الوحدة وحق الإختلاف

الشيخ عبّاس أحمد شحادي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان إلى قيام يوم الدين .

يقول الله سبحانه في القرآن الكريم :(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:213)

الوحدة والفطرة الإنسانيّة

 

الوحدة والتعاون بين أبناء البشر مسألة فطريّة وجدانيّة لا تحتاج إلى استدلالٍ علميٍّ ولا بذل جهدٍ عقليٍّ.

ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى أودع في أعماق نفس كلّ إنسانٍ فطرةً صافيةً ووجداناً نقيّاً. وبالفطرة والوجدان يهتدي الإنسان إلى الخير ويكتشف موارد الشّرّ، وبها يتّفق أبناء البشر على المبادئ الخيّرة والبديهيّات العقليّة … يقول الله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)

إلّا أنّ تربية الإنسان والأجواء التي ينشأ فيها تلوّث صفاء فطرته ونقاء وجدانه .. وهنا يقول النبيّ الأكرم محمّد صلّى الله عليه وآله: "كلّ مولودٍ يولد على الفطرة، وإنّما أبواه يهوّدانه وينصّرانه"....

وتُشير بعض الآيات الكريمة إلى أنّ البشر في بدء حياتهم على وجه الأرض، يوم كانوا يعيشون البساطة والعفويّة، كانوا متّحدين لم يعرفوا معنًى للتّفرقة والاختلاف. ولكن حينما بعث الله الأنبياء والرسل وخالفهم من تلوّثت فطرته، وقرّر قسم من الناس أن يواجهوا الأنبياء ونداءات السماء، عندها بدأ الصّراع والاختلاف في حياة النّاس .. يقول تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:213)

وفي آية أخرى يقول سبحانه: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (يونس:19)

ـ الوحدة بين المؤمنين

إنّ النّداء الإلهيّ بالوحدة والتّعاون موجّهٌ للمؤمنين الصّالحين، فهم الذين يُريد الله اتّحادهم وتعاونهم على البرّ والتّقوى، وفي تلك الوحدة خيرٌ لهم وللبشريّة جمعاء، لأنّ قوى الحقّ والصّلاح، إذا اجتمعت وتكاتفت كانت أقدر على نشر الهدى والخير وبسط العدل ومكافحة الشّرّ والظّلم..

ولذلك يوجه الله سبحانه وتعالى دعوة التّعاون للمؤمنين، كما في الآيات الأولى من سورة المائدة... يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ...) إلى أن يقول سبحانه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة:2). وفي سورة آل عمران يقول عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:102/103)؛ وفي سورة الحجرات يقول سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10)

إذا فالوحدة المطلوبة من قبل الله سبحانه وتعالى هي وحدة المؤمنين مع بعضهم البعض، أما الكافرون والظالمون فإنّ اتّحادهم ليس في صالح البشريّة، لأنّ ذلك يقوّي بغيهم وضلالهم، ويُهدّد أمن النّاس وحريّتهم بالخطر والسّوء...

إنّ وحدة المؤمنين وتعاونهم يجب أن يتحقّق على مستويين:

· المستوى الأوّل:

الجهات الفاعلة والقياديّة في مجتمعاتنا الدينيّة من مراجع وعلماء وحركات ومراكز ومؤسّسات.

· المستوى الثاني:

في أوساط الجماهير وبين النّاس المؤمنين مع بعضهم البعض ..

ومن المؤسف جدّاً أنْ تُعاني أمّتنا الإسلاميّة من الخلاف والتمزّق بين المؤمنين حتّى على أعلى المستويات .. بل إنّ عدم توفّر الوحدة والتعاون على المستوى الأول هو الذي يُسبّب الخلافات والصّراعات على المستوى الثاني .. فحينما لا تستطيع الجهات الفاعلة والقياديّة ـ مع ما يفترض فيها من وعيٍ وإخلاصٍ ـ أن تتعاون وتتحد، فسوف لن تنعم الجماهير والمجتمعات المتديّنة بأجواء الوحدة والانسجام، لانعكاس اختلاف القيادات على أوضاع القاعدة والأتباع ..

لذلك، وفي المرحلة الأولى، علينا أن نسعى لنزع فتائل الصّراع وتهدئة الأجواء وإعلان وقف إطلاق النار على بعضنا البعض، ليسير كلّ في برنامجه، ويواصل مشروعه دون أن يضطر لصرف الجهد والاهتمام لمواجهة إخوانه المؤمنين وتعبئة أتباعه ضدهم وتحصين أعماله عن تأثيرات تخريبهم .. ثمّ نطمع للوصول إلى مستوى متقدّم وهو الوحدة والتّعاون والانسجام...

إنّ قضيّة الوحدة والتّعاون بين المؤمنين تحتلّ موقعاً هامّاً في ثقافة الإسلام وتعاليمه، والمؤمن ليس مخيّراً بين السّلوك الوحدويّ والأخلاقيّة التعاونيّة وبين التفرقة والتخاصم .. بل إنّه ملزمٌ من قبل الله تعالى بوحدة الصّفّ ولمّ الشّمل، ومكلّف بالابتعاد عن التفرقة والبغضاء ..

فالوحدة والتعاون واجبٌ شرعيٌّ وتكليفٌ إلهيٌّ على كلّ مسلمٍ ومراعاته وتطبيقه... والتفرقة والعداوة بين المؤمنين عمل محرم وجريمة نكراء يحرم اقترافها وممارستها...

1 ـ يقول تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105)؛ فالله تعالى يُحذّرنا بلغةٍ جازمةٍ من أن نصبح متنازعين متفرّقين، ويتوّعدنا بالعذاب العظيم إنْ حدث لنا ذلك ..

2 ـ ويقول تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ …) (الشورى:13) فالوحدة في إطار الدين والابتعاد عن التفرقة هي وصية الله لكل أنبيائه ووصيه الأنبياء لأممهم.

3 ـ ويأمرنا سبحانه بأن نتعاون مع بعضنا على أمور الخير والصلاح فيقول سبحانه: (...وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ..) (المائدة:2)

4 ـ وينهانا الله عن التنازع لأن عاقبته الفشل وفقدان القوة: (.. وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46)

5 ـ إنّ انتشار العداوة والبغضاء بين المؤمنين هدف شيطاني ومن يمارسها أو يساعد عليها فإنما ينفذ إرادة الشيطان .. يقول تعالى:

(إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ .. ) (المائدة:91)

أما الأحاديث الشريفة الواردة عن النبي محمد وعن الأئمة من آله صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، ففيها حشد هائلٌ من النّصوص التي تؤكد أهميّة الوحدة والتعاون، وأنّها من أساسيّات المبادئ الإسلاميّة، وتنهى عن التفرقة والمعاداة، لأنّها من أخلاق أهل النّار.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5736

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك