الإسلام والحوار الثقافي

محمد محفوظ

في هذا الكون ثمة حقائق طبيعية واجتماعية، ينبغي ادراكها واستيعاب مدلولاتها حتى يتسنى للجميع الانسجام مع الناموس الكوني والاجتماعي العام.

ولعل من أهم الحقائق التي تحتاج إلى استيعاب وادراك تامين، هي حقيقة التعدد والتنوع في هذا الوجود. فهي قاعدة تكوينية شاملة وناموس كوني ثابت، وأي سعي إلى إلغائها بدعوى المطابقة وضروراتها وفوائدها هو سعي عقيم لأنه يخالف الناموس، ويريد تبديل حقائق الوجود، وهذا ليس بمقدور الإنسان فعله.

ولكن هذا التنوع في الحقائق لا يؤدي إلى المفاصلة الشعورية والعملية والاجتماعية، وإنما في الإنسان نزوع أصيل وحاجة حيوية إلى اعتماد مشتركات مع بني جنسه ولا تنهض بدونها حياة اجتماعية. من هنا فإن مشكلة الإنسان الدائمة لا تنشأ من وجود الاختلاف أو التنوع، وإنما تنشأ من العجز عن إقامة نسق مشترك يجمع الناس ضمن دوائر ارتضوها.

والحوار بين الإنسان وأخيه الإنسان، من النوافذ الأساسية لصناعة المشتركات التي لا تنهض حياة اجتماعية سوية بدونها. وعليه فإن الحوار لا يدعو الآخر إلى مغادرة موقعه الطبيعي، وإنما هو لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها والانطلاق منها مجدداً ومعاً في النظر إلى الأمور.

وكما يقول أحد المفكرين العرب "ان الحوار بحاجة إلى ثقافة وفكر يحترم الفروق والتنوع ويرى الحقائق المجتمعية ماهيات مركبة ذات وجوه وأبعاد لا جواهر بسيطة مطلقة ذات بعد واحد. انه فكر يجيد التبادل والتأليف انطلاقاً من توسط مشرف من غير أن يجنح إلى دمجية كلانية تلغي المسافات والتخوم أو يقع في تفريعية انقسامية تقطع العلائق وتعدم التواصل".

ولقد أظهرت وقائع الحروب والمنازعات أن التصادم داخل الجماعة البشرية الواحدة كان أشد فتكاً من تصادم الجماعات البشرية المختلفة، ويقول في هذا الصدد الدكتور (عبدالمنعم سعيد) رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام أن الصراع مع إسرائيل كلف في العقود الخمسة الماضية حوالي (200) ألف من الضحايا، ولكن الصراعات الأهلية والحروب الداخلية في الاطار العربي والإسلامي كلفت , 25مليون ضحية ومن حيث التكلفة المالية فإن الصراع الأول كلف العرب حوالي 300بليون دولار أما باقي الصراعات فبلغت تكاليفها حوالي , 12تريليون دولار.

لهذا فإن حوار الثقافات ينبغي أن لا يتوقف عند الأحكام القاطعة أو الكاسحة، والتي هي صدى أو انعكاس لحقبة التصنيفات الأيدلوجية وبذور الحوار والتلاقي الذي يقمع بالادانات والتهويش.

وإن الحوار في الحقل الثقافي يقتضي العمل على مستويين في آن واحد، مستوى الذات والعمل على التخلص من رواسب لغة النفي والإقصاء والتخوين وكل المفردات التي تلغي الآخر، ولا تسمح بأي شكل من الأشكال بأي مستوى من الحوار معه.

ولذلك فإن تنظيف النفس والعقل من كل المفردات والمنطق السائد في تلك الحقبة التاريخية يعد من الأعمال الجوهرية التي ينبغي أن نتوجه إليها، وتكون لدينا الشجاعة الكافية، لإعلان نهايتها ودخولنا في حقبة تاريخية جديدة تشجع الحوار وتؤسس للتسامح وتؤصل لحرية الرأي الآخر. ولابد في هذا الاطار أن نصغي بشكل دينامي إلى اسئلة الواقع وننهي منه حالات تغييب الواقع في اشكاليات ثقافية زائفة وبلورة موقف نقدي من تيارات الفكر الغربية، ومحاولة استدراك الانقطاعات التي منعتنا من المراكمة الثقافية فكثرت لدينا البدايات وتكررت الأسئلة، دون أن يتشكل لدينا سياق تاريخي من التفاعل والنمو، ويضيف (سعدالله ونوس) في حواره مع المفكر السوري (انطوان مقدسي) أن المحاولة هي تعميق التلاحم بين الواقع وأسئلة الثقافة واستكشاف أفق تاريخي لمراكمة ثقافية دينامية فعالة.

والحوار الثقافي الذي يخرج عن هذا السياق أو النطاق، يتحول إلى حوار طرشان. ولا يفضي إلا إلى المزيد من التعصب للرأي وسيادة عقلية الخصم والإفحام. وان الضرورة الحضارية تفرض علينا وعياً مزدوجاً لعملية الحوار الثقافي، وعي مستوى الحوار الثقافي والحضاري الذي وصلت إليه المجتمعات المتقدمة بين تياراتها ومدارسها الفلسفية والفكرية والسياسية.

ووعي واقعنا العربي والإسلامي وتلمس الممكنات المتوفرة لانطلاق هذه العملية الحضارية والعقبات التي تحول دون ذلك. ومن خلال هذا الوعي المزدوج لعملية الحوار الثقافي تتأسس الظروف الموضوعية والذاتية لانطلاق مبادرات نوعية في هذا المجال.

ودون هذا الوعي تبقى الكثير من المبادرات شكلية ولا تخرج في كثير من مفرداتها عن موضوع للاستهلاك ورمي الكرة في مرمى الطرف الآخر. وفي هذا الوضع تتجلى في الحياة الثقافية كل الأشكال الخادعة والمستعارة لعملية الحوار الثقافي.

ومادام المثقف متفاعلاً مع عصره ومنفتحاً على العالم فإنه سيجد الموضوعات الجديدة والمعالجات الجادة بالحوار والتفاعل.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن الحوار الثقافي الذي يأتي في سياق وعي اللحظة التاريخية لواقعنا العربي والإسلامي، ومتطلباته الحضارية، ووعي اللحظة التاريخية التي يعيشها الآخر، فإن هذا الحوار يعد نواة صلبة للعمل الثقافي الجاد الذي يتراكم ويتواصل لخلق حالة ثقافية بصفات جديدة وعقلية حضارية تمارس القطيعة المعرفية مع تلك العقلية الضيقة التي لا ترى في الوجود إلا لونين إما أسود أو أبيض.

وليس ما أقوله هنا إسقاطاً لمفهومات غريبة عن تطلعات حياتنا الثقافية، وإنما هي من تطلعاتها الجوهرية ومطامحها الأولى.

وبالتالي فإن الحوار الثقافي ليس تصدعاً في الذات الثقافية، بل هو إثراء لها وإضافة نوعية إلى بنائها وسياقها المعرفي وأن أهم ما تمارسه عملية الحوار هذه انها ترفع الأوابد عن الابداع وآفاق الثقافة الجديدة.

فالإسلام يوفر كل متطلبات الحوار الثقافي الفعال، المتجه صوب القضايا الرئيسة، ويهيئ الأرضية الاجتماعية للقبول بالآخر وجوداً ورأياً. وأن كل محاولات الإقصاء والنفي ونكران الآخر، لا تنسجم والمنظومة الفكرية الإسلامية. وذلك لأن الإسلام هو دين الحوار والاعتراف بالآخر وتنمية القواسم المشتركة بين الإنسان وأخيه الإنسان.

وفي هذه الظروف الحرجة التي يمر بها مجالنا الإسلامي، حري بنا جميعاً ان نعيد الاعتبار إلى هذه القيمة، ونوفر الأطر المجتمعية الكفيلة بتنميتها وجعلها ثابتة من ثوابت الاجتماع الإسلامي. فالقرآن الحكيم هو كتاب الحوار والدعوة إلى الاعتراف بالآخر، لذلك فإن الباري عز وجل، ناقش في كتابه الكريم كل القضايا والأمور التي قد يتعرض لها الإنسان. فالله عز وجل يدعو إلى التوحيد، وقد أكد على هذه القيمة الربانية في الكثير من آيات الذكر الحكيم، إلا أنه ناقش مسألة الشرك وحاور المشركين، كما أنه يدعو إلى الايمان إلا أنه حاور الكفار. فكل القضايا العقدية والفكرية والسياسية والغيبية، حاور القرآن الكريم فيها الأطراف الأخرى، وجعل من قيمة الحوار هي القيمة العليا التي ينبغي أن تصبغ كل جوانب حياتنا. وفي اطار تأكيد الإسلام على قيمة الحوار بكل مستوياته وآفاقه نؤكد على النقاط التالية:

1ـ لعل من الأخطاء الكبرى التي ترتكب في الكثير من حالات الحوار ونماذج التواصل الثقافي والفكري، أن تبدأ عملية الحوار بنقاط الاختلاف الشديد ومحاور الافتراق. وذلك لأن الحوار الذي يبدأ من نقاط الافتراق، فإنه لن يفضي إلى أي نتيجة ايجابية على الصعيد المجتمعي، وذلك لأنه سيتحول إلى حوار لاهوتي، هم كل طرف إثبات صحة مقولاته وقناعاته. لذلك من الضروري ان يبدأ الحوار من القضايا المشتركة، وذلك حتى يتسنى للجميع المعرفة المتبادلة، وتتوطد أسباب التواصل، وتتعمق في الوعي والسلوك النقاط المشتركة. فليس من الحكمة والصواب أن يبدأ الحوار بنقاط الافتراق. وإننا جميعاً بحاجة إلى الحوار حول القضايا المشتركة، وذلك من أجل إرساء دعائم الحوار القائم على العلم والحكمة.

2ـ ان الحوارات الثقافية والإنسانية، وحتى تؤتي ثمارها الايجابية على المستويات كافة، من المهم أن نتعامل معها وفق نمط واقعي ـ موضوعي. بمعنى أن الحوارات الإنسانية بحاجة إلى الأخلاق الفاضلة والتعامل الحسن والتمسك بأسباب الحكمة وذلك حتى لا يتحول الحوار إلى ساحة للحرب وتبادل الشتائم والاتهامات.

إن القبول بالحوار يعني الابتعاد عن كل تصرف يشين الآخر. من سوء الظن ومقولات التخوين والتكفير. وان مجالنا الإسلامي أحوج ما يكون اليوم إلى تلك الحوارات الهادفة والبعيدة كل البعد عن حالات التشويه والمواقف المسبقة التي تتضمن إدانة الآخر واتهامه دون حوار ومعرفة دقيقة.

3ـ ان الحوارات الثقافية والفكرية، لا تستهدف دفع الآخر إلى الانتقال إلى موقع الذات وقناعاتها الخاصة. ويخطئ من يتعامل مع الحوار وفق هذه العقلية، وذلك لأنه سيدفع الحوار إلى حالة من المماحكة والمساجلة العقيمة التي لا تفضي إلا إلى المزيد من الجفاء والجهل المتبادل. ان الحوارات الثقافية الهادفة، هي التي تستهدف تنمية القواسم المشتركة، وتنظيم الاختلافات وادارتها وفق عقلية حضارية ـ سلمية، تتبنى خيار التواصل مع الآخرين كوسيلة ثابتة في معالجة الاختلافات والتناقضات الفكرية والسياسية.

والمجال الإسلامي اليوم، بحاجة إلى كل الجهود والمبادرات، التي تتوجه إلى إرساء دعائم الحوار والتواصل، وأنه خيارنا الحضاري الذي ينبغي أن نتمسك به لعلاج مشكلاتنا وحالات الابتعاد والجفاء بين مدارسنا الفكرية والثقافية.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2002/01/08/article29819.html

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك