هل يعقل أن تقبل أوروبا بالإسلام؟

بقلم د. باسم خفاجي

الكاتب رئيس المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب في القاهرة

لا يكاد العالم الإسلامي يخرج من حالة الغضب التي صاحبت تهجم بابا الكنيسة الكاثوليكية على الإسلام ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، إلا وتعود الكنيسة الكاثوليكية ممثلة هذه المرة في سكرتير البابا للهجوم مرة أخرى على الإسلام والمسلمين. فقد حذر السكرتير الخاص للبابا بنديكت السادس عشر مؤخراً -كما أورت شبكات الأنباء الدولية- من خطورة ما وصفه بـ "أسلمة أوروبا" مشددا على ضرورة عدم تجاهل الجذور المسيحية للقارة الأوربية. واعتبر جورج جاينزفاين السكرتير الخاص للبابا أنه يتعين على أوروبا ألا تتجاهل المساعي الرامية إلى إدخال القيم الإسلامية في الغرب "وهو ما يمكن أن يهدد حتى هوية القارة". وقال في مقابلة مع مجلة "زودويتشه تسايتونج" الألمانية نشرت في موقع المجلة على الانترنت في يوم 26 يوليو 2007م إنه "لا يجب إغفال محاولات أسلمة الغرب." وأضاف جاينزفاين "أن الخطر الذي يهدد هوية أوروبا يجب ألا يتم تجاهله بمبررات مثل الاحترام القائم على مفاهيم خاطئة".
لم يكتف سكرتير البابا بهذا بل عاد ليدافع عن كلمة البابا العام الماضي التي تضمنت اقتباسا من العصور الوسطى بشأن انتشار الإسلام بالعنف والتي أثارت موجة احتجاج عارمة في العالم الإسلامي قائلا: "وفقا لمفهوم الإسلام فان هناك مجموعة من الآراء المختلفة وأحيانا المتضاربة، مما ساهم في وجود متطرفين يستشهدون بالقرآن في أفعالهم واستعمالهم للسلاح". وأكد أن البابا كان محقاً فيما فعل وقال لأنه كان يحاول -كما يرى سكرتيره الخاص– "التحرك ضد سذاجة اتسم بها البعض في النظر إلى الإسلام."
تساءلت في نفسي، وأنا أحاول تفسير ما يعنيه سكرتير البابا بسذاجة البعض في النظر إلى الإسلام. حاولت أن أبدأ بنفسي وألا أكون ساذجاً في نظرتي إلى الإسلام. رغبت أن أحاول تقمص طريقة ومنطق تفكير هؤلاء القوم، فوجدتني أقول بثقة وطمأنينة وأنا أتقمص تلك الشخصية الأوربية المتوازنة: هل يعقل أو يمكن أن تتقبل أوربا الإسلام؟ إن أوربا هي بلاد الحريات والدعوة إلى السلام.. والإسلام كما يفهمه الغرب ويحذر العالم منه قد أصبح دين العنف والإرهاب، فكيف يمكن لأوربا أن تقبله؟ أوربا هي بلاد الليبرالية والتحرر من قيود الملبس والمظهر، والإسلام يقيد لباس المرأة والرجل، ويحدد معايير المقبول والمستحسن وفق معايير دينية وليست مدنية، فهل يعقل أن يقبل الأوربيون بهذا التقييد؟
أوربا هي بلاد القانون الوضعي والمجتمع المدني، وإزاحة الدين عن طريق الدنيا، والإسلام يعيد الدين إلى كل مناحي الحياة.. قانوناً ومجتمعاً ودنيا أيضا. فهل يعقل أن يقبل المواطن الأوربي بعالم الإسلام. أوربا هي كذلك صاحبة النسبية في الأخلاق والقيم والمعايير التي تحكم الخطأ والصواب في حياة المجتمعات، وهي التي أعلنت للعالم من قبلُ موتَ الإله -تعالى الله- وحق الإنسان في اختيار طريقة الحياة التي تناسبه، والإسلام جاء ليضع معايير ربانية للقيم والأخلاق والعادات تلزم الأفراد والمجتمعات بالانصياع لها والالتزام بها، فهل من المعقول أن يقدم المواطن الأوربي المتحرر على قبول الإسلام؟
إن أوربا هي قبلة المهاجرين من العالم الإسلامي بحثاً عن فرصة العمل المناسبة، أو هرباً من قهر السلطة في بلد ما، أو سعياً نحو حياة أكثر حرية أو انطلاقا أو سهولة. يصل هؤلاء إلى أوربا بمدنيتها وحرياتها وإمكانية الانفلات من كل قيود العالم الإسلامي الأخلاقية أو القانونية أو العقدية، فهل من المعقول أن يبقى هؤلاء على تمسكهم بالإسلام عندما تطأ أقدامهم أرض قارة الحرية والليبرالية.. أوربا المسيحية كما يحاول أن يحافظ عليها سكرتير بابا الكنيسة الكاثوليكية. هل يعقل أن يبقى هؤلاء على تمسكهم بالإسلام؟
إن كل ما سبق يشير منطقياً إلى أن الإسلام لا يمكن أن يغزو أوربا فكرياً أو عقديا.. المفروض أن شخصاً كسكرتير البابا لا يمكن أن يتخوف من الإسلام.. فهو قد ولد ألمانياً -أي في درة المدنية الأوربية- وتربى في حضارة أوربا وعلى أخلاقها وقيمها التي يراها فاضلة.. وجمع مع ذلك منصباً دينياً رفيعاً في كنيسة لا ترى نفسها أفضل من الإسلام فقط.. بل أكدت مؤخراً أنها ترى نفسها أفضل من كل طوائف المسيحية الأخرى أيضا.. لماذا إذا هذا التخوف من الإسلام؟
إنهم يقولون أن الإسلام هو دين العنف والإرهاب واللامساواة والرجعية والتقييد والقهر، وهو دين لم يأت للبشرية بخير، ورسوله لم يأت للبشر إلا بما هو غير نافع. إن كان هذا هو حال الإسلام -وهم الذين يؤكدون ذلك- فلماذا الخوف من "أسلمة أوربا".. هل يعقل أن يقع الأوربيون الفضلاء العقلاء المدنيون المتحضرون المسالمون في فخ قبول دين يوصف بما سبق ذكره من تخلف وإرهاب!
سؤالي لسكرتير البابا بسيط: إن كانت أوربا هي ما تقولون.. والمسيحية هي ما تعتقدون.. والإسلام هو ما تصفون.. فلماذا تخافون؟
إن هذا الإسلام الذي تصفون في تصريحاتكم وعباراتكم هو دين لا يمكن أن يقبله عاقل أوربي.. ولا يمكن أن يحتفظ به من هاجر إلى أوربا.. إلا إن كنتم تكذبون.. وأن الحقيقة هي بخلاف ما تقولون.
إنني أدعو البابا وسكرتيره ومن على شاكلتهم أن يفيقوا من غفلتهم وأن يواجهوا الحقيقة.. لأنها لن تتوارى في عالم اليوم. لم لا يسأل سكرتير البابا نفسه عن سبب انتشار الإسلام في أوربا.. وعن سبب احتفاظ المهاجرين إلى أوربا من العالم الإسلامي بهوياتهم واعتزازهم بدينهم. لماذا هي عامرة بالمصلين تلك المساجد المنتشرة في أنحاء أوربا بينما تحولت معظم كنائسها إلى متاحف يزورها السواح وليس المصلون.
تذكرت وأنا أكتب هذا المقال عبارة لأحد دعاة الإسلام يقول فيها: إن من يشاهد ظاهرة انتشار الإسلام رغم كل ما يواجهه من حملات عدائية من خصومه وتقاعس من أبنائه.. لابد أن يقتنع أن الإسلام هو دين الحق.. ومن يشاهد ضعف الأديان الأخرى وعدم قدرتها على نشر دينها أو الحفاظ على معتنقيه رغم الموارد المالية والبشرية الهائلة التي ترصد لذلك.. لابد أن يقتنع أنها ديانات باطلة أو محرفة.
دعوتي إلى قيادات الكنيسة الكاثوليكية الأوربية أن يفيقوا من وهم العصمة الزائفة، واتهام الآخرين بالسذاجة، ويكفيهم ما قاله لهم بابا الكنيسة المصرية مؤخراً عندما شدد بابا الكنيسة الكاثوليكية على "أولوية" العقيدة الكاثوليكية على بقية العقائد المسيحية، فقد قال البابا شنودة عن البابا بنديكت "في تصريحاته الأولى قبل بضعة أشهر خسر كل المسلمين، والآن خسر الكثير من الطوائف المسيحية لأنه بدأ يخطئ ضد المسيحيين أنفسهم".
يبدو أن الكنيسة الكاثوليكية قد عادت إلى نهجها القديم في التفنن في صناعة الأعداء، وأنها تسير قدماً بخطى متسارعة نحو دفع العالم من جديد إلى حقبة أخرى من الحروب الدينية التي ستعيد إلى مخيلة العالم أجمع فظائع الحروب التي أسماها الغرب "صليبية" ولم نسمها نحن كذلك. أقول لسكرتير البابا.. لا ترمِ الآخرين بتهمة "السذاجة" في النظر إلى الإسلام، فقد يتهمك غيرهم "بالحماقة" في التعامل معه، وليس ساذجاً من قرأ الواقع وعرف أن الاحترام هو طريق الحوار بين الشعوب والديانات والحضارات، ولكنه بالتأكيد أحمق من يقذف الغير بحجارة الاتهامات، وبيته هشّ ضعيف لا يقوى على تحمل تبعات الحق أو مواجهة الواقع.

المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك