العلاقات المسيحية – الإسلامية: دراسة في تاريخ وأدب وثقافة مالطا

مختار إحسان عزيز
يلخّص الباحث "جو ﭬﻴﻼ" Joe Vella في توطئة رسالته مرامي الدراسة في أنّها تحاول الإجابة على جملة من الأسئلة أهمّها: كيف نفسّر كراهية المالطيين في الماضي، وعدم اكتراثهم في الوقت الحاضر، في ما يتصل بالعرب؟ وما هي المصادر التي غذّت تلك الكراهيّة في الماضي، وما هي المصادر التي تغذّي عدم الاكتراث اليوم؟ وإلى أيّ مدى تَمّ استبدال المصادر القديمة بمصادر جديدة؟ وما هي صورة العربيّ المسلم عند المالطيين اليوم؟

وقبل المضي في الإجابة على مختلف جوانب هذه الأسئلة في الفصول التي تتكون منها رسالته يقتبس من كتاب "أساطير أوروبا عن الشرق" قول مؤلفه: «لابدّ من بذل جهد جديّ لمراجعة ورفض كميّة كبيرة من الأفكار الخاطئة الموروثة. لأنّ هذا الإرث كثيراً ما يكون هدّاماً مع استمرار تنشطيه بحياة جديدة تفسد رغبتنا في النظر إلى ما وراءه، إلى العنصر الإنسانيّ العام الذي يجمعنا».

وفي المقدمة الطويلة يقول: "إنّ ماضي وحاضر التفاعلات (المسيحية) المالطية مع المجتمعات العربيّة والتركيّة المسلمة وثقافاتها وإيديولوجيّاتها هي المحور الأساسيّ لهذه الدراسة للغوص في أعماق هذه التفاعلات وإلقاء الضوء الكافي على جوانبها السلبيّة والإيجابيّة معاً".

وممّا ساعد على إبقاء هذا الموروث حيّاً وجود العديد من الأساطير والقصص الشعبي الذي يدعم تلك الصورة عن العرب والمسلمين ويرسّخها في الذاكرة الجماعيّة المالطيّة. وتستند هذه القصص والتقاليد على التهويلات التي رافقت أحداثاً تاريخيّة معيّنة مثل تحطم سفينة القديس بول، وتحوّل مالطا إلى المسيحيّة، وذكرى الكونت روجر النورمانديّ الذي صوّر بأنه البطل الذي نجح في تقويض الحكم العربي الإسلاميّ، وكذلك الغارات التركية التي توجّت بالحصار الكبير سنة 1565، والحكم الطويل لفرسان القديس يوحنا.

أمّا أهمّ الأحداث التي صاغت شخصيّة مالطا الدينيّة فهي حادثة تحطّم سفينة القديس بول قرب مالطا في القرن الأول بعد الميلاد. فهو الحادث الذي أكّد كاثوليكية مالطا بدون انقطاع منذ أيّام الرسل الميسحيّة. والمؤمنون بموثوقيّة هذا الحادث يرون في مالطا بلداً كاثوليكيّاً، أوروبيّاً غربيّاً ويكرهون أيّ تفكير في إضعاف هذه الرابطة أو أيّ تغيير في هذه النظرة "المثاليّة" للجزيرة. ولهذا فهؤلاء يتمسّكون بفكرة مالطا الكاثوليكيّة التي نسجت حولها جملة من الأساطير والتقاليد من بينها تهويل الوضع الذي عانى منه المالطيّون المسيحيّون أيّام الحكم العربيّ، والانقاذ "المرسل من السّماء" على يد الكونت روجر النورمانديّ، و"الدفاع البطوليّ" عن مالطا وأوروبا والحضارة الكاثوليكيّة في الحصار الكبير. وطرد "الملحدين الفرنسيين" أيام الحروب النابوليونية، والدفاع عن "إيطاليّة" الثقافة المالطيّة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ضد الإمبرياليّة البريطانيّة، وتجاه مالطا الكاثوليكية من أهوال الحرب العالمية الثانية وأخيراً الإفلات من توجهات الحكومة العمالية التي كانت تميل إلى الاقتراب من العالم الإسلامي في السبعينات والثمانينات...

ويقول الكاتب إنّه لا يبدو أنّ هناك من شكّ يذكر في أنّ المسيحيّة قدمت إلى مالطا على يد القديس بول. وتقول التقاليد إنّ بوبليوس Publius "رجل الجزيرة الأوّل" قد عُمد من قبل القديس نفسه، وأنّ الكاتدرائيّة المالطية القديمة تقع في مكان قصر بوبليوس. إضافة إلى ذلك تشهد النصب المسيحيّة المالطية والمقابر والضرائح على أنّ المسيحيّة قد انتشرت بشكل كبير بين مختلف الطبقات في مالطا. ومن الممكن تفسير مغالاة المؤرّخين المالطيين في التأكيد على ماضي مالطا "الرسولي" بأنّه آليّة دفاعيّة ضدّ الخوف من أن لا يكون ميراث الجزيرة مسيحيّاً مئة بالمائة. وهذا الظلّ من الشّك لا يزال يحوم حول نظرة المالطيين إلى ماضيهم، ويفسّر النّزعة لمواقف رجعيّة لدى المالطيين إلى اليوم عندما يتعلق الأمر بماضي حضارة مالطا...

وبعد فترة جاء دخول مالطا إلى "دار الإسلام". وعندما فتح العرب مالطا كانت إمبراطوريّتهم تمتد إلى أكثر من نصف العالم المعروف، من إسبانيا إلى أفغانستان. وكانت منطقة البحر المتوسط منقسمة سياسياً وثقافياً ودينياً ولغوياً إلى قسمين: قسم ينتمي إلى العالم الهلينيّ الرومانيّ المسيحيّ والقسم الآخر إلى العالم العربيّ ــــ الإسلاميّ.

وقد غزا المسلمون صقلية قبل سنة 700 ميلاديّة، وبعد استيلائهم على باليرمو سنة 831 م، بدأ غزوهم لمالطا ولا يعرف إلا القليل من وقائع استيلاء العرب واستقرارهم سنة 831 م بالجزيرة المالطيّة. فلم تبقَ أيّ وثائق مهمّة بذلك، بل إنّ تاريخ استيلاء العرب على مالطا لا يزال غير محدّد على وجه الدّقة.

ويقول الكاتب إن الدوافع العسكرية وحدها هي التي دفعت العرب إلى الاستيلاء على مالطا. فقد كانت الجزيرة مهمّة لضمان حرية ملاحتهم في الخطوط البحريّة بين صقلية وممتلكاتهم في شمال أفريقيا. ومن الممكن اعتبار اختيارهم لسانت أنجلو كدليل على تفوّقهم وولعهم ببناء التّحصينات. وكان هؤلاء العرب الذين قدموا إلى مالطا من الأغالبة أحفاد إبراهيم بن الأغلب، حيث أرسل محمد الثاني أبو الغرانيق أسطوله بقيادة أحمد بن الأغلب الملقب "بحبشيّ" لاحتلال مالطا.

وكان ملك مالطا إبان الفترة العربيّة يُدعى "بالأمير" وهو في أغلب الاحتمالات كان حاكماً لصقلية في نفس الوقت. وكانت الإدارة للأعمال اليوميّة بيد "القاضي" أو "القائد" والقانون والأمن بيد صاحب الشرطة.

وخلال الحكم العربيّ كانت الغالبية من سكّان جوزو مسيحيّة بينما كان المسيحيّون أقليّة في جزيرة مالطا.

ويشير القزويني إلى شعراء مالطيين ممن كتبوا باللغة العربية. ولا تزال جملة من الأشعار القصيرة لشعراء مالطيين باللغة العربيّة مجموعة في ديوان شعر عربيّ في صقلية.

ومن المعترف به عموماً من جانب اللغويين اليوم أنّ اللغة المالطية مشتقّة من اللغة العربية مع وجود عناصر بونيقيّة. ومن المعلوم أنّ العرب الذين جاءوا بشكل أساسيّ من صقلية كانوا يتحدّثون لهجة عربيّة مطابقة للهجة العربيّة التونسيّة.

ومع حلول سنة 1048 م إن لم يكن قبل ذلك أصبحت مالطا إسلامية بكاملها. وفي ذلك الوقت كان المسلمون يحكمون إسبانيا وجنوب إيطاليا وشمال إفريقيا والشرق الأدنى. وكانت السفن الإسلامية تتحكّم تماماً في البحر المتوسّط. وكانت الثقافة الإسلاميّة في قمّة مجدها، بينما الممالك الأوروبيّة كانت تتناحر في ما بينها وكانت عصور الظلام تشمل معظم أوروبا بسوادها.

واستمرّ الحكم العربي أكثر من قرنين من الزمان إلى أن تَمّ وقفه من قبل الكونت روجر النورمانديّ الذي احتلّ مالطا سنة 1091 م... ويصف المؤرخ مالاتيرا "Malaterra" كيف أنّ العبيد المسيحيين استقبلوا الكونت روجر بحفاوة بالغة، وكانت أعدادهم كبيرة بحيث لم تستوعبهم السفن الكثيرة إلا بصعوبة....

ومع أنّ بعض المؤرّخين يبالغون في وصف إنجازات الكونت روجر ويرفعونها إلى مصاف الأساطير، إلا أنّ المؤرّخ بورثولو "Bortholo"، يقول إنّ هذه الأسطورة مبالغ فيها بشكل كبير ودخلتها الكثير من التحريفات للحقائق.

ويعزو المؤلف الأساطير المنسوبة إلى هذه الفترة إلى نفوذ كتابات ج. ف. أبيلا G.F. ABELLA الذي كان في أثناء سرده للوقائع التاريخيّة يفسح المجال لتعصّبه ولا يخفي إعجابه بوصول النورمانديين.

وبدون شك بقيت مالطا مسلمة إلى حدّ كبير إلى أيّام فريدريك الثاني الذي طرد المسلمين من مالطا سنة 1240 م. ولم يكن الغزو النورمانديّ لمالطا احتلالاً دائماً. بل إنّ النورمانديين أعادوا غزو مالطا سنة 1127 م وبعد سبعين سنة منذ توحيد الملك روجر للجزر المالطيّة وضمّها إلى التاج الصقليّ، انتقلت ملكيّة مالطا إلى الأيادي الألمانيّة سنة 1199 م.

وتحت عنوان "المسلمون والمسيحيّون في تعايش سلميّ" يقول الكاتب إنه بالرغم من أن عمل ابن حوقل لا يعتبر مصدراً يعتمد عليه في ما يتعلّق بتاريخ مالطا في القرن العاشر الميلاديّ إلا أنّه يُمثل واحداً من الآثار القليلة الباقية التي تحدّثت عن تلك الحقبة من تاريخ مالطا. ووفقاً لابن حوقل كانت هذه الجزيرة تنتج العسل، والضأن، والحمير، ويعيش فيها مجتمع يكثر فيه زواج المسلمين من النساء المسيحيّات.

وعن العلاقات بين العرب والمالطيين يقول الحميريّ إنّ المالطيين لم يرضوا في بادئ الأمر بالحياة تحت الحكم العربيّ، خاصّة بسبب أنّ هؤلاء العرب كانوا يدينون بعقيدة مختلفة. ومن الناحية الأخرى، إذا ما صدقت أقوال الحميريّ، انتشر المسلمون في الجزيرة مع حلول سنة 1048. وكان سكّان الجزيرة منقسمين إلى أحرار وعبيد. ولم يكن هناك ذكر لمصطلحيّ "أهل الذمّة" أو "أهل الكتاب". ولا بدّ أن يكون العبيد كانوا يشملون أولئك الذين أحضروا من صقلية إلى مالطا، بالإضافة إلى السكّان الذين انحدروا من الأصول المسيحيّة قبل الحكم العربيّ، وهؤلاء جميعاً ربّما تَمّ إدراجهم في مراتب العبيد، وكان عدد هؤلاء يفوق عدد الأحرار.

وبناء على هذا السرد يمكن تفسير غياب أي آثار إسلامية تذكر خارج "مدينة" و"الرباط". ويقول الكاتب إنه لا يمكن إنكار أنّ الميراث المسيحيّ قد لحق به ضرر لا يعوض في بداية الحكم العربيّ لمالطا. فالعرب شرعوا فوراً في بناء جامع على أنقاض الكنيسة البزنطيّة في تاسيلج Tas-Silg. وعندما تَمّ الحفر في أساس أحد المباني الرومانيّة قرب مدينة اكتشفت مقبرة إسلاميّة بالموقع. ولا يوجد أيّ دليل أثريّ أو تاريخيّ على بقاء المسيحية أثناء قرنين من الحكم الإسلامي. وفي المقابل ليس هناك دليل أيضاً على أنّ "أسلمة" الأرخبيل قد قضت على كلّ شكل من أشكال العقيدة المسيحيّة.

ويبدو أنّ السكّان بقوا مسلمين إلى القرن الثالث عشر عندما غيّر الكثيرون دينهم وإن أبقوا على لغتهم.

وقد كان هناك شيء من التسامح مع الإسلام في مالطا كما في صقلية.

ولا يعرف إلا القليل عن حقيقة عملية "تمسيح" الجزر المالطيّة، ولكن من المستحيل تصديق أنه إلى غاية سنة 1240 م لم تكن هناك في مالطا سوى 47 أسرة مسيحيّة كما يقول تقرير جيلبيرتو آباتي Gilberto Abate. ومع ذلك من المؤكّد أنّ القانون الإسلاميّ لم يُلغ بالكامل حتى سنة 1249 على يد الإمبراطور فريدريك الثاني الذي يقول عنه ابن خلدون إنّه هو الذي طرد المسلمين المالطيين إلى المنفى. ومن لم يُطرد من المسلمين قبل التعميد المسيحيّ، ولو بشكل رسميّ فقط. ومع منتصف القرن الثالث عشر الميلادي أصبحت المسيحيّة مرّة أخرى هي الدين الرسميّ لجميع سكّان الجزيرة.

واتجهت أنظار مالطا ما بعد الإسلام إلى أوروبا المسيحيّة اللاتينيّة. وفي فترة الانتقال هذه كان حكّام الجزيرة الجدد ليبراليين، فلم يقوموا بتدمير عادات وتقاليد البلاد، ولم يتدخلوا في معتقداتهم الدينية أو يفرضوا الحدّ من استعمالهم للغتهم إلا في المراسلات الرسميّة.

ثم وقعت مالطا تحت حكم ألد أعداء الإسلام فرسان القديس يوحنا. وكان الفرسان قد طردوا من رودس وبقوا بدون مأوى لمدّة ثماني سنوات إلى أن منحهم ملك إسبانيا تشارلز الخامس مأوى جديداً في الأرخبيل المالطيّ. وكان العداء المستحكم بين الفرسان والأتراك قد استمرّ ما يقرب من مائتي سنة. ومنذ وجودهم في رودس كان الفرسان يخوضون معارك لا تتوقف مع الأتراك. وبسبب عدم قدرتهم على إحراز أيّة نجاحات على اليابسة ضد الأتراك تحول الفرسان إلى رجال بحريّة من الدرجة الأولى لم يشهد البحر المتوسط مثلهم في الشراسة والقدرة. ونجحوا في إبقاء الأتراك العثمانيين لمدة قرنين من الزمان بعيداً في شرق المتوسط.

وأعطى الأرخبيل المالطي للفرسان موقعاً استراتيجيّاً لم يكن متاحاً لهم في رودس. فمن مالطا كانوا أكثر إزعاجاً للسلطان العثمانيّ، حيث نجحوا في زعزعة التجارة البحريّة بشكل مؤثّر. ولهذا زادت أهميّة مالطا بالنسبة للسلطان كموقع مهمّ في البحر المتوسط يمكن أن يسهل عليه مهمّة نقل جنوده بغرض احتلال صقلية وتوسيع مجال فتوحاته إلى بقيّة أوروبا.

وعندما قدم الفرسان إلى مالطا رأوا أنّهم يجب أن يحتلّوا جوزو، بالرغم من ضعف قدراتهم الدفاعية، لكي يمنعوا العدو من النّزول هناك قريباً من مالطا. ومنذ البداية وحتى الستينات من القرن السادس عشر كان المالطيون يكرهون الفرسان ويعتبرونهم سراقاً لثرواتهم مثلهم مثل الذين سبقوهم.

وفي سنة 1550 هزم الفرسان "القرصان" المشهور درغوت المعروف بسيف الإسلام الذي عاد في السنة التالية ليثأر لنفسه ويطرد الفرسان من آخر مواقعهم في طرابلس. وكانت الفترة التي حكم فيها الفرسان طرابلس (1530-1551) قد تميّزت بسلسلة من الغارات التي لم تنقطع في البحر والبر، الاشتباكات بين أساطيل الفرسان والعثمانيين. وكان أسطول الفرسان يعمل بالتعاون مع الوحدات البحرية الملكية والبابوية والجنوية والفينيسية. وخلال هذه السنوات كان الفرسان يشكون من المهمة الهائلة التي ألقيت على عاتقهم نتيجة قبولهم حكم طرابلس....

وتظهر بعض الوثائق التي لم تنشر من الأرشيف المالطي أن فرسان مالطا حاولوا خلال هذه السنوات مرات عديدة إعادة احتلال طرابلس. وتمت محاولات أخرى في هذا المضمار بين 1589-1590 وكذلك سنة 1600 ولكن هذه المحاولات فشلت كلها وبقيت خطة "لافاليت" في جعل طرابلس المقر الأساسي للفرسان مجرد حلم...

كان موقف الفرسان إزاء المسلمين واضحاً: يخرج أسطولهم مرتين أو ثلاث مرات بهدف الاصطياد والتدمير، أما الهواة من المالطيين فقد كانوا هم أيضاً يعدون سفنهم ويرسلونها لمهاجمة جميع أنواع السفن الإسلامية. وبالفعل نجح القراصنة المالطيون إلى حد بعيد في إلحاق الضرر بالملاحة الإسلامية لدرجة أن الباب العالي اضطر إلى الضغط على فرنسا بشتى الوسائل لإقناع الفرسان بكبح جماح رعاياهم المالطيين.

الحصار الكبير

يفرد الكاتب عدد صفحات لسرد وقائع "الحصار الكبير" الذي وصفه بأنه أحد أهم الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ لأنه أوقف التسلل العثماني إلى أوربا المسيحية. ويقول أنه كما أوقف تشارل مارتل تقدم المسلمين في أوربا عن طريق البر كذلك أو قفت مالطا تقدمهم عن طريق البحر وأصبح ينظر إلى الفرسان على أنهم المنقذون للعقيدة المسيحية...

العلاقات المالطية - العربية

ومن الممكن الاستنتاج ممّا سبق أن بلدان شمال أفريقيا كانت لها روابط مع مالطا متينة ومثمرة منحت مالطا فرصاً جيدة للعمل وازدهار التجارة لم تكن لتتوفر للمالطيين داخل الجزيرة، ويمكن للمهاجرين العائدين من هذه البلدان الاستفادة من خبراتهم هناك في توسيع مداركهم وآفاق تفكيرهم من أجل إعادة النظر في انحيازهم الأوروبيّ ضد "الآخر" الإسلاميّ.

يستعرض الكاتب تاريخ مالطا المعاصر أي منذ استقلالها في 21 سبتمبر 1964، ويتناول بشيء من التفصيل مدى نفوذ الكنيسة السياسيّ، وبروز ظاهرة "مينتوف"، وما رافق ذلك من صدام وانقسام في المجتمع المالطيّ. ثم يفصّل في العلاقات الليبية - المالطية تحت إدارة مينتوف. فيقول «إن الإدارة العمالية وجدت نفسها في أزمة اقتصاديّة خانقة سنة 1971 واتجهت إلى ليبيا للمساعدة». ومنذ ذلك الوقت احتفظت مالطا بعلاقة حميمة مع ليبيا ثمّ مع بعض البلدان العربيّة الأخرى. وكانت استراتيجية مينتوف تتلخص في رؤيته بأنّ الصّداقة مع العرب هي الضامن الأكيد للازدهار الاقتصاديّ على الأقلّ في المستقبل المنظور. فهو كان يرى أنّ "الشرق الأوسط" كله مفتوح لكلّ ما يمكن أن تقدّمه مالطا - وكان يؤكّد على موقع مالطا المثاليّ كقاعدة للملاحة المباشرة إلى شمال أفريقيا والشرق الأوسط. وفي هذا السياق كان مينتوف حريصاً على الإشارة إلى أنّ علاقاته مع الزعماء العرب كانت جيّدة حتّى قبل أن يعطيهم النفط المكانة المرموقة التي اكتسبوها في ما بعد.

ومن المشاكل التي رافقت التقارب المالطي الإسلامي برزت مشكلة الزيجات المختلطة بين الكاثوليك والمسلمين. فمع نجاح مينتوف في ربط العلاقات مع العرب ازدهرت العلاقات الاجتماعيّة والعاطفيّة بين الجانبين وقامت إدارة مينتوف بإصدار تشريعات جديدة تتعلق بالزيجات تسمح بالزيجات المدنية في مالطا. وفي سنة 1989 قامت حكومة فينيك آدامي بإصدار المزيد من التشريعات التي تسهل الزيجات المختلطة. وتكمن المشكلة في هذا المضمار في الفوارق في طبيعة أسس الزواج الكاثوليكيّة والإسلامية وأهمّها مسألة تعدّد الزوجات المسموح به في الدين الإسلاميّ والممنوع تماماً في العقيدة الكاثوليكيّة. ويشير الكاتب في هذا الخصوص إلى عدد من المشاكل من واقع ملفات المحاكم المالطيّة.

ويُشير الكاتب إلى أن أحد نتائج التقارب مع العالم الإسلامي كان إنشاء فرع لجمعيّة الدعوة الإسلامية العالمية بمالطا الذي قام في سنة 1978 ببناء مسجد للجالية الإسلاميّة بمالطا. وممّا ساعد على خلق المناخ المناسب بمثل هذا الإنجاز إعلان مالطا جمهورية مستقلة في 13 ديسمبر 1974، ومع النص بوضوح في أحد مواد الإعلان بأن العقيدة الكاثوليكية الرومانية هي الدين الوطنيّ للبلاد إلا أنّه نُص كذلك على حريّة الضمير والسماح بممارسة الأديان الأخرى.

وفي سنة 1975 تقدمت جمعية الدعوة الإسلامية العالمية بطلب للحصول على قطعة أرض بغرض بناء مركز إسلامي ووافقت الحكومة المالطية مباشرة على ذلك لحرصها عن تحسين العلاقات مع العالم العربي. وتَمّ بناء المركز خلال ثلاث سنوات.

وبالرغم من التحفّظ العدائيّ الذي أظهره البعض، وافقت الكنيسة الكاثوليكية على بناء المركز الإسلاميّ بروح مجلس الفاتيكان الثانيّ، وبهذا نشأت أولى بوادر التقارب الإسلاميّ المسيحيّ، حيث قام كبار مسؤولي الكنيسة بزيارة المركز، وأصبحت اللقاءات بين ممثلي الكنيسة والمسلمين كثيرة الحدوث على أساس من الصداقة والاحترام المتبادل.

وقد سعت جمعية الدعوة الإسلامية العالمية بكلّ جديّة إلى التغلب على روح الشكّ والتعصّب الذي ساد في مالطا طويلاً نحو الإسلام والمسلمين. وعن طريق مطبوعة "الحوار" حرص المركز الإسلاميّ على بناء جسور التفاهم بدلاً من العنصرية والكراهيّة التي كانت سائدة.

وفي لقاء مع المونسينيور أنتون جاوتشي Anton Gauci لم ينكر الأخير أن المالطيين كانوا يكنون الكثير من التعصّب ضدّ الإسلام، وقال إن هذا يمكن عزوه إلى الأحداث التاريخية وليس فقط غلى الفوارق الدينيّة، وأضاف إنّ الأمر تغيّر جذريّاً اليوم....

المصدر: التاريخ العربي

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك