ثقافة الكراهية في الغرب أصيلة أم مصنوعة

النشأة التاريخية والممارسات العدوانية الحديثة

نبيل شبيب

كلمة الكراهية كلمة مكروهة من حيث الأساس، ولكلمة الثقافة موضع آخر يتناقض معها، أو يُفترض أن يتناقض معها تناقضا مباشرا، نتيجة الحسّ الديني أو الحضاري أو الإنساني، فبأيّ منظور تناولنا كلمة الثقافة، نجدها تحتلّ في النفس البشرية مكانة تثير التساؤل عن قابلية الحديث عن شيء ما نسميه "ثقافة الكراهية"، وإن أمعنّا النظر والفكر لأمكن القول إنّ ما نسميه ثقافة الكراهية ليس إلاّ وصفا لظاهرة نشأت وتنشأ نتيجة الانحراف ثقافيا، وليس نتيجة ثقافة قويمة تصنعها المثل والمبادئ المستقرّة في النفس البشرية، انبثاقا عن معتقد سليم أو التجربة الحضارية التاريخية المديدة. 

 

مؤشرات ثقافة الكراهية في الغرب - جذور تاريخية لثقافة الكراهية - نشر ثقافة الكراهية - ثقافة الكراهية والسياسات العدوانية

مؤشرات ثقافة الكراهية في الغرب

إذا كانت الكراهية في الأصل شعورا فطريا بشريا يتلاقى أو لا يتلاقى مع المنطق -فقد يكره الإنسان شيئا فيه خيره ويحب شيئا هو شرّ عليه- فإنّ تعبير "ثقافة الكراهية" يشير إلى أنّ هذا الشعور الفردي يتحوّل إلى حالة اجتماعية، يوجد فيما يسود، أمّا ما يُعطى عنوان الثقافة فهو ما يدفع إليها، كما يوجد أيضا ما يستخدمها أداة لتحقيق أغراض لا علاقة لها بالثقافة القويمة، ويصعب تحقيقها دون طاقة تُستمدّ من أوار الكراهية.
مع عدم إغفال وجود ثقافة الكراهية بهذا المعنى في مواقع عديدة، ليست هي موضع الحديث في هذا الموضوع، نجد أنّ ثقافة الكراهية في الغرب تخصيصا، أصبحت نموذجا مثاليا على أنّ تحوّل الكراهية من شعور نفسي فردي إلى شعور جماعي عام له تطبيقاته في مجتمع ما، تجاه فئة بشرية داخل نطاقه أو خارجه، إنّما نشأ وينشأ في محاضن تطوّرات تحكّمت فيها عناصر أخرى، غير ثقافية، فانحرفت بالقيم الثقافية انحرافا خطيرا، تنطوي نتائجه على ظواهر عديدة ليست الكراهية إلاّ إحداها.
المؤشّرات إلى ثقافة الكراهية ومفعولها في الغرب حاليا عديدة والشواهد عليها معروفة. منها السؤال المتكرّر على لسان المسؤولين السياسيين، لا سيّما في حمأة حملة عسكرة الهيمنة الأمريكية بدعوى الردّ على تفجيرات نيويورك وواشنطون عام 2001م (علام يكرهوننا؟..) وهو سؤال كثيرا ما تناوله الناقدون من زاوية أنّه يختزل أسباب العداء المتنامي للسياسات والممارسات الأمريكية، ويلفت الأنظار عن البحث عنها في مضمون تلك السياسات والممارسات نفسها، ولكن قليلا ما تناولت الانتقادات أنّه ينطوي على مفعول بالغ الخطورة على المجتمع الغربي، فهو:
1- لا ينطلق من السؤال الأصلي "هل يكرهوننا أم لا ؟" بل يُطرح الأمر وكأنّه بدهية لا تحتاج إلى نقاش، أي يرسّخ في وعي المجتمع الغربي أنّ هذه الكراهية المزعومة أو الحقيقية قائمة ومنتشرة ابتداءً هكذا دون سبب موضوعي.
2- يسدّ السؤال "التقريري" أبواب البحث عن مواجهة الأسباب الحقيقية للعداء، ويوجّه طاقة ردود الأفعال في اتّجاه واحد، هو المواجهة أو الصدام، وقد بات "محتّما" وفق الأطروحات الفكرية لصدام الحضارات والثقافات، والأطروحات السياسية والعسكرية تحت عناوين من قبيل "الحرب على الإرهاب" أو "تجفيف منابعه" والمقصود "المنابع الثقافية" في الدرجة الأولى، عند الآخر، فتتحوّل علاقات التعايش الثقافي، إلى علاقات عدوان ودفاع.
3- ومن الشواهد الأخطر على انتشار ثقافة الكراهية في الغرب تلك الحالات المتكرّرة التي كشفت عنها الحرب في أفغانستان والعراق ممّا بات مستحيلا اعتبارها "حالات فردية شاذة"، والتي تجعل الإنسان الفرد قادرا على ممارسة أعمال تجرّده من "إنسانيته" كتلك التي صارت كلمات جوانتانامو، وأبو غريب، والحديثة، والفلوجة، والمعتقلات السرية، وغيرها رموزا فاضحة لها، أو لبعضها، فمن المعروف أنّ مثل تلك الحالات التي تنكشف للرأي العام لا تمثل سوى نسبة معيّنة من الظاهرة بمجموعها.
4- كما أنّ من الشواهد الخطيرة على انتشار ثقافة الكراهية جماعيا، أنّ ما صدر من إجراءات داخل الغرب لمواجهة أخطار الأعمال الإرهابية، لم يعد يقتصر على ما يحاصر المشكلة بحدّ ذاتها، وإنّما امتدّ ليشمل عموم "المسلمين" في الغرب، مع انتشار الاستعداد لدى الرأي العام أن يتقبّل تخصيصهم دون تمييز يستحقّ الذكر فيما بينهم، ولكن مع ما يميّز بينهم كفئة بشرية تمثّل "الآخر"، وبين بقية مكوّنات المجتمع الغربي.

إنّما لم ينشأ شيء من ذلك بين ليلة وضحاها، رغم محاولات الساسة الأمريكيين أن يجعلوا من يوم 11/9/2001م حّدا تأريخيا فاصلا بين ما قبله وما بعده، فلولا ما سبق من إعداد ثقافي اجتماعي طويل الأمد عبر القرون الماضية، لَما وُجدت الأرضيّة الاجتماعية التي سمحت بتوظيف حدث خطير بحدّ ذاته، لتسويغ سائر ما تبعه تحت عنوان الردّ عليه، فلم يقف عند حدود مَن ارتكبه مباشرة ولا حتّى عند حدود من قد يرتكب مثيله بصور أخرى. 

جذور تاريخية لثقافة الكراهية

ليس سهلا البحث في جذور تاريخية لظاهرة شاذة، فالكلام في ذلك يواجه منزلق التعميم، فينبغي أن يسبقه التنبيه إلى أنّ هذا البحث لا يعمّم، ولكن يتناول ظاهرة معيّنة فمن طبيعة الأمور الوقوف عند ما يرتبط بها دون التفصيل في سواها وهو موجود أيضا.
كما يصعب نقل صورة عن جذور تاريخية من دائرة الحضارة الغربية، على تعدّد فئاتها السكانية والتنوّع في مراحلها التاريخية، بصيغة تجد فهمها الصحيح في دائرة الحضارة العربية والإسلامية، مع ملاحظة أنّ الكلمة تشمل المسلمين وغيرهم وتشمل التنوّع الذي صنعته المراحل التاريخية المتعاقبة أيضا.
لهذا نجد أوّل ما يجدر تأكيده أنّ الغرب لم يعرف من قبل ما تعرفه الدائرة الحضارية الإسلامية بالذات، وترمز إليه توجيهات ربّانية عديدة، يكفي التنويه بعناوينها، مثل النهي عن أن يؤدّي "شنآن قوم" إلى التخلّي عن العدل والقسط معهم، أو التأكيد أن يكون الردّ على اعتداء الآخر باعتداء يماثله، مع الحرص على التقوى في الردّ أيضا، أو مثل وجوب الانتهاء على العدوان والجنوح إلى السلم، مع إعداد القوّة الذاتية الرادعة، في حالة توقّف عدوان الآخر، وجنوحه إلى السلم، حتى في حالة التحسّب من حالات الغدر بالعقود والعهود، كما يؤخذ من الآيات الواردة قبل آية الأمر بإعداد القوة التي ترهب العدوّ وبعدها.
وبالمقابل ينبغي تأكيد ما صنعه تاريخ الفلسفات الغربية -وهي مناط الفكر الغربي- فقد فَصَل بين كلمتي القيم والثوابت، فليس للقيم عنده ثبات أزلي، كما هو الحال في المفهوم الإسلامي للكلمة باعتبار مصدرها الرباني، عبر الفطرة التي فطر الله البشر عليها، وعبر الوحي. فالقيم في الغرب "إنتاج" يصنعه الواقع، فإذا تبدّلت موازين القوّة الفاعلة في هذا الواقع، تبدّلت القيم أو بُدّلت بصياغة القوانين، أو شمل التبديل مضامينها الاصطلاحية على الأقلّ، وقد تُنسب هذه العملية إلى الشعوب أو الغالبية أو التطوّرات الاجتماعية، إنّما لم يعد يخفى مفعول مراكز القوّة القادرة على صناعة الرأي العام، لا التعبير عنه، عبر احتكار جميع مصانع الكلمة اللفظية والتعبيرية، مكتوبة ومصوّرة، وكذلك مفعولها في استصدار القوانين بما يخدم المصالح المادية.

على هذه الخلفية نجد في تاريخ الغرب ثلاثة عناصر متكاملة مع بعضها، ومسيطرة على سواها، كان لها تأثيرها المباشر على صناعة ثقافة الكراهية، وهي العنصرية والصراع والجنوح المادي.
من أسمى القيم التي يُستشهد بها فكريا في الغرب من عصر الإغريق والرومان، تلك التي تعبّر عنها فلسفات أرسطو وأفلاطون، وأصبح منهج "الديمقراطية" يُربط بها في الحديث مثلا عن "ديمقراطية أثينا"، وكان أرسطو أوّل من استخدم كلمة "ديمقراطية"، ولكنّه استخدمها استهزاء بدعواتٍ فردية انتشرت في عصره للاستماع إلى "الدهماء" من عامّة الناس، وكان نصيبه من الملاحقة كبيرا كنصيب سلفه سقراط، الموصوف بأنّه "مؤسس الفلسفة الإغريقية"، وقد حُكم بالإعدام عقابا على نشر أفكاره في الطرقات بحديثه إلى العامّة من الناس ودعوته إياهم أن يعبّروا عن أنفسهم فيما عرف بالفلسفة التوليدية، القائمة على السؤال لاستخلاص الجواب من الطرف المسؤول. أمّا مَن يشيد بكتاب "المدينة الفاضلة" لأفلاطون، فالمفروض أنّه لا يجهل أنّ الحكم "الفاضل" فيها قائم عنده على ثلاث طبقات، ليس للدهماء فيها نصيب سوى العمل والانصياع للطبقة الحاكمة، فقط.
ومثل هذه العنصرية التي جعلت الطبقة المسيطرة آنذاك أقرب إلى آلهة الأساطير الإغريقية، وصلت في عهد الرومان إلى مداها التطبيقي الواسع النطاق، تجاه الشعوب الأخرى المستعمرة، وتجاه الرقيق، وفي حلبات المصارعة استمتاعا بمشهد قتل القويّ للأضعف. ثمّ انتقلت بعد اندماج المسيحية بالحكم الروماني إلى عنصرية طبقات رجال الكنيسة والإقطاعيين، حتى إذا بدأت حركة التطوير الصناعي في أوروبا، وبدأت الرحلات البحرية البعيدة، انتشرت الفكرة الاستعمارية القائمة على "استملاك" الأرض التي تصل إليها أقدام الأوروبيين، إلى درجة اعتبارها رحلات "استكشافية" جغرافية، فلا قيمة لوجود بشر من قبل، وهو ما ظهر مفعوله في إبادة الهنود الحمر في الأمريكتين، واسترقاق الأفارقة من بعد. كما أصبحت "السيطرة" مصدرا من مصادر "حقّ الاستملاك" للبشر وأرضهم وثرواتهم الأرضية، وهذا ما يتّصل بعنصر الصراع، إلى درجة استحالة رصد قرن غربي واحد خلا من الحروب والنزاعات الدامية حتى القرن الميلادي العشرين، عندما حلّ السلام بين الغربيين بعد الحربين العالميتين، إذ انتقلت ساحات القتال إلى ما وراء حدود الغرب بشقيه الرأسمالي والشيوعي، أي إلى أرض "الآخر"، فسجّلت حقبة "الحرب الباردة" أكثر من 150 حربا ساخنة، كانت إمّا بمشاركة مباشرة أو عبر قوى مرتبطة بالمعسكرين.
لقد طغى عنصرا العنصرية والصراع على ذروة ما حققته حقبة التنوير الأوروبية من إنجازات إنسانية، حتّى أنّ مواثيق حقوق الإنسان وُلدت في محاضن العنف والاقتتال، في الحرب الأهلية الأمريكية، والثورة الفرنسية، ومن قبل فيما عُرف بالثورة البريطانية، ومن بعدُ فيما عُرف بالثورة البلشفية، وجميعها حروب دموية، فكان تثبيت الحقوق والحريات الإنسانية مقترنا بتعميم أخطر مقولة على مستقبل البشرية من بعد، وهي الزعم القائل إنّ "الحقوق تُنتزع انتزاعا"، فهذا ما انعكس في مختلف الميادين المعيشية، كحقوق العمال والعاطلين عن العمل، وحقوق المرأة والشبيبة، وحقوق المتقاعدين والأكبر سنا، فعملية "انتزاع" الحق تتطلّب "قوّة" تنتزعه، وقد أصبح عصبها هو المال، وهذا هو المقصود بعنصر الجنوح المادي الثالث المشار إليه آنفا، ولهذا كان -وما يزال- الطرف الأضعف بموازين القوّة الحديثة، هو الطرف الخاسر على الدوام، مهما بلغ تثبيت حقوقه في نصوص وقوانين محلية ودولية مع اختيار أفضل الصياغات لها، إذ أثبتت تجربة جولات الصراع بلا نهاية، على أجور العمال، وعلى حقوق المواطن، وعلى حقوق المرأة، وغيرها، أنّ هذا التثبيت لا يفيد عند إغفال إيجاد الآليات الضرورية لتطبيق حقيقة أخرى بسيطة، هي أنّ الحقوق والحريات أصيلة، تولد مع ولادة الإنسان، ولا يفقدها مهما تقلّبت به حالاته المعيشية حتى مماته، فليس هو المسؤول عن "انتزاعها" رغم ضعفه الآنيّ وقوّة سواه، بل المجتمع الذي يعيش فيه هو المسؤول عن تأمينها بمختلف الوسائل.
إنّ العامل العنصري، مع نهج الصراع، ومركزية القوّة المادية في التعامل البشري، جعل من نشأة ثقافة الكراهية للآخر في الغرب تطوّرا حتميا ناجما عن انحراف فلسفي فكري تاريخيا، وهنا فقط يمكن استيعاب ما ساهمت فيه التطبيقات الثقافية التفصيلية في اتجاه مماثل، رغم وفرة العطاءات والإبداعات. 

نشر ثقافة الكراهية

مرّة أخرى ينبغي التنويه أنّ التعميم لا ينفي وجود استثناءات، ولكن تظهر هنا قيمة مقولة "الاستثناء يعزّز القاعدة"، إذ نرصد في الحياة الثقافية الغربية عبر عدّة قرون مضت، كيف اشتهرت نسبة معيّنة من العطاءات الإبداعية الثقافية، منها في الميدان الأدبي القصصي مثلا، روايات السلام والحرب، ودكتور شيفاجو، وكوخ العم توم، والبؤساء، وأمثالها، وتشير شهرتها إلى أنّها أقرب إلى تأكيد أنّ مضامينها تحدّت ما أصبح سائدا، فعبّرت عن ثوابت القيم الإنسانية المشتركة في تاريخ البشرية، وهذا بدوره من أسباب الارتقاء بها إلى مستوى "روايات عالمية". ويمكن لمن أراد التفصيل استخلاص أمثلة مشابهة من قطاعات ثقافية أخرى.

إنّ الأوسع انتشارا، والأكثر تعبيرا، والأعمق تأثيرا، من نماذج الثقافة الغربية الحديثة هو ذاك الذي يعبّر عنه الإنتاج السينمائي الأمريكي، بدءا بمسلسلات القتل فيما صنع رعاة البقر بالهنود الحمر وببعضهم بعضا، مرورا بمسلسلات الأفلام الحربية عن عصور الإغريق والرومان وسواهم واستعباد الآخر، وبمسلسلات تصوير حقبة عصابات الإجرام المنظمة من مطالع القرن العشرين الميلادي، انتهاء بمسلسلات أفلام الرعب والقتل المطلق التي يرمز إليها عنوان "رامبو" وما بات ينتشر في منتجات التقنية الحديثة من ألعاب الحاسوب للأطفال والناشئة.
وتشهد الدراسات أنّ القسط الأعظم من هذا الإنتاج، كان قائما على اصطناع عدوّ يستحقّ الكراهية، وتصويره بما يجعل هذه الكراهية محتّمة، فحتى في الحالات الاستثنائية لوجود فرد من الأفراد "الطيبين" من الطرف المستهدف، أي الروس والصينيون وغيرهم من الشيوعيين أيام الحرب الباردة، والعرب والمسلمون سابقا وإلى ما بعد مسلسل الحروب الإرهابية الأمريكية الأخيرة، فقد كان يُربط وجود هذا الفرد "الطيّب" بأنّه حالة استثنائية، أو بأنّ إنسانيّته تعود إلى ارتباطه بقيم غربية ما، وعلى وجه التحديد القيم الأمريكية.
وتشهد مقابل ذلك عمليات استطلاع الرأي أنّ الصور النمطية التي صنعتها تلك المسلسلات، وهي نموذج واحد مثالا على سواها من عوالم الثقافة الفكرية والفنية والأدبية والمسرحية والتعليمية والإعلامية، قد أدّت مفعولها إلى حدّ بعيد، فبات الطرف المستهدف مكروها فعلا لدى العامّة أو غالبيتهم، ولهذا أصبحت الحرب عليه، وإن انطوت على جوانتانامو وأبو غريب والقوانين الاستثنائية وغيرها، أمرا مطلوبا مسوّغا ومستساغا. ولهذا أيضا نجد أنّ انقلاب الرأي العام في الغرب على القادة السياسيين والعسكريين في حدث خطير كحرب احتلال العراق، لا يجد تعليله -في الأعمّ الأغلب- لدى العامّة ولدى الحريص على أصواتهم الانتخابية من المسؤولين، في حقيقة مقتل مئات الألوف من المدنيين وغير المدنيين، من غير الغربيين، بل في حقيقة سقوط بضعة ألوف من الغربيين أنفسهم ضحية لتلك الحرب. 

ثقافة الكراهية والسياسات العدوانية

وقد شهدنا كيف استُخدمت مقولات وُصفت بزلاّت لسان مثل "الحرب الصليبية الجديدة" لتوظيف مخزون ما صنعته الممارسات الفكرية والثقافية لنشر الكراهية، من أجل تعبئة الطاقات الضرورية لحرب إرهابية واسعة النطاق عالمية المجال، ولم يكن هذا حالة استثنائية، فلا يزال الأوروبيون يذكرون كيف كانت رئيسة الوزراء البريطانية سابقا مارغريت تاتشر تسوّغ السياسة الأوروبية المنحازة في البلقان أثناء حرب الإبادة ضدّ البوسنيين بالتحذير من خطر "عودة الأتراك إلى أسوار فيينا".
إنّ من أخطر جوانب ثقافة الكراهية في الغرب، أنّها لا تقف بمضمونها ومفعولها عند حدود ما يسمّى إبداعا ثقافيا أو أدبيا أو فنيا، بل تقترن اقترانا مباشرا بالممارسات السياسية والعسكرية، فهنا لا تقتصر الحصيلة على ضحايا "تضليل ثقافي"، بل تشمل الأرواح والدماء والثروات، على حساب الطرف الآخر عالميا، وعلى حساب مَن تجري تعبئتهم داخل الغرب نفسه لأغراض عدوانية خارج حدوده.
وقد يمنع الإيجاز من إيراد ما يكفي من الشواهد والأمثلة التفصيلية لبيان هذا الارتباط الوثيق، والدائم، وهي لا تقتصر على ما كُتب ونشر عن صلة المقدمات والنتائج عبر عصور الاستشراق والتبشير وحملات الاستعمار والتدمير تاريخيا، بل نجد ما يماثلها على امتداد القرن الميلادي العشرين، الذي يمكن وصفه بقرن انتشار الهيمنة الأمريكية، وقد بدأ القرن الحادي والعشرون بظهور معالم انحسارها.
بدأ بوش الابن والمحافظون الجدد عهدهم "القصير" بالعزم على جعل القرن الميلادي الجديد أمريكيا، انطلاقا من وهم التفوّق على الآخر، أو بتعبير المؤرّخ الأمريكي هنري ستيل كوامنيار القائل: (أسطورة الإحساس الأمريكي بالتفرّد في صفات يختلف بها عن سواه، ولّدت لديه أسطورة أخطر هي الوهم بأنّه متفوّق على الآخرين).
وكان هذا تكرارا مباشرا لِما عبّر عنه الرئيس الأمريكي الأسبق وودر ويلسون (1913-1921م) بدعوته إلى الانتشار عالميا من أجل (إنقاذ الأعراق الأخرى التي ما تزال في عمر الطفولة) وهو ما تمّ تسويقه تحت عنوان دعم الشعوب للتخلّص من الاستعمار، الشبيه بدعوات زائفة إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان حديثا، رغم قول معاصره (أي ويلسون) آلبيرت بيفردج، عضو مجلس الشيوخ الأسبق (يجب أن نمتلك التجارة العالمية وسوف نملكها، وهذا ما يحقّق المصلحة لسوانا، فحضارتنا الأمريكية يجب أن تضرب جذورها في كلّ مكان لا يزال أهله يعيشون في ظلام دامس). والمقولة نفسها تتكرّر فيما يجري تطبيقه إلى اليوم، كما يشهد مثلا تعديل صياغة مهامّ حلف شمال الأطلسي وفق الرغبة الأمريكية، لتتضمّن منذ عام 1999م حقّ التحرّك عسكريا لحماية "مصالح" مادية، مثل طرق نقل وقود الطاقة والمواد الخام للغرب، ليس من باب مصالح "متبادلة"، بل وفق منظور انتشر عن الآخر عالميا، وتعبّر عنه مقولة المؤرّخ الأمريكي رونالد ستيل: (منذا الذي يستطيع أن يتحدّانا الآن؟.. اليابان بلد فقير بالمواد الخام ويحتاج إلى أسواق الاستهلاك الخارجية، والصين شعوب متعدّدة الأعراق على وشك السقوط في حروب ما بين سادة وعبيد، والهند على حافة التمرّد الداخلي والفوضى المطلقة، وأوروبا لن تتجاوز أن تكون دارا تجارية استهلاكية ضخمة حافلة بالمشاجرات؟..)
إنّ الجانب العدواني في عسكرة الهيمنة الأمريكية حديثا ناجم مباشرة عن الجانب العدواني الذي صنعه الانحراف ثقافيا إلى درجة نشر "كراهية الآخر"، ولا مخرج من ذلك دون "تعديل الأفكار والفلسفات والمناهج" في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما، وهذا ما يمكن فهمه أيضا من إحساس قطاع كبير من المفكرين والمثقفين الغربيين بالأزمة الثقافية الكامنة في عدوانية الهيمنة، والتي عبّر عنها بعد عام واحد من احتلال العراق مضمون رسالة "استغاثة" نشرها في آذار/ مارس 2002م في عدد من الصحف الغربية،130 مفكّرا ومؤرّخا ومثقّفا أمريكيّا وجاء فيها: (الفارق العام بين حروب الاستعمار التقليدي والعولمة الأمريكية الحالية هو حجم القوّة المدمّرة التي تسيطر الولايات المتحدة الأمريكية عليها، وابتعاد الجهة التي تتحكّم فيها وتديرها عن كل حكمة أو عقلانية في التصرف. ونحن المثقّفين نواجه الخيار العسير بين دعم الإدارة الحاكمة وما تستخدمه من إمكانات التدمير الكبيرة مسوّغين لها أعمالها، وبين مواجهة هذه العجرفة وإسقاط الأقنعة عنها والتعاون مع محبي السلام في العالم لإيجاد ما يضمن التفاهم والحوار ويحقّق العدالة للجميع). وخُتمت الرسالة بقول الموقعين عليها من علماء وأساقفة ورجال أدب وفكر: (الدفاع عن النفس مهمّة يحمل الجميع مسؤوليتها وعلى المجتمع الدولي أن يدافع عن نفسه في وجه عجرفة القوّة الأمريكية التي تستغل مصطلح الدفاع عن النفس وتسيء استخدامه، فالولايات المتحدة الأمريكية تعمل منذ نصف قرن من أجل إعطاء العالم صورة أخرى وفق ما تريد، ولو كان ذلك على أشلاء الضحايا، وعلينا في الدول المتقدّمة الدفاع عن المثل والقيم الإنسانية التي ندعو إليها ونتباهى بتبنّيها، ولا يتحقّق ذلك دون التضامن مع ضحايا التعجرف والهيمنة العسكرية الأمريكية).

المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك