الدراسات العربية في هولندا في القرن التاسع عشر

عبد الحميد صبحي ناصف
«كلّ حقبة تكتب تاريخها، ونحن إذ نهتدي برغبة عمليّة ونستهدف غرضاً عمليّاً نلتمس من التاريخ العِبَر»، هذا ما قال دوزي في محاضرته الافتتاحية عام 1850 بوصفه أستاذاً للتاريخ في جامعة لندن، تلك المحاضرة التي كان موضوعها «الأثر المؤاتي الذي أحدثته الثورة في فرنسا منذ 1789 في دراسة تاريخ العصور الوسطى». وقد تحدّث دوزي باللغة الهولنديّة وليس باللاتينية، ممّا أغضب أمناء الجامعة. وقال عن الاهتمام المعاصر بالتاريخ الشرقيّ: «ما أكثر المؤرّخين الذين تحقّق كتبهم وتترجم، فمن كتاباتهم هم أنفسهم يكشف لنا أعداء الصليبين إنهم أولئك القوم الذين تفوّقوا بالعلم تفوّقاً عظيماً على معاصريهم وأثروا قوياً في حضارة الأمم الأوروبيّة. إذ أزالت التجارة والعلم في كثير من الأحيان حواجز الدين والكراهية. ذلك أنّ تاريخ الشرق وإسبانيا وإيطاليا وتاريخ روسيا ورحلات النورمان وحملاتهم وتطوّر التجارة والفنون والعلوم - زادت كتب العرب من بصرنا به. ثمّ أنّ دوزي أدرك جيّداً أنّ الاهتمام بتاريخ مصر وتاريخ شمال إفريقيا يتّصل بحملة نابليون.

وأمّا بخصوص دوزي فقد لقبه شكيب أرسلان في كتابه «الحلل السندسيّة» بلقب «مؤرّخ إسبانيا الجليل العلامة شيخ المستشرقين»

وقد نشر هاما كر(1789 - 1835 ) وصف المقريزي لحصار دمياط، وكتاب فتوح مصر والإسكندرية، الذي نسب خطأ إلى الواقدي وبدأ من جديد وصف مجموعة المخطوطات المحفوظة في مكتبة جامعة لندن؛ وقد انتهى عمله هذا بصدور المجلدات الستة من «فهرس المخطوطات الشرقيّة في مكتبة جامعة لندن»، بعناية دوزي ودو يونغ ودو خويه وهاو تسما. واشتغل هاما كر أيضاً بفقه اللغات الفينيقيّة والسامريّة والسنسكريتيّة واليونانيّة والرومانيّة، وأحيا تلميذه أويلنبروك العالم بالرياضيات والعلم الطبيعي والفلك الاهتمام المأثور بالكتب الجغرافية العربية، وذلك بنشره وصف ابن حوقل لبلاد فارس.

ثم حدث من بعد أن حقق دو خويه كتاب ابن حوقل في نشره لمكتبة الجغرافيين العرب، وجاء بعده كرامرس فنشر كتاب «صورة الأرض». أمّا وايراس، وهو تلميذ آخر من تلاميذ هاما كر وخليفته في لندن، فلم يطل به العمر حتى ينتهي من دراسته لابن زيدون. وقد أختار واحداً من هؤلاء التلاميذ، ونعني به "هوخفليت" فقرات من الكتاب العربي عن الدولة الأفسطية، وعن ابن عبدون، موضوعات لرسالته الجامعيّة، واختار تلميذ آخر هو "مورسنجة" تحقيق كتاب طبقات المفسّرين للسيوطي. وكان يونبول، تلميذ هاما كر أيضاً، قد صرف همّه، بصفة خاصّة، إلى الكتب السامريّة والعربيّة. وقد عمد إلى تحقيق المتنبي في المجلد الأوّل من مجلة «أوريانتاليا»، وبدأ نشر مختصر معجم ياقوت، وهو «مراصد الإطلاع»، وكتاب ابن تغري بردي «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، بالتعاون مع الآخرين.

وكان أعظم تلاميذ "وايرس" موهبة، هو بلا شكّ، دوزي الذي قدّر له أن يُحيي الدراسات العربيّة على يد الهولنديين إحياء بارعاً. فقد كتب على منوال أستاذه رسالة جامعيّة، تضمّ منتخبات من كتابي الفتح بن خاقان «مطمح الأنفس» «وقلائد العقيان»، وهما يتناولان الدولة العباديّة في إشبيلية. وقد طبعت نصوص هذه الرسالة ما بين سنتي 1846 – 1863. وكان دوزي قد منح عام 1843، أي قبل تقديم رسالته الجامعيّة جائزة المعهد الملكيّ على تصنيفه «المعجم المفصّل بأسماء الملابس عند العرب»، وهناك كتابه المهمّ «ملحق وتكملة القواميس العربية»، وهذا المعجم استغرق الانشغال به عمره كلّه.

وقد أسف إبراهيم اليازجي لافتقار دوزي إلى المعرفة الشخصيّة بالشّرق المعاصر، ومع ذلك فقد كتب أنّ معجمه هذا «جدير بأن يدخل في عداد أشرف كنوز الأدب، وأنّ صاحبه جدير بالثناء ما بقي عربي ينطق بالضّادّ». ومن كتبه الأخرى في علم تصنيف المعاجم «مشرقيّات»، وتتبع فيه الأصول الشرقيّة لعدد من الألفاظ الهولنديّة، وطبعته الثانية لكتاب إنجلمان «معجم الألفاظ الأسبانيّة والبرتغاليّة المقتبسة من العربيّة». ومع ذلك، فقد كان المطمح الأسمى لدوزي هو كتابة التاريخ. ولمّا كانت المصادر لم تطبع معظمها، أو قل إنّها كانت مجهولة فإنّه أخذ على نفسه سدّ هذه الحاجة. وقد حدث في غوتا في ألمانيا أن عثر على الجزء الثالث من «ذخيرة» ابن بسام، ما أتاح له أن يراجع الرأي الذي كان سائداً وقتذاك عن «السيد القمبياطور». وكان من أهمّ الصفحات في أعماله «أبحاث التاريخ السياسيّ والأدبيّ لأسبانيا في العصور الوسطى». وفي هذا البحث جمع دوزي المصادر والدراسات التمهيديّة التي لم تدخل في كتابه الكبير في التاريخ الأندلسيّ، ونشر على فترات قصيرة ترجمة مع التعليق لكتاب «ذكر الدولة الزيانيّة العبد الواديّة بتلمسان» في المجلة الآسيوية. و«شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون» وكتاب «المعجب في تلخيص أخبار المغرب». كما نشر الجزء الأول من «البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذارى المراكشيّ»، واختلطت به قطع من تاريخ عريب، وكذلك مصنف عريب الآخر «كتاب الأنواء»، وهو «تقويم قرطبة عن 916». كما نشر مختارات من كتاب ابن الأبار «الحلّة السيراء». وقد أتاح له كرسي التاريخ الذي شغله منذ عام 1850 الحريّة الكاملة في تحقيق الخطط التي رسمها، وفي مقدّمتها جميعاً تصنيفه لكتابه الرائد في «تاريخ مسلمي إسبانيا». هذا وقد أسبغت الحكومة الأسبانيّة عليه آيات التشريف والتكريم، فقد ترجم كتاب «تاريخ مسلمي إسبانيا» إلى الألمانيّة والإسبانيّة والإنكليزيّة، وكان كامل الكيلاني قد ترجم منه للعربية المجلّد الأخير وعنوانه «ملوك الطوائف».

ودوزي محقّق النصوص آنس تلميذاً مخلصاً في شخص دي غويه، فقد اشتركا معاً في تحقيق «صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس»، المأخوذة من كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» للشريف الإدريسيّ، وأعدّ تحقيقاً لـ «أساس البلاغة» للزمخشريّ، وظلّ دوزي دائباً على التحقيق حتّى نهاية حياته. وكان من المقدّر أن يرأس المؤتمر الدولي للمستشرقين في لندن عام 1883 ولكن «العبد الفقير إلى رحمة ربّه»، وهو اللقب الذي نعت به نفسه مرّة أدركته المنية قبل أن ينعقد المؤتمر.

ويبرز اسم دي غوية أو «دي خوية» 1836 - 1909 في تاريخ الدراسات العربية في هولندا فقيهاً لغويّاً بمعنى الكلمة. فعلى حين كان دوزي قد فتح آفاقاً فسيحة في دراساته التي بدت للقارئ في كثير من الأحيان كأنّها الطنافس الحافلة بالألوان - فإنّ رسائل دي خوية مثل «مذكرات في تاريخ الشرق وجغرافيّته» (1862 – 1864) كانت في معظمها مقالات وعروضاً متواضعة دقيقة، ولكنّها في مجموعها جميلة جمال عقد اللآلئ. وقد تمرّس بفقه اللغتين اليونانية واللاتينية وخبر طرائقه في نقد النصوص. وتقوم شهرته على أساس ركين من سلسلة قيمة في تحقيق النصوص». وقد أصبح وسيظلّ في هذا الميدان أستاذ جميع المستشرقين في زمانه. ولذلك سببان: الأول والأهمّ هو إيمانه بضرورة إثبات وتوفير خير النسخ الممكنة للمصادر الأصليّة واتّخاذها أساساً لكلّ دراسة دقيقة. ذلك أنّ سجلّ الكشف عن التاريخ والأدب الشرقيّ - يحفل بالأخطاء غير المحرّرة، والاستنتاجات الزائفة، والتعميمات المستعجلة غير الناضجة. وفي هذا الميدان يجب ألا تشتدّ في لوم كتّاب هذا التاريخ، لأنّه لم يتوافر لهم من النّصوص إلا القليل المعيب. على أنّ دي خوية قد أحسّ بأنّ التخطيط لأيّ صرح في هذا السبيل وإقامته، ينبغي أن يسبقه توفير مادّة أفضل ممّا كان ميسوراً؛ ومن ثمّ كرس لذلك نشاطه في أدوار حياته كلّها، كما قال ليال. فقد شغل نفسه معظم وقته بالنصوص الجغرافيّة والتاريخيّة علاوة على نشره ديوان مسلم بن الوليد «صريع الغواني»(1875)، و«كتاب الشّعر والشّعراء» لابن قتيبة (1904). وفائدة مثل هذه الطبعات لدارسي العربية لا تكاد تقدّر؛ ذلك أن النصوص إنّما كانت تتيسّر للقادرين على الرحلة فحسب، ينتقلون من مكتبة إلى مكتبة لمراجعة المخطوطات. وفي المجلدات الثمانية من «مكتبة الجغرافيين العرب» (1870 – 1894) التي نشرها دي خوية فإنّه قد يسّر للقرّاء أهمّ المصادر الجغرافيّة في العصر العبّاسيّ، ونعني بها: الإصطخريّ، وابن حوقل، والمقدسيّ، وابن الفقيه الهمذاني، وابن خرداذبه، وقدامة بن جعفر، وابن رسته، واليعقوبيّ والمسعوديّ. ونشر في باب التاريخ «فتوح البلدان» للبلاذري (1866)؛ كما نشر في (أشتات المؤرّخين العرب) (1869 – 1871) أجزاء من كتاب «العيون والحدائق في أخبار الحقائق» (بالتعاون مع ب . دي يونغ الذي حقّق «كتاب الأنساب المتّفقة في الخطّ» لابن القيسراني (1865) و(لطائف المعارف) للثعالبيّ (1867) و«المتشبه» و«تجارب الأمم» لمسكويه؛ وأهمّ من ذلك كلّه إشرافه على الطبعة المشهورة لتاريخ الطبري (1879 – 1901)، وهي الطبعة التي استطاع بموهبته في التنظيم، وبفضل جهود حشد من العلماء الأوروبيين المتعاونين من أن يتمّها.

وقد ساق دي خوية في مقدّمته اللاتينيّة الطويلة لهذه الطبعة بياناً مفصّلاً بأشتات المخطوطات التي استوجب الأمر الاعتماد عليها في طبعة ليدن لهذا التاريخ، ومقارنة هذه المخطوطات بعضها ببعض؛ ذلك أنّه لم يتوفّر لأيّة مكتبة نسخة كاملة مخطوطة منه.

أجل، لقد كان تاريخ اكتشاف هذه المخطوطات التي أدّت في النهاية إلى حلّ هذه المعضلة شيئاً رائعاً حتّى قيل في ذلك: «إنّ أيّ امرئ يزعم أنّ هذا العمل تاج يكلّل هامة الدراسات العربيّة في القرن التاسع عشر لا يستطيع أحد أن ينكر ما يزعمه».

وكان دي خوية مستعداً دائماً لمساعدة الآخرين «من دون أن يتألق، ومع أنّه لم يكن يسترعي الانتباه، فإنّ محيّاه كان يشرق بنور لطيف ناصع وحرارة محبّبة نبيلة، حتّى لقد حبّب إلينا أن نلتف حوله».

وقد وصف محمد أمين فكي كيف لقيه دي خوية، هو وأبوه ورجلان من الأزهر، في ليدن، «لقاء الأصدقاء القدماء». وشهد دوزي بدينه له في مقدمة تكملته للقواميس العربيّة. راجع دي خوية كتاب «النحو العربي» لرايت، وأتمّ طبعته لكتاب «الكامل» للمبرد؛ كما أصدر طبعة ثانية لطبعته الأولى لـ «رحلة ابن جبير الأندلسيّ»؛ وكذلك طبع تحقيق فان فلوتن «ثلاث رسائل» للجاحظ. ولم يكتف دي خوية بمعاونة زملائه العلماء، بل أيضاً عاونهم بوصفه مفتشاً للتعليم وعضواً ليبراليّاً في مجلس ليدن، وذلك في ميدان الخدمة العامة.

وفي مؤتمر المستشرقين الذي عقد في ليدن عام 1883، قرئ بحث دوزي في ديانة الحرّانين، وتكلّم كما جاء في رواية أمين المدنيّ الزائر العربيّ في المؤتمر - عن الفلاسفة والأطباء العرب، وقد روى أمين المدني أنّ دي خوية «ذكر نحواً من خمسين من هؤلاء بأشخاصهم؛ كما نوّه بفضائلهم ونقاء أفكارهم، فلمّا جلس قوبل بتصفيق شديد تأميناً على ما قال». والتفت أمين إلى مسيو أوبرت الفرنسي، وطلب منه أن يبلغ تحياته لمسيو رينان في باريس كما يبلغه أن حديث دي خوية يعدّ ردّاً كافياً جدّاً عليه (ويومئ أمين هنا إلى محاضرة رينان عن الإسلام والعلم). وما كان دي خوية يقصد بحديثه الردّ على نظرية رينان، غير أنّ موقفه من الحضارة الإسلاميّة كان على وجه اليقين أكثر إيجابية من موقف رينان أو موقف دوزي.

المصدر: الحياة.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك