بعيون الآخر

أرضية الحوار هي الأهمّ لنجاح الحوار

نبيل شبيب

صدرت مشاريع رسمية أمريكية عديدة بهدف "تحسين صورة أمريكا لدى العرب والمسلمين"، وليست هذه المشاريع معزولة ولا يمكن عزلها عن ممارسات سياسية واقتصاديّة وعسكرية انحدرت بمصداقيّتها واحتمال التجاوب الشعبي معها إلى ما دون الصفر. ولكنّ الحوار مع الآخر وضمان وجود صورة قويمة لديه مطلب جوهري بحد ذاته، لا ينبغي أن يعرقله الانشغال بأفاعيل "صانع القرار الأمريكي". 

تحرير الحوار - للصور تفاصيل مهمّة - الحوار لا يكفي - كلمة في الصحوة الإسلامية

تحرير الحوار

أوّل ما يجب تثبيته هنا:
1- لا يتمثّل الغرب في الطبقة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهي غير متجانسة، من دون الفئات الفكرية والثقافية والفنية وغيرها، وهي غير متجانسة أيضا. والأهمّ من ذلك أنّ الغرب، رغم كلّ تطبيقاته الديمقراطية المتطوّرة والإيجابيّة، يتألّف من طبقات شعبية محكومة هي الغالبيّة وأخرى حاكمة ومهيمنة تشكّلها واقعيّا القلّة من مراكز القوى، ولا تكفي المقولات التعميمية عن الديمقراطية وجوهرها الفكري النظري، لاستيعاب تفاصيل واقع تمثيل الحكومات للشعوب، ما لم توضع هذه المقولات في موضعها من مجمل عوامل صناعة القرار، الماديّة والدعائيّة وكذلك الفكرية والثقافية.
2- كلمة "الآخر" كلمة نسبية يحدّدُ المقصودَ منها موقعُ المتكلّم، فالعرب والمسلمون هم الطرف الآخر بالمنظور الغربي مثلما أنّ الغرب هو الطرف الآخر بمنظورهم، ولا يصلح الحوار معنى وتطبيقا إذا بقيت العلاقة مع الآخر "شارعا باتجاه واحد"، ولكنّ الأخذ والعطاء لا يعني التخلّيَ عن الثوابت، بل شرطه المسبق هو الاحترام المتبادل لها.
2- ينبغي التخلّص من ظاهرة حديثة النشوء، غلب فيها لدينا طرح العلاقة بالآخر بأسلوب "جلد الذات"، كردّ فعل على اتّهامات محقّة، بالتقصير في إصلاح أنفسنا أولا، وبالتركيز على تحميل الآخر المسؤولية عن نكباتنا ثانيا، ولكن قليلا ما نبحث -بدلا من ردود الفعل- عن معادلة تحفظ التوازن الذي لا غنى عنه في معالجة قضايا من هذا القبيل، فمحاسبة الذات تخفق عندما تصوّر "الآخر" ملاكا، كما أنّ تثبيت المسؤولية على "الآخر" وحده يوصل للتراخي والعجز والضياع. 

للصور تفاصيل مهمّة

انتشرت في الغرب صور تعميمية مشوّشة، ومشوّهة عدائيّة، عن العرب والمسلمين، نشكو منها، ونعلم بالمقابل أنّ الغرب يشكو من صورة منتشرة لدينا عنه هي بمنظوره تعميمية مشوّشة، ومشوّهة عدائيّة أيضا.
بعيدا عن تفاعل من يتفاعل دون جدوى مع الأسلوب الأمريكي "الرسمي" المتعجرف، والمستحيل أن يوصل إلى نتيجة إيجابيّة، يبقى من الضروري تصحيح الصورتين الآن أكثر من أي وقت مضى، وهذا ما يتحدّث كثيرون عنه. ولا يتحقّق التصحيح المتبادل بأن يتنازل كلّ طرف بالقدر نفسه الذي يتنازل به الطرف الآخر، فالأخذ والعطاء هنا ليس "صفقة تجارية"، إنّما يتحدّد ما يجب التمسّك به وما يجب التراجع عنه لدى كل طرف، انطلاقا من وضوح الرؤية للصواب والخطأ، وهذا ممّا يتطلّب بدوره تحديد معالم المشكلة في كلّ من الصورتين المطلوب تصحيحهما. وسرعان ما تبيّن النظرة الأولى أنّ طبيعة الأخطاء في كلّ منهما متميّزة بذاتها، وهذا بعض ما ينبغي توضيحه والخروج به من الصيغ التعميمية، ليمكن التصحيح أصلا.
إنّ تثبيت المعالم "المتقابلة" أو المتشابهة لانتشار الصورة السلبية لدى كلّ طرف عن الآخر، يحتاج إلى استكمال بتثبيت نقاط التباين أيضا، ولتوضيح ذلك يمكن تعداد الجوانب الأربعة التالية كأمثلة:
1- أصبح معلوما في الغرب عموما، أنّ كثيرا من المسلمين يرونه في الدرجة الأولى عبر خبراتهم مع الاستعمار القديم والامبرياليّة الجديدة، وهذا لا يكفي، وبالمقابل أصبحت الصورة التي تُنشر عن العرب والمسلمين هي غالبا تلك الصادرة عن خبرات الغرب مع فريقين رئيسيين هما المستبدّون والإرهابيّون، وهذا لا يكفي أيضا.
2- يرفض كثير من المسلمين ما يرونه سلبيّا وضارّا بالإنسان والبشرية من "طريقة الحياة الغربية"، ولا يراه الغربيّون كذلك، مثل التعامل الغربيّ مع "الأسرة" وما يعتبره الغرب تحرّرا جنسيا، ويعتبره المسلمون انحلالا، وبالمقابل تنتشر تصوّرات مستهجنة في الغرب عن العرب والمسلمين، تعتمد أحيانا على ممارسات سلبيّة من جانب كثير من المسلمين، وهي بعيدة عن الإسلام نفسه، وأهمّها ما يرتبط بالتعامل مع المرأة، ومع حقوق الإنسان عموما، ومع الحداثة، إضافة إلى عناصر عديدة أخرى، لها في الغرب قيمة عالية، بغضّ النظر عن تقويم الممارسات العمليّة الغربيّة على أرض الواقع. ولكن -رغم أهمية هذه القضايا- فهي تمثّل فروعا لن ينتهي الجدال حولها، ما لم يتمّ تأصيل الحوار حول "المنطلقات والتصوّرات والقيم والثوابت" التي تتفرّع عنها العلاقات الاجتماعية وسواها.
3- ومن جوانب الخلل أو التباين في بنية الصورتين المشوّهتين، أنّ صانعي القرار –السياسي وسواه- في الغرب يربطون ربطا متعمّدا بين الممارسات السلبيّة من قبل الإرهاب والاستبداد وحتّى التخلّف وبين التعاليم الإسلاميّة نفسها، ويتجاهلون نشأتها واستفحالها نتيجة "انحرافات" بعيدا عن التعاليم الإسلاميّة، بل على وجه التحديد في حقبة تاريخيّة تميّزت بإقصاء الإسلام وتعزيز التغريب. وبالمقابل فإنّ ما يرفضه المسلمون من ممارسات في الغرب، لا يضعون مسؤولية انتشاره على عاتق المسيحيّة وهي ديانة الغالبيّة من سكانه، بل أقصى ما يقول به الناقدون للغرب هو انهيار القيم والأخلاق فيه نتيجة التخلّي عن المسيحية أو الانحراف بها عن أصولها.
4- يتجاهل الغربيّون إلاّ القليل من المنصفين منذ زمن بعيد الإنجازات التاريخية التي حقّقها العرب والمسلمون عبر حضارتهم ودورها الثابت في مسيرة التطوّر البشرية المشتركة، ويقابل ذلك أنّ العرب والمسلمين لا ينكرون الإنجازات الإيجابية المعاصرة للغرب، إذ يقدّرون بصورة ظاهرة للعيان التقدّمَ التقنيّ والعلميّ بحدّ ذاته، وإن كانوا يدينون توظيفَه لغايات مرفوضة لا تخدم خيرَ الإنسان وسعادته وحفظ كرامته، والنقد يصدر أيضا عن فريق من مفكّري الغرب، كما يقدّر العرب والمسلمون ميزات أخرى في النظام الغربي، مثل فصل السلطات وحقوق الإنسان وسيادة القانون، ولا يكاد ينقطع الحديث عن ذلك كما هو معروف. 

الحوار لا يكفي

يتطلّب تصحيح الصورتين المشوّهتين جهودا كافية ومستمرّة، تتضمّن فيما تتضمّن معالجة الأخطاء التي ارتُكبت عند تشخيص المرفوض والمقبول لدى الآخر. ولكنّ الكلام الطيّب وحده لا يوصل إلى شيء عمليّا، لا سيّما إذا صدر عن الجانب الذي يملك حاليا الإمكانات الأكبر لتحقيق تغيير في أساليب التعامل المهيمنة على العلاقة الثنائية، ولا يستخدمها في الاتجاه الصحيح.
إنّ الحديث عن العلاقة مع الآخر، يفقد قيمته الذاتية ومفعوله المرجو إذا أغفل معطيات أوّلية يجب إيجادها، ويجب بالتالي بيانها عند طرح هذا الحديث، أو طرح مبادرات ما على هذا الصعيد، ومنها:
على الصعيد العربي والإسلامي:
لا بديل عن مضاعفة الجهود الذاتية، من أجل إزالة ظواهر سلبيّة معروفة، ولكن لن تزول إلاّ بمقدار فصلها عن التهديدات والإنذارات والضغوط الخارجية، وربطها مباشرة بتحقيق المصالح الذاتية، فهذه الجهود مطلوبة بإلحاح بغضّ النظر عن موقع "الإصلاح" من مسألة الحوار والعلاقة مع الآخر.
والسلبيات الأهمّ المقصودة هي على وجه التحديد:
أ- الاستبداد بجميع أشكاله، مع الرفض المطلق لمقولات تدور حول فرضيّة وجود ما يُسمّى "الحاكم الشموليّ العادل".
ب- الإرهاب بمختلف تعليلاته، مع الرفض المطلق لخلط أيّ جهة من الجهات، بين الإرهاب وبين المقاومة المشروعة، والخلط أصبح يصدر عمّن يريد قمع المقاومة وكذلك عمّن يمارس الإرهاب.
ت- انتهاكات حقوق الإنسان وحرياته ممّا يشمل الرجل والمرأة على السواء، وينتشر في مختلف الميادين السياسية والمعيشية.
على الصعيد الغربي:
أ- يستحيل تحسين صورة الغرب عند العرب والمسلمين عن طريق "الحوار" وحده أو عبر تمويل حملات إعلامية كبرى، ما لم يتخلّ الغرب عن ممارساته وأهدافه السياسية والاقتصادية والعسكريّة التي لا شأن لها بمصالح عادلة، وعلاقات مصلحية على قدم المساواة، إنّما ترتبط تلك الأهداف والممارسات بالاستعمار الحديث. ويشمل ذلك اللجوء الدائم إلى التهديد بوسائل الضغوط المختلفة، للإملاء على "الآخر" ما يصنعه وما يتركه داخل إطار مجتمعه. ولهذا فإنّ الغرب -وهذا ما لا ينبغي التردّد عن تأكيده لمفكّريه ومثقفيه في الدرجة الأولى- هو الذي يحمل المسؤوليّة الأكبر عن الانهيار المتكرّر لمحاولات مدّ الجسور وتفعيل الحوار.
ب- كما يستحيل أن يوصل الحوار إلى نتيجة ما دام الطرف الغربي يتجاهل التعدّدية الموجودة على أرض الواقع لدى الطرف الآخر، العربي والإسلامي، وهذا التجاهل يجعله يقتصر على التواصل الانتقائي، عبر قنوات معيّنة وعن طريق جهات محدّدة، أصبحت من خلال تيّارات التغريب أقرب إلى الغرب أصلا، وآنذاك يصبح الحوار "حوارا مع الذات بالنيابة"، بينما يبقى مغزى الحوار الهادف مرتبطا بكونه يجري بين فريقين مختلفين، وليس متماثلين.
ت- كذلك فمن الصعوبة بمكان الوصول بالحوار إلى شيء له قيمة مؤثّرة ما دام الغرب يرسّخ دعائم "احتكار حضاري وتقني" فلا يفتح إمكانات مشاركة الآخر في ثمرات التقدّم، لا سيّما وأنّ هذه الثمرات هي نتيجة تطوّر تاريخيّ متواصل لحضارات عديدة، بما فيها الإسلاميّة، وليست ثمرات تطوّر صنعه العالم الغربيّ وحده. 

كلمة في الصحوة الإسلامية

ينبغي التنويه أيضا إلى ضرورة التخلّص من خطأ جوهري واسع الانتشار، نتيجة الربط المصطنع بين الظواهر السلبية المرفوضة لدى العرب والمسلمين، وبين تعاليم الإسلام، وهو خطأ ناجم عن تجاهل حقيقة أنّ تلك الظواهر كانت وليدة حقبة سادت فيها العلمانيّة الغربية المنشأ، ففيها كان كلّ تحرّك عنيف ضدّ القيم والتعاليم الأصلية للإسلام والدعاة إليها، ينشر التربة الملائمة لخليطٍ متفجّر يشمل فيما يشمل مشاعر الانتقام وبذور دعوات ذات قدسيّة مزيّفة من جانب القوى المتطرّفة باسم الإسلام.
1- لقد اقترن انتشار أحدث صور الاستبداد وأشدّها بانتشار هيمنة علمانية أصولية تعادي الإسلام
2- وانتقلت ممارسة العمليات التي توصف بالإرهاب من بلاد الغرب إلى المنطقة العربية والإسلامية عن طريق منظمات معادية للإسلام فكرا وتطبيقا في سبعينات القرن الميلادي العشرين، وما دخلت فئات تحمل عناوين إسلامية هذا الميدان إلاّ في فترة متأخرة
3- وانتشر انتهاك حقوق الإنسان، لا سيّما المرأة، بانتشار أنظمة شمولية، وكان أعنف أشكاله ما صدر عن أنظمة وتيارات أقلّ ما يقال فيها، إنّها لا تلتزم بتعاليم الإسلام "المتّهمة!"
4- وجميع ذلك لا ينفي أنّ الجهل -أو التجهيل- بالإسلام كما أنزل، أدّى إلى انتشار ممارسات تتناقض مع الإسلام وتحمل عناوين إسلامية، وهي ممارسات منتشرة شعبيا وفي أوساط من يوصفون بالنخبة، وسواهم.
لم يكن الإسلام عقيدةً ومنهجا، وإنّما كان إقصاؤه على مستوى الحكومات والمجتمعات والمناهج الموجّهة هو الأرضية التي مكّنت من انتشار هذه الظواهر وانتشار الفساد على نطاق واسع. ولهذا فإنّ عودة كثير من المسلمين من جيل الشبيبة في الوقت الحاضر إلى القيم الأصلية للإسلام تعني على المدى المتوسّط والبعيد مواجهة الظواهر السلبية المذكورة في العالم الإسلامي، كما أنّها توجد فرصة حقيقيّة لنشر قيم أساسية، كالتسامح والعدالة والاعتدال داخل البلدان والمجتمعات الإسلامية، ممّا يجدّد رياح المناقشات حول الإصلاح الحقيقي. ومن الضروري أن يتوقف التعامل غربيا، وكذلك عربيّا وإسلاميّا، بأساليب التشكيك إزاء هذه الصحوة، وأن يتوقّف الخلط الفاسد بينها وبين اتّجاهات التشدّد، أو الإرهاب، أو ما شابه ذلك.
وإنّ من ضرورات الحوار أن يكون بيان ذلك في مقدّمة المطالب تجاه (1) الغرب وهو الطرف الآخر، و(2) تجاه تيّار التغريب وقد بات أحد الأسباب الرئيسية لعرقلة الحوار، و(3) على مستوى بعض أصحاب الاتجاه والفكر الإسلامي، ممّن بات يمارس المحاسبة الذاتية بأسلوب جلد الذات. وآنذاك يُرجى أن تتنامى الفرص المرجوّة أمام تفاهم صادق ودائم بين الشعوب، وبين الشعوب والأنظمة، في المنطقة العربية والإسلامية، وفي إطار التعامل مع الآخر في الغرب أو عالميا.

المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك