خواطر حول حوار الأديان

خواطر حول حوار الأديان |
هل يمكن تجنب حوار عبثي في ظل الواقع القائم؟.. |
نبيل شبيب
السياسة والحوار بين الأديان
وسيلة الحوار وتنظيمه
الطرف الثالث
شروط غائبة للحوار
سيان ما يقال عن حوار الأديان في الوقت الحاضر وتعدد خطاباته وغاياته والضرورات الحديثة التي دعت إليه، يبقى الانطباع السائد من الواقع العملي أنه ما زال حتى الآن حوار سياسيا تحت عنوان ديني، وليس حوارا دينيا يمكن أن يسهم في تطوير العلاقات والممارسات السياسية تطويرا إيجابيا. وينشأ عن ذلك أكثر من معضلة على مستويات مختلفة، منها وجود اختلافات جذرية حول مفاهيم أساسية بما في ذلك كلمة الدين نفسها، ومنها ممارسة الحوار بين جهات تتفاوت طبيعة تمثيلها للأديان التي تحاور باسمها، ومنها اختلاف الغايات من وراء الحوار نفسه، ومنها تعدد مصادر تأثير أحداث الواقع القائم وتطوراته على مجرى الحوار.
السياسة والحوار بين الأديان
معظم ما صدر من دعوات لحوار الأديان في الآونة الأخيرة كان من منطلقات سياسية، وهو ما يمكن تحديد معالم إطاره العام بإيجاز شديد فيما يلي:
في أوروبا حيث تسود العلمانية في تحديد معظم العلاقات البشرية، الدينية والسياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها، يصدر بعض الدعوات إلى الحوار عن جهات علمانية، وغالبا ما تنطلق في ذلك من اعتبار "فكرة الإله" و"ظاهرة الدين" من نتاج الفكر البشري، وهو ما يتناقض جذريا مع اعتماد الأديان السماوية على مصدر الوحي، وبالتالي فإن الدعوة العلمانيةَ المصدر إلى الحوار تعود إلى التفاعل مع رصد تنامي تأثير التدين في واقعٍ قائم أراده أصحاب تلك الدعوة في الاصل أن يضبط "حصر التدين وراء جدران المعابد والمنازل"، ومن هنا تنحصر أهداف تلك الدعوات للحوار في الدرجة الأولى في البحث عن كيفية ضبط تقييد ظاهرة التدين على هذا الأساس، وقد يكون أقصى ما تمضي إليه هو أن يسري مفعول "حرية التعبير" على أصحاب المنطلقات الدينية، دون أن يكون لهم نصيب من صناعة القرار السياسي بصورة مباشرة، وهذا ما يقترب كثيرا من النموذج التاريخي للتوافق بين مؤسسة الكنيسة ومؤسسة الدولة في النظم العلمانية الحديثة. وإذ تنامى تأثير الإسلام على قطاع المسلمين وعموم المواطنين من سكان الدول الأوروبية، ثم تنامت ظواهر استخدام العنف باسم الإسلام، أصبحت الحاجة الواقعية بمنظور العلمانيين لدعوات الحوار بين الأديان أشد إلحاحا من ذي قبل، ولكن دون أن تخرج عن الإطار المذكور، وإن حمل بعض تلك الدعوات عنوان حوار بين الثقافات والحضارات، تجنبا لعنوان حوار الأديان في غالب الحالات.
في أوروبا أيضا تطور تأثير الكنيسة مجددا بعد انحساره في مطالع القرن الميلادي العشرين، سواء من خلال تنامي تأثير "الموقف الكنسي" وإعلانه إزاء مختلف القضايا، بدءا بالتسلح انتهاء بالعلاقات الجنسية، أو من خلال التشابك القائم عبر شغل مناصب رسمية مؤثرة في قطاعات سياسية عن طريق مسؤولين سياسيين يشغلون في الوقت نفسه مناصب كنسية رسمية، وكان لتطور هذا التأثير دوره في تنامي رغبة الكنيسة في الحوار الذي اتخذ صورا ومستويات متعددة، منها ما ارتبط بالعلاقات بين الكنائس المتعددة، ومنها ما شمل أصحاب الديانات الأخرى.
كذلك فإن المصادر الأمريكية لدعوات الحوار بين الأديان انطلقت حديثا من تأثير تطورات سياسية في الدرجة الأولى، وهو ما لا ينفصل عن اندماج ظاهرة "العودة إلى الدين" في اتجاهات سياسية، أبرزها المحافظون الجدد على أرضية ما يعرف بالمسيحية الصهيونية في العقود الماضية، وما بدأ يتسرب إلى يسمى الديمقراطيون الجدد -من الحزب الديمقراطي- حديثا. كما كان للإعلان عن اعتبار الإسلام عدوا بديلا منذ مطلع التسعينات في القرن الميلادي العشرين أثره عبر التطورات العسكرية التالية في نشوء الدعوات إلى الحوار بين الأديان، لا سيما الحوار الثلاثي الذي يراد أن يجمع بين المسيحيين والمسلمين واليهود، وهو ما انتقل جزئيا إلى دول أوروبية عديدة.
ويلفت النظر أن معظم الدعوات إلى الحوار من داخل البلدان الإسلامية لم يكن نتيجة مبادرات مباشرة بل كان من باب الاستجابة للدعوات الصادرة عن دول غربية، وانطوى على دوافع صنعتها الأحداث السياسية والعسكرية، وكانت من مواقع "دفاعية" تعبر عنها عناوين محددة، مثل تحسين صورة الإسلام والمسلمين في الغرب، أو إثبات حقيقة الوسطية والتسامح في الدين الإسلامي.
والسؤال: هل يمكن لحوار أديان من مثل هذه المنطلقات السياسية أن يؤدي الغرض المطلوب؟..
ويستدعي ذلك بدوره السؤال عن الغرض المطلوب، هل هو ديني محض، بمعنى التعارف وبيان ما تقول به الأديان المعنية، وحتى ممارسة الدعوة المتبادلة، أم أنه سياسي يراد فيه استخدام الحوار بين الأديان وسيلةً لغاية سياسية محضة؟..
وسيلة الحوار وتنظيمه
من المفيد التأكيد هنا أن الحوار هو دوما وسيلة، فلا تتمثل المعضلة في اتباع هذه الوسيلة لغرض سياسي، بل تكمن في حقيقة أن الممارسات السياسية الحالية لا تتوافق مع معظم ما تقول به الأديان -أو الإسلام تخصيصا- على صعيد ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات البشرية، بدءا بترسيخ مبدأ حرية المعتقد وتطبيقه، انتهاء بالتسامح والسلام.
المعضلة الأكبر التي تصنعها الخلفية السياسية لحوار الأديان، أنه يجري على أرضية ظروف حضارية وسياسية آنية، تجعل من العسير تنظيم جولاته بما يضمن عناصر التكافؤ ناهيك عن ضمان الأخذ بالنتائج المحتملة.
وليس مجهولا أن قطاع الحوار بين الأديان لا يشمل أكثر من "الكلام والفكر" وأن قطاع السياسة يسيطر على صناعة القرار وآليات تنفيذه، فلا تصل حصيلة أي حوار بين الأديان، حتى وإن توافرت شروطه الموضوعية، إلى مستوى التأثير الفاعل على صناعة القرار السياسي، بل يبقى بالمنظور السياسي أداة لتحقيق غرض يتحدد على المستوى السياسي نفسه، خارج نطاق حوار الأديان وآلياته.
جلّ ما يمكن تحقيقه عبر حوار الأديان من هذا المنطلق ومع افتراض حسن النوايا وتوافر الشروط القويمة، هو إيجاد أجواء عامة "قد" تؤثر على آليات صناعة القرار، ولكن حجم هذا التأثير خاضع لعوامل عديدة تبين أهمية أرضية الظروف الحضارية والسياسية الآنية، ومن هذه العوامل:
1- رغم التعدد الكبير في عالم الكنائس المسيحية، يبقى أن كبرياتها مرتبطة ببنية هيكلية تنظيمية تجعل قدرتها على إدارة الحوار أكبر بما لا يقارن من قدرة الطرف الإسلامي أو الأطراف المتعددة ممن يشارك في الحوار.
2- ورغم تطبيق مبدأ فصل مؤسسة الكنيسة عن مؤسسة الدولة (وليس الدين عن السياسة كما يشاع في المنطقة الإسلامية) يبقى الوضوح قائما نسبيا فيما يتعلق بدور مؤسسة الكنيسة وصلاحياتها وحدودها واستقلاليتها عن المؤسسات السياسية للدولة في الغرب، ولا يمكن القول بشبيه ذلك في البلدان الإسلامية، سواء تلك التي تقول علنا بتطبيقها للعلمانية الغربية النشأة، كتركيا أو تونس، أو تلك التي تخضع "المناصب" الدينية فيها لإرادة صانع القرار السياسي مع ما يترتب على ذلك من تأثير مباشر على "الموقف" الديني.
3- ورغم ارتفاع مستوى المشاركة الإسلامية في بعض جولات الحوار إلى درجة تحدّ من مفعول العاملين السابقين، كما هو الحال مثلا مع ما يشارك فيه اتحاد العلماء المسلمين، فإن حصيلة الحوار نفسه أو حصيلة المواقف التي يتخذها الطرف الإسلامي فيه، محدودة الأثر إلى حد بعيد على صناعة القرار السياسي، وهذا ما يوضحه مثال التعامل مع الإساءة البابوبة المعروفة واضمحلال مفعوله عند قيام بينيديكت السادس عشر بما أسماه "حجة دينية" في الأماكن المقدسة.
الطرف الثالث
على ضوء ما سبق من خلفية سياسية لا يمكن فصل ازدياد الدعوات في الآونة الأخيرة إلى حوارات أديان تشمل الأطراف المسيحية والإسلامية واليهودية معا عن مجرى الأحداث والتطورات السياسية فيما يتعلق بقضية فلسطين المحورية بالنسبة إلى المسلمين وعالميا، والمرتبطة بالعلاقات بين الأديان لأكثر من سبب، بما فيها مكانة فلسطين المتميزة على هذا الصعيد.
والطرف اليهودي في العالم الغربي أكثر تنظيما من الطرف الكنسي، فالتعدد في نطاقه أقل بما لا يقاس من تعدد الكنائس المسيحية، كما أنه أشد التصاقا بصانع القرار السياسي بأبعاده الصهيونية والإسرائيلية، من درجة التفاعل القائم بين الكنائس وآليات صناعة القرار السياسي الغربي، ولا ينفي ذلك وجود مجموعات يهودية لا يسري عليها ما سبق، وتنطلق من معتقدات دينية تجعلها تتخذ مواقف متعارضة سياسيا مع المواقف الصهيونية والإسرائيلية، ولكنّ المشهود من الواقع هو أنه لا تلعب دورا يذكر في جولات حوار الأديان.
ولا يستهان بهذه المعطيات في تقويم نتائج ما بدأ من حوارات ثنائية، مسيحية-يهودية، منذ عدة عقود، وأدت في حصيلتها إلى منطلقات جديدة للعلاقات الثنائية في صالح الطرف الأكثر تنظيما، والأشد التصاقا بالقرار السياسي، كما يؤخذ من مسلسل طويل كان من محطاته الأساسية المعروفة ما سمي وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام، وتطور الموقف الكنسي مما يعرف بالمحرقة النازية، وهو ما يصعب رؤية ما يقابله في صيغة تحقيق مصلحة كنسية من الحوار.
والسؤال الذي يطرح نفسه على ضوء هذه التجربة العملية، ما الذي يمكن أن يسفر عنه حوار ثلاثي على أرضية التفاوت المرتبط بهذين العنصرين -التنظيم المؤسساتي والالتصاق بالقرار السياسي وليس التبعية له- عند المقارنة بين الأطراف الثلاثة المعنية، المسيحي والإسلامي واليهودي؟..
شروط غائبة للحوار
حوار الأديان مطلوب في الأصل، ونجد أرضية ذلك من المنطلق الإسلامي في النصوص القرآنية والممارسات النبوية، إنما لا نزال نفتقد العمل على تأمين الشروط الموضوعية ليكون الحوار وسيلة وهدفا حوارا متوازنا يوصل إلى نتائج إيجابية، تنعكس على أرض الواقع.
ومن ذلك على سبيل المثال دون الحصر، وعلى سبيل الإيجاز مع إدراك أن التفاصيل تتطلب اهتمام ذوي التخصص وأصحاب المواقع التي تصنع قرار المشاركة أو عدم المشاركة في الحوار:
1- التأصيل الشرعي الإسلامي المعاصر للحوار، باعتباره أداة مطلوبة لتحقيق هدف محدد، وانطلاقا من النصوص القرآنية والممارسات النبوية، على أن يكون ذلك التأصيل فوق الاعتبارات والمؤثرات السياسية، وعلى قدر من المنهجية والموضوعية يوجد له من القيمة الذاتية ما يساهم في أن ينتشر الاقتناع به وتبنيه على نطاق واسع، يتجاوز مفعول الاختلافات المذهبية وسواها.
2- استباق الحوار مع الآخر -وعلى الأقل مرافقة الحوار مع الآخر- بتنظيم الحوار الضروري على أكثر من مستوى، ما بين الأطراف المتعددة للمشاركين في الحوار ممن يمثلون الدين الإسلامي، وكذلك ما بين هذه الأطراف وأصحاب القرار السياسي في البلدان الإسلامية.
3- تخصيص جزء أساسي من هذه الحوارات الضرورية لتثبيت مفاهيم محددة لما يمكن وصفه بالمصطلحات المحورية أو المفصلية في حوار الأديان، وفي مقدمتها كلمات الدين، والحوار بين الأديان، والحوار بين الثقافات والحضارات، والعلاقة بين الدين والسياسة، ومنظومة القيم والأخلاق، وما شابه ذلك.
4- تثبيت مجموعة من الأهداف المرحلية الأولى لجولات الحوار بين الأديان، كالتعرف المباشر على معتقدات الآخر، أو تجديد مفعول القيم في الحياة البشرية، أو الربط بين منظومة الأخلاق والقرار السياسي، أو استكشاف نقاط الالتقاء على قضايا اجتماعية كالعلاقات بين الجنسين ودعمها.
5- تحديد مواصفات المشاركين في الحوارات بين الأديان على ضوء ما يتم تثبيته من مفاهيم ومصطلحات وأهداف مرحلية، واقتران جولات الحوار بعمليات تقويم ذاتي، تُعلن نتائجها مع مقترحات التطوير الضرورية المنبثقة عنها.
6- مرافقة مقدمات الحوار هذه وممارساته بحملات توعية متجددة، تنطوي على درجة كافية من الشفافية بما يضمن ترسيخ أرضية الوعي العام بجولات الحوار وما توصل إليه وما قد ينبني عليها من خطوات تالية، ويجنب تحوّله إلى أنشطة نخبيوية بعيدة عن واقع ما يعايشه عامة المسلمين وغير المسلمين من أحداث.