الدين يصنع الحضارة وليس جزءا مكونا من مكوناتها فحسب

الدين يصنع الحضارة وليس جزءا مكونا من مكوناتها فحسب

الاختلاف مع الآخر اختلاف على مصدر منظومة القيم والمعايير

نبيل شبيب

 

وصلتني بتاريخ 22/8/2009م عبر برد مجموعة شبكية يديرها الكاتب الإعلامي السعودي المعروف د. عبد العزيز قاسم مقالة قصيرة بقلم أخ فاضل معروف بكتاباته الرصينة القيمة، ويطلق على نفسه لقب "الكاتب المغمور" -ولا أدري علة اختيار هذا اللقب بدلا من الكتابة بالاسم الأصلي الصريح- وتضمنت المقالة سؤالا:

(هل "الدين" مكون رئيسي من مكونات مفهوم "الحضارة" أم لا؟)

ويتحفظ طارح السؤال -وأظن التحفظ مقصودا بذاته- فيقول:

(أقصد الدين بما يعنيه.. من أركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة)

في الحالتين لا أرى من حق الكاتب المغمور -ولا سواه- حصر الإجابة في احتمالين اثنين كما صنع في مقالته حيث يقول:

"الجواب الأول المحتمل: هو أن الدين فعلاً هو المكون الرئيسي للحضارة، وبالتالي فهذا يعني أن المجتمع الغربي المعاصر في غاية الانحطاط والتخلف والهمجية لأنه لا يوحد الله في الشعائر، ولا يوحد الله في التشريعات، ويجهل كل الحقائق الغيبية الكبرى، والشعائر العظيمة. أما الجواب المحتمل الثاني: فهو أن الدين ليس مكوناً من مكونات الحضارة أصلاً، وبالتالي فإن الحضارة شيء ثانوي تبعي، لأنه لا شيء فوق الدين بالنسبة للمسلم".

المغالطة ليست في محاولات الإجابة.. بل في صياغة السؤال.. وهذا ما يرجى بيانه في الفقرات التالية التي نُشرت عبر المجموعة الشبكية أيضا.

 

الحضارة من إنتاج الدين وليس الدين جزءا مكونا من مكوناتها فحسب.

الحضارة وعاء من القيم والمعايير للحياة الإنسانية تصنعه العقيدة، وكل ما عدا ذلك من إنتاج مادي وتقني بدءا بالأدوات الحجرية في العصر الحجري انتهاء بأشعة ليزر في عصرنا الحاضر، هو وسائل تعاقبت الأجيال البشرية على صنعها، وانتقلت بها درجة بعد درجة، فلم تبدأ أمة من الأمم فيها من نقطة الصفر، إنما بنت على ما سبقها وأضافت إليه، بغض النظر عن اختلاف منظومة القيم الحضارية من أمة إلى أخرى.

ومع ملاحظة أن مصطلح الدين هو ما نأخذه من الآية الكريمة {لكم دينكم ولي دين} يمكن أن يكون وعاء القيم والمعايير الذي تصنعه الأديان لبناء حضاري:

- قويما، كما هو الحال مع الإسلام خاتم الرسالات السماوية..

- أو منحرفا كما هو الحال:

(آ) مع ما يصنعه المسلمون -وإن قالوا إنهم ينطلقون من الإسلام دينا- عندما ينحرفون بدرجات متفاوتة من جيل إلى جيل ومن أمة إلى أمة في فهمهم لما يقرره الدين الإسلامي من قيم ومعايير..

أو كما هو الحال..

(ب) مع ما صنعته وتصنعه أديان غير سماوية، فيكون فيها إيجابيات (وإن أصبحت بميزان الآخرة يوم الحساب سرابا وهباء منثورا) وسلبيات..

وذاك ما يسري على الدين العلماني، والعلمانية دين بالمفهوم المشار إليه (لكم دينكم)، وإن زعم دعاتها غير ذلك، فالمهم في تحديد طبيعة مضمون ما يدعون إليه، أنهم يريدون أن يدين البشر لعلمانيتهم في الشرائع والنظم ومختلف جوانب الحياة، والعلمانية بذلك هي أكثر الأديان (السماوية وغير السماوية) فرضا للنظرات العقائدية (الإيديولوجية) على حياة البشر، ورفضا للآخر إذا ما انطلق من منظومة قيم ومعايير تخالف منظومة العلمانية 

♦ ♦ ♦

 

لا أحسب السؤال المطروح: (هل "الدين" مكون رئيسي من مكونات مفهوم "الحضارة" أم لا؟) إلا سؤالا استفزازيا يستهدف إثارة النقاش.. فكتابات طارحه الأخرى لا توحي بغير ذلك، إنما يلفت النظر أنه يضيف -وكأنه يحتاط لنفسه- قوله: (أقصد الدين بما يعنيه.. من أركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة)

حصر مفهوم كلمة الدين بهذين الجناحين الأساسيين منه، يمكن القبول به في نطاق الإسلام إذا كان القصد تسمية الجزء باسم الكل، أمّا وأنّ كلمة الدين في {إن الدين عند الله الإسلام} أشمل وأوسع من هذين الجناحين، فلا ينبغي استخدام هذا القول دون توضيح.

في غياب التوضيح منزلق للقول بمقولات العلمانيين، الذين يريدون إخضاع الأديان الأخرى لديانتهم، ومن ذلك الإسلام، عندما يقولون للمسلمين: إن العلمانية تقول لكم (آمنوا بما شئتم واعبدوا كما شئتم)..

في هذه الكلمات تضليل بيّن، فالمقصود عندهم هو (الإيمان والعبادة) في حدود ما تقرر علمانيتهم من مفاهيم للمصطلحات وحدود للتطبيق، وليس المقصود وفق ما (يشاء) المسلمون حقا، وهم يعلمون أن من أركان الإيمان الشهادة بالرسالة، وبالتالي الإيمان الذي يقتضي التطبيق لكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته إضافة إلى ما بلغه من وحي ربه، بل إن من المعلوم من الدين بالضرورة (حتى للعلمانيين) ما يقتضيه الإيمان بالقرآن الكريم وفيه ما نص مباشرة على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما ما يخرج عن نطاق الإيمان والعبادة بالمعنى العلماني المذكور، فهو من شأن ما يراه العلمانيون (فقط) من معايير للحياة المعيشية، بما في ذلك مختلف ما يقوم عليه البناء الحضاري، من علم وفكر وفن وصناعة وتقنية ومناهج على كل صعيد، وجوهره: كيفية استخدام وسائل التقدم المادي والتقني.. بأي ضوابط، ولأي غايات، وضمن أي ظروف.

الدين بالمفهوم العلماني للكلمة يقول:

العلمانية هي مصدر تحديد منظومة القيم والمعايير، ومن بين زواياها، الزاوية المخصصة للأديان الأخرى غير العلمانية، فيمكن لأصحابها التحرك في إطارها، داخل البيوت والمساجد، ويمكن أن يسمح أو لا يسمح لبعض ما يرونه من "قيم روحية" أن يخرج عن البيوت والمساجد شريطة ألا يتناقض مع معايير منظومة الديانة العلمانية، وجميع الميادين الحياتية الأخرى، تقررها العلمانية، وهي شاملة لما يتعلق بشؤون التقدم المادي والتقني.

وإن في مقدمة أسباب الاهتراء والانحراف والضعف في الحضارة الغربية العالية شأوا في الميدان المادي والتقني، سقوط منظومة قيمها إلى الحضيض، أي سقوط حاضنة المعايير الضرورية في مسيرة التقدم، كي تكون حضارة إنسانية تنطوي على الارتقاء بإنسانية الإنسان عبر وسائل هذا التقدم، وهذا دون "احتكار وعنصرية وتغليب شرعة الغاب"، أي من وراء اختلاف الألسنة والألوان والمواقع الجغرافية والاجتماعية.

ليس هذا القصور المشهود له في المآسي التي عمت البشرية على كل صعيد، سوى نتيجة من نتائج اعتناق العلمانية ديانة تصنع حاضنة القيم والمعايير لأهلها، وتعمل على فرضها في كل مكان من المعمورة.

أما الدين بالمفهوم الإسلامي للكلمة فيقول:

الإسلام هو مصدر تحديد منظومة القيم والأخلاق والسلوكيات والجماليات وما ينبثق عن ذلك من ضوابط للتشريعات بدءا بشؤون الحكم انتهاء بنظام السير وما بينهما وحولهما، فلا مجال لحبسه في البيوت والمساجد، وهذه المنظومة هي الوعاء الحضاري لما يتحقق من تقدم مادي وتقني..

والدين بالمفهوم الإسلامي للكلمة يقول أيضا:

هذه المنظومة للقيم والمعايير بما في ذلك ما يرتبط بالعدالة وعدم التمييز وأداء الحقوق ومسؤولية المجتمع عن الفرد الضعيف (أو الفئة الضعيفة) عن تحصيل حقه بنفسه، شاملة للبشر جميعا، ويجري التعامل بها في الحياة الدنيا مع سائر البشر وليس مع المسلمين فقط، أما ما يخص العقيدة فذاك ما يضيفه المسلم المؤمن إلى نفسه فينال من خلاله الجزاء الأوفى في الآخرة إضافة إلى ما يحصّل عليه في حياته الدنيا.

 

♦ ♦ ♦

 

إن من جوانب الخلل الكبير في منظور بعض التوجهات الإسلامية المعاصرة، وتعاملها مع مسألة "الحضارة" قَلْب] المعادلة المذكورة أعلاه رأسا على عقب، وتصوير الإسلام وكأن شؤون التقدم المعيشية في الدنيا مشروطة بسلامة العقيدة، وليس هذا صحيحا، ففي معايير حاضنة إسلامنا الحضاري: {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا}.. ومن أغفل عن ذلك انحرف أيضا في تصوير الإسلام كما لو أنه يريد إرغام الإنسان على "عقيدة" بعينها كي ينال نصيبه في هذه الحياة الدنيا، وليس هذا صحيحا أيضا ففي معايير إسلامنا الحضاري: {لا إكراه في الدين}.

إن تغييب هذه المعايير من النص القرآني، بأسلوب النسخ أو سواه، وكذلك تغييب ما تقتضيه، لا يؤدي فقط إلى قصور في ظهور الطبيعة الإنسانية الشاملة في أسس الحضارة الإسلامية وبنائها، بل يؤدي أيضا إلى ما نعايشه من قصور -لا يقبل به الإسلام الكامل الشامل المتوازن- في إقبال المسلمين على الإنجاز المفروض والممكن في الجانب المادي والتقني، كي نتابع -بحاضنة الإسلام الحضارية- خطى التقدم البشري، من حيث وصلت إليه في اللحظة الآنية، من تاريخ البشرية.. بعد العصر الحجري، وعبر عصور الصين والهند والرومان والإغريق والفراعنة وغيرهم، فعصر المسلمين ثم عصر النهضة الغربية.

إن الحضارة الإسلامية، بمعنى الحضارة التي يصنع الدين الإسلامي حاضنة قيمها ومعاييرها، حضارة إنسانية، تكريما شاملا لبني آدم دون تمييز في نطاق حياتهم الدنيا وبالتالي حضاراتهم المتعاقبة فيها.. ويجب أن يرتقي المسلمون بفكرهم و"نقاشهم" ومناهجهم النظرية وبجهودهم العملية إلى مستوى الأفق الحضاري الإنساني في إسلامهم، فذاك مفتاح الطريق لنهوضهم وهو مفتاح الطريق للنهوض بالبشرية في وقت واحد، وهو من قبل ومن بعد طريق الفوز في الآخرة لمن اقترن عمله الصالح هذا، بصدق الإيمان وسلامة الإسلام.

 

المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/uploads/Image/dokbilder/Ze_013_Luegen.jpg&imgrefurl=http://www.midadulqalam.info/midad/modules.php%3Fname%3DNews%26file%3Darticle%26sid%3D1219&usg=__p5B7Zgj9TW39mZMvgrg1ZBG1IAo=&h=541&w=523&sz=51&hl=ar&start=117&zoom=1&tbnid=MyU0PjsQLq8TpM:&tbnh=132&tbnw=128&ei=yJH2UNeNNYKrtAbbwYHwBw&prev=/search%3Fq%3D%25D8%25AD%25D9%2588%25D8%25A7%25D8%25B1%2B%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A3%25D8%25AF%25D9%258A%25D8%25A7%25D9%2586%26start%3D100%26hl%3Dar%26sa%3DN%26gbv%3D2%26tbm%3Disch&itbs=1

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك