريخ البشريّ الواضحة المعالم، لذا استحقّ أنْ يكون جزءاً أساسيّاً ومادّةً منفردةً في موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان. مع الإسلام، بدأت تجربةٌ جديدةٌ مختلفةٌ مع مفهوم الأمّة. من المهمّ أنْ نذكر بأنّ مفهوم الأمّة في القرآن والحياة المُعاشة سبق مفهوم الدولة، الأمر الذي ترك مساحاتٍ ضبابيّةً واسعةً في تنظيم العلاقة بين المجتمع والدّين والدولة. لكنّ الفتوحات، وبناء الإمبراطورية، رجّحا قوّة الدولة. هذه المساحات ضاقت في عمليّة الفتوحات الإسلاميّة وبناء إمبراطوريّةٍ كبيرةٍ أثقلت كيان الدولة في الثّقافة السّائدة. لا يُمكن أنْ نبني إمبراطوريّةً بدون دولةٍ مركزيّةٍ قويّةٍ، والمجتمع المدنيّ ليس عنصراً سببيّاً، بل هو مادّةٌ تكّون أثناء بناء الإمبراطورية ومع استقرار مُدنها. لم يكن المجتمع المدنيّ عنصراً أساساً في أيّة عمليّة توسّعٍ في التّاريخ، وحتّى الاستعمار الحديث لم ينجح في توظيف فكرة المجتمع المدني لحسابه في استعمار إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة، لأنّ هذه الفكرة في ذاتها التاريخيّة وحتّى اليوم، مناهضة للهيمنة والاستعمار والتسلّط.
علينا انتظار الحسن البصريّ (642-728م) ومدرسته بأكملها لتتبع أوّل عمليّة فصل فعليّة بين السّلطة والأمّة، بين قاضي الخليفة، والقاضي بين النّاس. فالحسن البصريّ أجبر على أن يكون قاضي الخليفة فرفض، كما رفض أيّ عطاءٍ أو مرتّبٍ من الخلفاء. قال اسجنوني أفضل لي ولكم. وعمل كقاضٍ بدون مرتّبٍ، وباستقلالٍ تامٍّ عن الخلفاء. وحتّى الخليفة عمر بن عبد العزيز قال: علّه معي يقبل، فأرسل من يستشفّ الرأي قبل أنْ يطلب منه احتراماً له، فكان جوابه: ليس مكاني هذا، واختار القضاء بين النّاس بدون عطاءٍ أو تكليفٍ. وبقي قاضياً مستقلّاً في أوّل تجربةٍ لاستقلال القضاء عن السّلطة التنفيذيّة في تاريخه؛ وبنفس الوقت، مشى على نهجه مجموعةٌ من خيرة الشخصيّات الاعتباريّة في القرن الأوّل والثاني الهجريّ. فزرع أسس استقلال القضاء، من أجل تعبيد الطريق لما يُمكن تسميته الإسلام المدنيّ، غير الحكوميّ، أو "المجتمع المدنيّ الإسلاميّ" بتعبيرٍ معاصرٍ، وهو مصطلحٌ يُستعمل اليوم بكثرةٍ.
أمّا بالنسبة للثقافة الغربيّة، فكيف استخدم مصطلح المجتمع المدنيّ؟ لأنّ الحسن البصريّ وأمثاله من غير الغربيين في التّجربة الآسيويّة مارسوا الكلمة ولم يستعملوها.
لا بُدّ من العودة إلى ثلاثة أشخاصٍ في أوروبا أدّوا دوراً أساسيّاً في هذه العمليّة. اثنان منهم أنغلوساكسون والثالث فرنسيّ. من شبه ركام مفهوم المواطنة والحقوق والقانون، ومع استعادة أوروبا لقوّة العقل في فهم ذاتها والعالم، نستحضر ثلاثةً من روّاد الفكر الأوروبيّ:
توماس هوبس (1588-1679) Thomas Hobbes
جون لوك (1632-1704) John Locke
جان جاك روسو (1712-1778) J-J Rousseau
بالنسبة لتوماس هوبس، الفكرة كانت بسيطة جدا: المجتمع الطبيعي هو مجتمع العائلة، مجتمع القرية، مجتمع التموضع الجغرافيّ، أو علاقات قربى الدّم (في ما بعد أصبحت تُسمّى علاقات عضويّة). وعلينا الانتقال من هذا المجتمع الطبيعي إلى ما أسموه في كتابات الحقبة: المجتمع المدنيّ، والذي هو مجموعة الأفراد أو الأشخاص الذين اختاروا مع بعضٍ بشكلٍ طوعيٍّ، وبدون إجبارٍ من أحدٍ، أنْ يُشكّلوا هيئةً جديدةً؛ مجموع الهيئات التي قامت بهذه المبادرات هي ما أسميت عند هؤلاء بالمجتمع المدنيّ. بالنسبة لهوبس، كانت الدولة المطلقة قويّة من حوله؛ لذا نجده يُراعي مسألة الدولة المُطلقة، ويتجنّب مسألة الخوض في معارك مباشرةٍ معها، بقوله بأنّ الدولة مضطرّةٌ أنْ تُراعي أمنها وأمن النّاس. إذن، لنضع كلمة الأمن قبل الحريّة، علّنا نسمح بولادة مجتمعٍ مدنيٍّ. أي أنّ هوبس حاول أنْ ينطلق من معطيات الأمر الواقع من أجل التقدّم التدريجيّ، وبالعقد الضروريّ، الذي يجري بين البشر، يُمكن لهؤلاء النّاس أنْ يُشكّلوا قوّةً في المستقبل، للتخفيف من طغيان هذه الدولة المُطلقة.
"لوك" الذي أتى بعده، أتى بفترةٍ كانت السّلطة فيها مهتزّةً، فانطلق من فكرة التّعاقد... وفي هذا السياق قال جملته المعروفة "جميع النّاس أحرارٌ متساوون ومستقلّون بطبيعتهم، ولا يجوز إخراج أيٍّ منهم من هذه الحالة وإخضاعه للسّلطة السياسيّة للآخرين دون الحصول على موافقته".
أمّا جان جاك روسو فقد أكّد على مفهومين: الحريّة والمساواة. انطلق منهما لتعريفه لأيّ نظامٍ تشريعيٍّ، وتعريفه أيضاً لفكرة وماهيّة الإنسانيّة نفسها.
بعدها جاء عمانوئيل كانت (Kant 1724-1804 ). وقد انطلق من فكرةٍ أساسيّةٍ معاكسةٍ تماماً، تقوم على أساس تفكّك مفهوم الدولة المتسلّطة، وترتكز على ثلاث أفكار:
اعتبار الدولة لاعباً رئيساً، ولكن غير وحيدٍ
إقرار قيمٍ عالميّةٍ مشتركةٍ (حقوق الإنسان، السّلام..الإيمان التوحيد بين الشّعوب والأمم )
الإقرار بوجود مصالح للدول، ولكن أيضاً الاعتراف بمصالح للشّعوب، ومصالح تعني الجنس البشريّ بأكمله (فالمصلحة العامة أن نقوم بعمل مشترك ضد التلوث كذلك في مواجهة ضرب طبقة الأوزون). وهذا الكلام يعود للقرن الثامن عشر، لكنّه بدأ بهويّاتٍ، ثمّ بدأ الدّفاع عنه يأخذ حجماً أكبر وقوّةً أكبر في المجتمعات التي حوّلته من مجرّد أفكارٍ لمفكّرين ومغامرين إلى ما سُمّي في ما بعد السّلطة المضادّة في مقابل السّلطة التنفيذية. أطلق عليها اسم المجتمع المدنيّ.
باختصار، يُمكن تكثيف اللحظات الثلاث للمجتمع المدنيّ عند "هيغل" (G.W.F Hegel 1770-1831 ) بما يلي:
نسق الحاجات أو تطوّر عناصر المجتمع المدنيّ من الدوافع والحاجات الذاتية
تنظيم العدالة: أو التعبير القانونيّ لتنظيم العلاقة بين الأفراد والمؤسسات
الشرطة (الدولة) والنقابة (المجتمع المدني): أي القدرة على الكبح المتبادل لعسف السلطة والسلطة المضادة.
عند ماكس فيبر(1864 - 1920) الرأسمالية والديمقراطية شرطان للمجتمع المدنيّ. أي إذا لم يكن هناك ديمقراطيّة فلا وجود للمجتمع المدنيّ. وقد استدلّ في دراسةٍ له على ما يقول بالمجتمعات العربيّة ليقول بأنّ ضعف الرأسماليّة لا يُعطي مجتمعاً مدنيّاً، رغم أنّه يتحدّث في حقبة النّهضة وعمالقة مطلع القرن العشرين في العالم العربي عامّةً، ومصر بشكلٍ خاصٍّ.
ليس بالإمكان التوقّف طويلاً عند ماركس، بسبب موقفه النقديّ السّريع وتغيّراته، حيث شهد المصطلح تطوّراً من ماركس الشّاب الأقرب لهيغل، ماركس المتوسط قبل رأس المال، وكان مع نقد فكرة المجتمع المدنيّ، ثمّ في إسهام نقد فلسفة الحقّ عند هيغل، اعتبر أنّ المجتمع المدنيّ هو مجتمعٌ مدنيٌّ بورجوازيٌّ، بالترجمة الحرفيّة الألمانيّة، حيث تأرجح المجتمع المدنيّ بين عدّة مفاهيم ومواقع في البنيتين التحتيّة والفوقيّة. ويُمكن القول إنّ أوّل الماركسيين اهتماماً بالمصطلح وتوظيفه الإيطالي أنطونيو غرامشي في "كتابات السّجن"، حيث بدأ مناقشة بأنّ الطبقة العاملة لوحدها عاجزةٌ عن إحداث التّغيير، ولا بُدّ لها من نُظمٍ وهيئاتٍ ومؤسّساتٍ؛ إذن عاد ليصبّ في فكرة المجتمع المدنيّ.
عودة مصطلح المجتمع المدنيّ بقوّةٍ على الصّعيد الأكاديميّ والمنظّمات الحقوقيّة والأحزاب السياسيّة كانت مع مؤشّرات سقوط أنموذج الدولة البيروقراطيّة الاشتراكيّة. وقد طُرح على الطاولة، منذ ولادة نقابة "تضامن" في بولونيا، مفهوم المجتمع المدنيّ بتعريفٍ جديدٍ، باعتباره التّعبير عن مجتمع المواطنين الأحرار، أكثر منه مصطلحاً مرتبطاً بالضرورة بتصوّرٍ ليبراليٍّ أو اشتراكيٍّ.
يعتبر "آدم ميشنك" و"فاكلاف هافل" المصطلح تكثيفاً لضرورة قيام جبهة دفاعٍ ومقاومةٍ مدنيّةٍ قادرةٍ على الانتقال السلميّ من الأسفل للأعلى في دولةٍ شموليّةٍ. دون مقاوماتٍ مسلّحةٍ، بل عبر نضالٍ مدنيٍّ سلميٍّ؛ (التشيك) كانت ثورتهم مخمليّة. قمع المثقفين واعتقالهم لم يُغيّر في رغبتهم السلميّة في التّغيير. توجّهوا للنّاس دون تمييزٍ وقالوا للمجتمع أنتم جبهة المقاومة المدنية؛ تعالوا أساتذة جامعةٍ، عمّال، فلّاحين، مهنٌ وسطى، لنتعاون سويّةً حتّى نوقف طغيان الحزب على المجتمع. بدأت المظاهرات تستقطب أكثر فأكثر مستفيدةً من تجربة 1968م، وشارك الجميع عدا الحزبيين، فسقط النّظام الشّموليّ. هنا، حقّق المجتمع المدنيّ تعريفه، واستطاع أنْ يُعبّر عن طموحات المجتمع التشيكوسلوفاكيّ (قبل انشقاق التشيك عن سلوفاكيا) في وقف طغيان الدولة الشموليّة... وهكذا انتعشت عدّة مدارس ليبراليّة جديدة لتوظيف ما حدث في خدمة فكرةٍ مركزيّةٍ تقوم على أنّ المجتمع المدنيّ هو الابن الطبيعيّ لاقتصاد السّوق أو الحمّالة السلميّة للانتقال إليه.
بالنسبة للكتابات في فكر حقوق الإنسان، هناك بوصلةٌ تُحدّد موقفنا ممّا يُسمّى حركات وتوجّهات فكريّة تتناول مسألة المجتمع المدنيّ. وبتكثيفٍ شديدٍ، لا يُمكن للمجتمع المدنيّ أن يكون محايداً في الدفاع عن الحقوق الستّة التي نُدافع عنها: السياسيّة والمدنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة والثقافيّة. بهذا المعنى، لنا دورٌ ضد هيمنة جماعات الضّغط الماليّة والصناعيّة العسكريّة والنّفطيّة على مستقبل كوكبنا، وفي مواجهة مع اللبرلة الوحشيّة، التي تُعطي للقلّة لتحرم السّواد الأوسع. كلوبيات الضغط الواسعة من أجل منع العديد من الاسلحة، لأنّ شركات الأسلحة تحاول شراء من تستطيع من المناضلين حتّى تُخفّف من الحملات ضدّها. كلّنا يعرف بأنّ الدكتاتوريّة العسكريّة في بورما صامدة لأنّ هناك شركةً نفطيّةً متعدّدة الجنسيّات تحمي العسكر من أجل امتيازاتها النفطيّة. نحن هنا ضد ديكتاتوريتين، ديكتاتوريّة المال النفطيّة، وديكتاتوريّة العسكر...
إذاً، وجهة نظر المُدافعين عن المجتمع المدنيّ كقوّةٍ وسلطةٍ مضادّةٍ مركزيّةٍ في عصرنا الراهن ترى أنّ المناطق الفاصلة بين الدولة واقتصاد السّوق، بين السّلطة السياسيّة والسّلطة الماليّة، بين سيادة الدولة والدفاع عن الكرامة الإنسانيّة متّجهة، كما ترى في صيرورة حريّة البضائع، لأنْ تكون أسمى من حريّة البّشر وحركتها أكثر سهولة من حركة الإنسان.
نعم، في عالمنا الراهن حريّة البضاعة مكفولة، أمّا حريّة التنقّل للبشر، فتعطي زوارق الموت. نحن اليوم في وضع غلبة الدولة الأمنية على دولة القانون باسم الحرب على الإرهاب وباسم المصلحة العامة؟ نعم، باسم أشياء كثيرة أصبح الأمن وليس القانون أو العقد، هو التّعبير الأمثل لكلمة الدولة. تحدّيات كبيرة مشتركة وعالميّة تضع كلمة المجتمع المدني فوق حدود الثقافات والتّجارب، بل وتدمجها في صلب الحركة الفكريّة الإسلاميّة. من هنا ظهور مصطلح المجتمع المدنيّ الإسلاميّ، وتبنّي أكثر من رمزٍ فكريٍّ إسلاميٍّ له.
المسلمون والمجتمع المدني
يُعتبر مفهوم (المجتمع المدني) من الإشكاليّات الفكريّة والسياسيّة في الخطاب الإسلاميّ على اختلاف تعبيراته. ومن الصّعب أن نعثر على مقاربةٍ واضحةٍ، ناهيكم عن تصوّرٍ إسلاميٍّ متكاملٍ ومتّفقٍ عليه حول المجتمع المدني.
في هذا التوجّه تبرز أسماء عديدة، مثل الدكتور محمد خاتمي، والدكتور وجيه كوثرانيّ، والدكتور أبو بكر باقادر، والعديد من المفكّرين الإسلاميين في أوروبا. وسنتوقف مطوّلاً عند أطروحات داعية الإصلاح الدستوريّ والمجتمع المدني القياديّ في اللجنة العربية لحقوق الإنسان الدكتور عبد الله الحامد (أبو بلال)، والذي حكم عليه لخروجه تضامناً مع نساء معتقلي رموز المجتمع المدنيّ بـ 6 أشهر بالسجن.
يتّفق هيثم منّاع (1992) ووجيه كوثراني (1999) وعبد الله الحامد (2002) وأبو بكر باقادر (2004) على أنّ مفهوم المجتمع المدنيّ:
أوّلاً عالميّ
وثانياً له جذوره في التاريخ والثقافة العربيّة الإسلاميّة.
يعتبر كوثراني قواعد التعريف الهيغليّ متوافرة في الحضارة الإسلاميّة عبر ثلاثيّة " الدولة/ الشّريعة/ العصبيّة/ الملّة أوّلاً، التنظيم الحرفيّ/ الطرق الصوفيّة / الأسواق والحارات أو فعاليّات المدينة الإسلاميّة ثانياً، الوقف والخدمات الاجتماعية والعملية ثالثاً. هذه توضح معالم المجتمع المدنيّ في التاريخ العربي الإسلاميّ، وبالتالي لا يُمكن اعتبار هذا المصطلح غريباً عنّا في مجتمعنا المُعاصر، إذا كانت قد توفرت قبل عشرة قرونٍ، وعاشها الناس في بغداد، وفي الأندلس، فلم لا نعشها اليوم؟ بنفس الطريقة أو بطريقةٍ أرقى؟
يُمكن تكثيف وجهة نظر عبد الله الحامد، كالآتي:
أوّلاً: "إنّ عدم شيوع المفهوم ولا تحديد عناصره وعدم ظهور تكتلاته، في أنماطٍ راسخةٍ في الأعراف الاجتماعيّة، لا يعني أنّ الإسلام لم يتبنّ مبادئ المفهوم، فضلاً عن أنْ يتصوّر أنْ المفهوم لا ينسجم مع العقيدة الإسلاميّة. فقيم المجتمع المدنيّ كحقوق الإنسان والديمقراطيّة، والحريّة، والعدالة والمساواة وأطرها السياسيّة: كالدستور والفصل بين السّلطات الثلاث، واستقلال القضاء، مجموعة مفاهيم أنتجها الغرب، ولكنّها مفاهيم إنسانيّة، موجودة الجذور في أيّ ثقافةٍ ذات حضارة، ويُمكن اليوم لأيّ ثقافةٍ أنْ تستدخل المصطلحات الغربيّة ضمن منظومتها، وأنْ تزيد فيها وتعدل وتصهر وتفرز، حتى تتناسب مع خصوصيّتها".
"إنّ مركزية الإدارة وسلطتها المطلقة أو بتعبيرٍ آخر احتكار القرار؛ أو بتعبيرٍ أدقّ (الاستبداد) هو سرّ الانحطاط في أيّ أمّةٍ، وليس صحيحاً ما تُردّده ثقافتنا الموروثة، من فضل المستبدّ العادل، فالمستبدّ لا يُمكن أنْ يعدل، حتّى ولو كان مخلصاً تقيّاً مصلحاً، فالسّلطة المطلقة مفسدة مطلقة".
ثنائيّة دمار البلاد والعباد في كلّ أمّةٍ؛ هي حكم (الجبر) الذي لا بدّ أن يُفضي إلى (الجور)، وثنائيّة الصّلاح في كلّ زمانٍ ومكانٍ: حكم (الشورى)، الذي لا بدّ أن يُفضي إلى (العدل).
وسيلة الوصول إلى النظام الدستوري رسوخ ثلاثيّة المجتمع المدنيّ، في الأعراف والعلاقات الاجتماعيّة، بعناصرها الثلاثة:
العنصر الأوّل: رسوخ القيم (الثقافة المدنيّة)، وأهمّها:
إيمان الناس بأنّهم هم أدرى بمصالحهم، وأنّ دور الحكومة محصورٌ بتنفيذ رأيهم فحسب، وتحديد دور الحكومة بأنّها سلطة تنفيذية لما يُقرّره المجتمع فحسب، لما تقرّره الأمّة عبر ممثليها، في تحقيق مقاصد الشّريعة ووسائل تنفيذها المشروعة، أي رفض السّلطة المطلقة.
الالتزام بحلّ أيّ خلافٍ سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ أو ثقافيٍّ أو مذهبيٍّ عبر الحوار والصّراع السلميّ.
المواطنة،هي أساس الحقوق، وفي إطارها تنشأ قيم التعدديّة والحواريّة والتّسامح والأغلبيّة والشّورى والتّعايش.
العنصر الثاني: قيام تجمّعات المجتمع المدنيّ الأهليّة، كالنقابات والجمعيّات، بفروعها (الخمسة): سياسيّة واقتصاديّة، واجتماعيّة ومهنيّة وثقافيّة.
العنصر الثالث: إنّما الحكم الشورى العادل، له مضمونٌ، وله هيكلٌ وهيكله هو خيمة الحكم الدستوريّ، بأعمدتها الخمسة: تقرير سلطة الأمّة في تحقيق مقاصد الشّريعة، قيام سلطة الشّعب النيابيّة التشريعيّة المنتخبة، تعزيز استقلال القضاء، تحديد وظيفة سلطة الحكومة بأنّها سلطةٌ مقيّدة، تقرير مشروعيّة إنشاء جمعيّات المجتمع المدنيّ الأهليّة.
إذن ينبغي، وفق أطروحة الحامد، تأسيس خطاب المجتمع المدني والدستور على الإسلام، عقيدة الأمة وهويتها الثابتة، تأسيساً فقهيّاً أصوليّاً، لأنّ الإسلام هو المرجعيّة التي يجب الالتزام بها، لتصبح مفاهيم المجتمع المدني مدعومة بسندٍ دينيٍّ، لكي لا نحرف الشّريعة، ولأنّ ذلك أيضاً، يقربها إلى النّاس، ويحميها من معارضيها، مِن مَن لا يدركون كيف كان الإسلام في عهد الرعيل الأوّل؛ مشروعاً للإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ معاً، ومشروعاً للتقدّم الدنيويّ والأخرويّ معاً، ومشروعاً للرقي المدنيّ والروحيّ معاً، لذا بالنسبة له:
الدستور ليس علمنة، وليس من المصالح المرسلة، بل هو إحياء الوسيلة المناسبة اليوم لإحياء السنة، فأعظم البدع في الإسلام هي الحكم الجبريّ الجائر، ولكي يتبين للجميع أنّ الإسلام أقرّ سلطة الأمّة في تحقيق مقاصد الشريعة، ونادى بحقوق المواطنين وحرياتهم مدنية وثقافية واجتماعية وسياسية، قبل خمسة عشر قرناً من تنادى الأمم الدستورية إليها، لكي لا ننحرف عن شريعة الحقّ والعدل.
دعاة حقوق الإنسان والمجتمع المدني والإصلاح الدستوري، مجاهدون محتسبون (احتسابا سياسيا) وهم مطالبون بالحذر من الجري وراء مكاسب حزبيّة أو فئويّة أو شخصيّة، وبالحذر من الحسابات الصغيرة؛ فالتخندق خلف هذه الحسابات الفئوية والحزبية والشخصيّة أضاع في البلدان العربيّة والإسلاميّة كثيراً من الطاقات.
من أجل أن ينجح مشروع الإصلاح في أيّ بلدٍ عربيٍّ ينبغي أن يكون وطنيّاً؛ يستوعب جميع الأطياف الاجتماعيّة والثقافيّة، وجميع المناطق والطبقات، سواء أكان دعاته من دعاة الإسلام، أو من دعاة التّحديث أو القوميّة أو الوطنيّة. هذه القاعدة التي جسدها الخليفة الراشدي الرابع، في تعامله مع الخوارج أي مفهوم الدولة الوطنية، الذي ينقل به النّاس من مفهوم الدولة المذهبيّة الحزبيّة الضيّق، إلى مفهوم الدولة الإسلامية الرّحب المتسامح.
الناس محتاجون إلى أنْ يُقدّم كلّ فريقٍ ثقافيٍّ أو تيّار اجتماعيّ؛ مسألتي المجتمع المدنيّ والدستوريّة على ما عداهما، حتّى يتمّ رسوخهما في المجتمع، وما دام الإسلام في أصل خطابه يحتوي ذلك المفهوم تقريراً أو إقراراً، تفصيلاً أو إجمالاً، فلا مشكلة في بناء الآليّات والإجراءات، ولا في بناء النّظم والنظريات.
الإصلاح في كل بلد عربي، لم ولن ينجح، ما لم يكن فكر دعاة (الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني) محط ثقة شعبية، لاسيّما عندما يُعالج ممارساتٍ تُخالف في ظاهرها العدالة الشرعيّة، ولكنّها مدعومة بتراث يتقنع الإسلام، في قضايا تتعلق بالقضاء والتعليم وحقوق المرأة والمواطنة والتعدديّة والأغلبية والصراع الرمزيّ والتسامح ونحوها من قيم المجتمع المدنيّ. أو عندما يستخدم مصطلحات غير شائعة حديثة كالدستور، والفصل بين السلطات.
يحتاج (الإصلاح الدستوريّ والمجتمع المدني) إلى المصداقيّة الشعبيّة، هذه المصداقية تحتاج في مجتمعاتنا إلى مصداقيّة دينية، وأيّة مصداقية دينية تحتاج إلى التأصيل الفقهيّ عبر العلوم الثلاثة: أصول الفقه ومقاصد الشريعة والعقيدة.
إنّ الأصل في (الإصلاح الدستوريّ) أن يبدأ من الأدنى إلى الأعلى، من القاعدة الشعبية، عبر انتشار قيم المجتمع المدنيّ أولاً، وعبر قيام تجمعاته الأهلية ثانياً، لأن الإصلاح السياسي ومنه الدستور لا يتم إلا بقرار سياسي والقرار لا يتخذ إلا بمطالبة شعبية فاعلة. والإصلاح الذي يبدأ من الأعلى إلى الأسفل من قمة الهرم، قد يعانى من مراحل تقدم غير منتظمة، كما قد يؤدى إلى الكثير من التأخر، بسبب تعرضه لعقبات سياسية واجتماعية وثقافية، وقد يصبح الإصلاح غير راسخ، ما لم يرافقه البدء من الأدنى، وتفعيل قاعدة الهرم. وحشد التأييد الشعبي، كما حصل في أوربا الشرقية.
هذا بإيجاز شديد ملخص وجهة نظر زميلنا في المملكة العربية السعودية، حاولت عرضها بأمانة كما عرضت وجهات نظر الآخرين، ربما سيكون لي عودة نقدية لها في المستقبل. ولكن في ظروف الخناق ومنع السفر التي يعيشها رواد المجتمع المدني في المملكة، وجدت أن التعريف بوجهة نظرهم واجب علينا لكسر الحصار المطبق عليهم.