الدين في معركة التغريب والتبعية والثقافة

لم يتعرض فرع من فروع الفكر العربي لغزو الثقافي كما تعرض (الدين) ذلك لان الدين كان ولا يزال ففي العالم العربي وفي الشرق دعامة هامة من دعامات الثقافة ومقوما من مقومات الأمة العربية الإسلامية، وعنصرا حيا ايجابيا غير منفصل من عناصر السياسة والاجتماع والاقتصاد.
ولقد كان الاستعمار يعرف خطر(الدين) وأثره في الحياة العربية ومدى أثره في الإيمان بالحرية ومقاومة الغاصب وإنماء القوة وحراسة الثغور، ولما كانت هذه العوالم من اخطر الأخطار على بقاء الاستعمار فقد كانت خطته في القضاء على مصدر هذه القوة: وهو الدين والغة والتاريخ، وكان الدين أهمها وقد خطته في مقاومة الدين على نحو دقيق خفي يسري في معالم الفكر والحياة سريانا بطيئا حاسما في المفاهيم المختلفة.
وقد امتدت هذه الخطة فشملت الثقافة والصحافة والتعليم والترجمة والبعثات الأجنبية ومفاهيم الاجتماع وتحيري المرأة، من اجل هذا انطلقت دعوات الاستشراف والتبشير، وظهرت مجموعات من دعاة التغريب، ولما كان دين الغالبية في العالم العربي هو الإسلام، فقد كانت الحملة كلها قد ركزت عليه باعتباره مصدر الثقافة والفكر والتراث المشترك.
ولقد استهدف الغزو الثقافي إلى محاربة الإسلام القضاء على روحه القوية في مجال الحياة والفكر حتى تنطوي قوته وفعاليته في مجال مقاومة الاستعمار.
وكان التعصب الديني واضحا في هذه الحرب التي صدرت عن حقد بالغ وخصومة عنيفة ولم تصطنع في أي جانب من جوانبها«المنهج العلمي» الذي ابتدعه الغرب وأقام على أساسه أبحاثه ونتائجه.
وكان ابرز الأخطاء التي طبقها الغرب في الحديث عن(الإسلام) انه لم يحاول أن يفرق بين المسيحية والإسلام في مفاهيمها ومقوماتها، ولذلك حمل في الحرب على الإسلام نفس المعاول التي حملها في محاربة المسيحية إبان عصر النهضة بغية إقصائها عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بعدان تبين للغرب جمودها وعجزها عن مسايرة التطور، وبعد أن نفذت أساليب الكنيسة وظهرت أخطاء رجال الدين في تسلطهم واستبدادهم وجمودهم ووقوفهم في وجه الحرية وغلوهم في التعصب وبعدهم عن التطور.
ولقد كان(الإسلام) مختلفا اشد الاختلاف عن المسيحية في هذه الناحية، فان الإسلام لم يكن دينا فحسبن ولكنه دين ونظام اجتماعي واقتصادي وسياسي كامل، ولقد كان الإسلام متطورا دائما وقادرا على الاستجابة للحضارة وللزمن وللبيئات المختلفة، وقد دخل هذه التجربة من قبل، ولم يكن للإسلام كهنوت له صفة السيطرة والتحكم في الناس والوساطة بينهم وبين الخالق.
ولذلك فان المقارنة بين المسيحية والإسلام من هذه الناحية باطلة، كما أن محاولة إخضاع الإسلام كذين ونظام لما خضعت له المسحية- التي هي دين فحسب- ليس من الحق في شيء، ولكن التعصب وشهوة الحقد الأعمى، والرغبة في القضاء على روح الدين، وتنحية الإسلام عن ثبوته في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية حالت بين دعاة التغريب والغزو الثقافي وبين كشف هذه الحقائق.
ولم يستطع إتباع المستشرقين والمبشرين من مفكرينا التعرف إلى هذه الفوارق، لأنهم اتصلوا بالفكر الغربي قبل أن يستكملوا مفاهيمهم في الفكر العربي ومقوماته.
وإذا كان الإسلام في هذه الفترة التي بدا فيها الغزو الثقافي مغمز، فإنما كان في تطبيقه لا في مقوماته وأصوله هذه المقومات والأصول التي ظلت طوال القرون ضياءا هاديا وقوة حية، فان انصراف المسلمين عن مفاهيم الإسلام وضعف الحكومات، وسيطرة الأتراك العثمانيين أربعمائة والتخلف في ميادين الحرب والسياسة، والانصراف عن القوة والمقاومة، قد احل عصرا من الضعف والركود والتواكل والقوقعة وفرض سلطان الحكام المستبدين والعلماء الجامدين الذين أغلقوا باب الاجتهاد ووقفوا عند التقليد، مما خلق غشاء رقيقا من الأوهام والبدع والخرافات التي حاولت أن تحجب جوهر الإسلام ونقاءه وتحجره وراء طبقة كثيفة من هذه الزيوف.
غير انه لم يخل جيل من مصلح ينبري ليكشف هذه الزيوف، ويدعو إلى الإسلام المصفى، ويحال أن يعود بالناس إلى بساطة الإسلام الأول ويسره وحقيقته الكامنة المختفية.
وقد كانت دعوة محمد بن عبد الوهاب في أواخر القرن السابع عشر الميلادي هي نقطة الانطلاق في تحرير الإسلام من زيوف القرون الثلاثة التي فرضها الحكم العثماني الجامد الذي انتهى إلى الضعف والفساد، بينما بدأت أوربا تستيقظ وتنقل آثار العرب وتترجمها وتكون حضارتها وثقافتها الجديدة، وتنبه على دورها في القضاء على الإسلام والسيطرة على الشرق في محاولة للانتقام من هزيمة الحروب الصليبية، وخشية من اتساع نطاق الإسلام وتطويقه لأوربا عن طريق تركيا العثمانية التي وصلت إلى أسوار (فيينا) وبعدان توقفت من الجانب الآخر عن طريق الأندلس عند مصب نهر اللوار.
ولقد كانت الغرب في السيطرة على العالم العربي والإسلامي تهدف أساسا إلى القضاء على الإسلام.
كقوة حرة قوية لا تقبل الذل والاحتلال.
القضاء على جوهر الدين في مفاهيم الجهاد والمقاومة والحرية.
إقصاء الإسلام عن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد اتجهت حملات الغزو الثقافي إلى وجهتين: الدين بصفة عامة والإسلام بصفة خاصة.
ولما كانت الحملات موجهة من الفكر الغربي المسيحي، فان كل الحملات التي وجهت إلى (الدين) كان مقصودا بها الإسلام أساسا، وقد تمثلت هذه الحملات على الدين في انه ظاهرة من الظواهر الاجتماعية لم تنزل من السماء ولم يهبط به وحي وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها.
وان الديانات قيود وأغلال التزمها الناس بدعوى أنها منزلة خالدة، وان وضع الدين في جانب العقل يقضي بهدمه، وان الدين لا يخلق الإنسان، ولكن الإنسان هو الذي صاغ الدين وليس الدين إلا صدى الألم الذي يتردد في نفوس المظلومين، وان الدين حادث(عمراني) له قدره(التاريخي) وليس له صلة بالاقتصاد.
وقد كانت كل هذه الاتهامات بعيدة عن الحقيقة، وقد أوجه الإسلام حملات غزو ذات جوانب متعددة منها:
1-الحملة على مفاهيم الإسلام وكتابه وتاريخه.
2-الغزو عن طريق بعث أديان جديدة كالبابية والبهائية.
3-الغزو عن طريق تعميق تيار الإلحاد في العالم العربي.
وقد اشترك في هذه الحملات عدد كبير من المستشرقين والعلماء، في مرحلة طويلة امتدت منذ الفكر العربي مكتوفا أمام هذه الحملات، وإنما واجهها بقوة ودحض أكاذيبها وكشف عن خدامها وتضليلها وتعصبها وكشف الغشاء عن الأباطيل التي برع الغزو الثقافي في حمل لوائها البراق، والتي خدعت الكثير من دعاة التغريب في العالم العربي، فصدقوا شعارات الفكر الغربي وكلماته ذات الرنين، وخدعهم المبشرين الذين تلقوا عليهم العلم في جامعات أوربا.
والعجيب أن كتاب واربا قد انقسموا إزاء العقائد الشرقية والإسلام واللغة العربية وتاريخ العرب وأمجادهم قسمين: وان مفكرين ذوي قدر وصيت عاليين قد أنصفوا العرب، ومع ذلك فان نظريات المبشرين والمستشرقين كانت دائما لها الغلبة، وكانت هي التي تتردد في صحف مصر والعالم العربي لا على أنها نظريات قابلة للنقض، ولكن على أنها حقائق ثابتة، ومما يذكر في هذا الصدد أن(رينان) عند ما عرض آرائه عن العرب والسامية وراجعه فيها(جمال الدين الأفغاني) لم يجد أمامه إلا أن يعلن انه سيعاود النظر في مراجعه على ضوء ما أورده جمال الدين في الرد عليه، ومع ذلك فان دعاة التغريب حملوا هذه النظريات في الهجوم على الإسلام والأمة العربية، واللغة العربية كحقائق تفرض فرضا.
وقد واجه الفكر العربي في قوة وصراحة ووضوح وعلى نفس المنهج العقلي والمذهب الغربي في البحث كل ما عرضه المبشرون والمستشرقون وخصوم العرب والإسلام، وكشف زيفه، وأبان أن هذه الحملة لم يقصد بها إلا توهين عرى الإسلام وتشويه صورته، وصرف أهله عنه.
وقد عمل الفكر العربي جاهدا على رد كل الشبهات التي آثراها المبشرون والمستشرقون ودعاة التغريب، وكشف الفكر العربي عن جوهر الإسلام في انه عقيدة ونظام، وان مبادئ الإسلام وتعاليمه صالحة للمجتمع على اختلاف الزمان والمكان، وان أركان العقيدة الإسلامية بسيطة قوامها التوجيه، وقد اقر الإسلام حقوق الحرية والإخاء والمساواة بين الشر، وألغى العصبية وفوارق الأجناس والألوان والدماء، وجعل أساس التفاضل بالعمل، وحرم العصبية القبلية، ودعا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر المحبة بين الناس، وحمل لواء الجهاد في سبيل الدفاع عن العرض، والأرض، والوطن، ونهى عن عبادة غير الله، وتشمل الشريعة الإسلامية كافة التكليفات الشرعية العلمية، وتنظيم العلاقات بين الناس في الأسرة والمجتمع بما يحقق قيام مدنية فاضلة تقوم فيها العلاقات على دعائم ثابتة ودعا إلى الحج كمؤتمر إسلامي عام.
وقد نظم الإسلام المجتمع على أساس الخلق والتعاون والتكافل، وأقام الأسرة على أساس المودة ونظم العلاقات بين الناس، وفرض نظام الشورى في الحكم، وأعلن احترامه للكرامة الإنسانية والعدالة وعدم التفريق في القضاء بين الغني والفقير أو الأمير والسوقة، وأعطى توزيع الأعمال بمقدار الكفاية، وعالج الفقر بنظام العدالة الاجتماعية، وجعل للفقير في مال الغني حقا معلوما هو الزكاة تجمعه الدولة، وواجب على ولي الأمر أن ينفق على الفقير العاجز، وللقاضي أن يحكم له بما يكفيه من بيت مال المسلمين، واوجب على أهل كل قرية أن يقوموا بسداد حاجة فقرائها إن لم تكف الزكاة، وأعطى المرأة حقها، ومنحها حرية الإرادة في البيع والزواج والشراء، وحث على طلب العلم وأقام الحكم العقلي فيه على أساس البرهان(قل هاتوا برهانكم).
وقام الإسلام على قاعدة: لا ضرر ولا ضرار وعلى سد الذرائع، وإعطاء الوسائل وأحكام المقاصد والغايات، فكل ما أفضى إلى مباح فهو مباح، وكما أباح إعطاء الظن الغالب حكم اليقين المجزوم به، وقرر تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، ودعا إلى المساواة بين المسلمين في الأحكام وكذلك بينهم وبين من له ذمة وعهد، فان لهم ما لهم وعليهم ما عليهم،وعمل على تقدير كثير من الأحكام بما تعارف عليه الناس وأعلن أن من اجتهد وأخطأ فله اجر واحد، ومن اجتهد وأصاب فله أجران.
وكان(الإسلام) واسع الأفق في لقاء الحضارة الغربية الحديثة، وقد حرر الفكر العربي نفسه بفتح باب الاجتهاد قبل أن تصل طلائع الغزو الغربي، فان علماء القرن الثامن عشر قد دعوا إلى الفتح باب الاجتهاد بعد أن ظل مغلقا فترة طويلة،وأعادوا تفسير قوانين الإسلام وكشفوا عن وجه الإسلام الحقيقي بعد أن رفعوا الغشاء الذي خلفه الجمود والتقليد في الدولة العثمانية.
وكانت الحركات الوهابية والسنوسية والمهدوية، وهي حركات منفصلة قامت في الحجار وليبيا والسودان علامات على وضوح مفاهيم الإسلام الحقيقية من تحرير الفكر وتحرير الوطن في نفس دعاتها، قد عملت هذه الدعوات على التحرر من قيد التقليد والعودة بالإسلام إلى منابعه الأولى وفي نفس الوقت وقاومت الاستعمار التركي والغربي.
كما توافرت في(الإسلام) خلال معركة المقاومة التي شنها على الغزو الثقافي والتدخل الأجنبي مرونة واضحة في تقبل الحضارة وتمكين المجتمع الإسلامية من التطور والعمل للتوفيق بين الحضارة وبين أسس القيم الروحية والفكرية العربية التي كانت أساس ضروريا لبناء المجتمع الجديد.