معضلة ألمانيا العلمانية مع المسلمين فيها

هل أخفق التعدد الثقافي.. ومن المسؤول؟
التعامل مع المسلمين
إخفاق التعدد الثقافي!
المطلوب: إسلام آخر
تقول المؤسسة الألمانية الاتحادية للإحصاء (حول 2009م) إنّ عدد سكان ألمانيا 82 مليون نسمة، منهم ذوو الخلفية الأجنبية"، وعددهم 15،7 مليون نسمة (حوالي 20 في المائة)، ومن هؤلاء أجانب دون جنسية ألمانية (7،2 مليون أو 8،8 في المائة) والآخرون متجنّسون (8،5 مليون أي 10،4 في المائة). وأصبح تعبير: "ذو خلفية أجنبية" يُستخدم بحكم المصطلح، ويعني: الوافد دون أصل ألماني، وأولاده، وأحفاده، أو من يكون من أبوين أحدهما فقط ألماني الأصل. وعندما يجري الحديث عن اندماج وتعدّد ثقافي وما شابه ذلك فالمقصود به شكلياً هؤلاء على وجه التعميم، إنّما بات التمييز واضحاً على أرض الواقع بين ذوي أصول أجنبية أوروبية وأمريكية بما لا يستثني الأمريكتين الوسطى والجنوبية (أي الخلفية المسيحية واليهودية في الوجود الثقافي للعلمانية تاريخيا وحاضرا بشكل متشابك مع فلسفات التنوير والحداثة) وبين ذوي أصول أخرى بخلفية دينية متباينة. بل زاد التمييز على ألسنة كثير من المسؤولين حديثاً من خلال تعبير "الدائرة الثقافية/ الحضارية الأخرى" مع قصر المقصود على المسلمين، فجميع ما عدا ذلك ليس مستهدفا بالحديث عن "صعوبات" على طريق الاندماج أو التعدّدية الثقافية.. ممّا يشمل أصحاب الديانات الهندوسية والبوذية والطاوية والزرادشتية وغيرها (كما يشمل القاضيانيين والعلويين الذين ما زالوا يُحسبون على المسلمين، والبهائيين الذين أعلنوا عن كونهم ديانة قائمة بذاتها).
الجدير بالذكر أن التعامل الألماني المتشنّج عبر السنوات الماضية مع عنوان "ألمانيا بلد هجرة" يغفل أو يتغافل عن حقيقة أنّ تكوين ألمانيا نفسها كان من خلال هجرات وهجرات مضادة عبر قرون عديدة، وأنّ الألمان هاجروا واستقروا في بلدان عديدة (هم حوالي ربع المواطنين في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا ومنتشرون في العديد من دول أمريكا الجنوبية مثلا آخر) ولا يقبلون لأنفسهم بطبيعة الحال أن يكونوا في حكم مواطن من الدرجة الثانية في أي بلد استقرّوا فيه.
حول المسلمين في ألمانيا ذكرت آخر دراسة لوزارة الداخلية الألمانية من عام 2009م، أنّ عدد المسلمين في ألمانيا يزيد على 4،3 مليون نسمة، وأن الأتراك أو ذوي الأصول التركية منهم يمثلون أكثر من الثلثين (ويشمل ذلك زهاء 400 ألف من الأكراد من حملة الجنسية التركية في الأصل). ويتوزّع المسلمون حسب المذاهب على 73 في المائة من السنّة، و7،3 في المائة من الشيعة، والباقون من العلويين (الأتراك) والقاضيانيين، وفق اعتبارهم مسلمين من جانب الجهات السياسية الرسمية وغيرها.
في التعامل مع إعطاء صورة "تعميمية" عن "نوعيّة" الوجود الإسلامي في ألمانيا يجري التمييز بصورة تلفت النظر وتتناقض مع الواقع على صعيد جوانب عملية، ومن ذلك مثلا "ارتكاب الجريمة"، ولنقارن مثلا:
1- "المافيا الروسية" –كمثال- باتت مشكلة مستعصية على أعلى مستويات اتخاذ القرار، ولكن لا تُربط بالأصل الروسي ولا بالديانة الأورثوذوكسية في حملات سياسية أو إعلامية..
2- ارتفاع نسبة سرقة السيارات الألمانية إلى درجة جعلتها "قضية سياسية رسمية" ومشكلة حدودية داخل نطاق الاتحاد الأوروبي –كمثال آخر- وليس مجهولاً أنّ وراءها عصابات بولندية الأصل في الدرجة الأولى، إنّما لا يُربط ذلك بثقافة كاثوليكية دينية..
3- بالمقابل يعلّق السياسيون والإعلاميون طويلاً إذا ظهر أنّ نسبة الشبيبة المسلمة أعلى من النسبة الوسطية على مستوى انتهاك القوانين في أدنى درجات "الجنحة".. (وفي ذلك شيء من التضليل سيذكر لاحقا) وليس فيما يُصنّف قانونياً في مرتبة "الجريمة"..
4– كما يجدر التنويه أيضاً بأنّ التركيز المكثف على ارتفاع "نسبة العنف" بمعنى ارتكابه أو التهديد به أو الميل إليه في أوساط شبيبة المسلمين في الغرب، لا يقوم على مقارنة دقيقة بالأرقام، فظاهرة الميل إلى العنف –كالقتل العشوائي والاعتداءات داخل نطاق الأسرة والاعتداءات الجنسية على الأطفال- ظاهرة منتشرة في المجتمعات الغربية على أوسع نطاق، وبين الشبيبة تخصيصا.. إنّما لا تجري هنا المقارنات البحثية المنهجية على هذا الصعيد لمعرفة تأثير انتماء ديني أو قومي..
5- يسري ذلك أيضا على ما يرتبط من العنف بخلفية أهداف سياسية، فلا تجري المقارنات منهجياً بحيث تسمح بالقول إنّ "أرضّية الإرهاب" -وفق استخدام الكلمة غربيا- أوسع انتشارا من منطلق تصوّرات سياسية إسلامية بالمقارنة مع انتشار العنف بما في ذلك عمليات إرهابية، قديما وحديثا، من منطلق تصوّرات مسيحية، كاثوليكية وبروتستانتية وأنجليكانية وأورثوذوكسية..
6- حتى على صعيد ارتكاب "الجنح" المشار إليها آنفا يُلاحظ الجنوح إلى التضليل أيضا، فعند إمعان النظر لا يوجد مثلاً فارق بين الشبيبة المسلمة وسواها إذا ما عُقدت المقارنة مع مراعاة الوضع المادي والاجتماعي للأسر، فآنذاك يتضح أنّ ارتكاب تلك الأعمال (سرقة سلع من المتاجر مثلا..) لا يزيد انتشارا على مستوى أبناء الأسر الفقيرة المسلمة بالمقارنة مع أبناء مثيلاتها من غير المسلمين.. هذا بينما ينتشر ارتكاب هذه الجنح بين أبناء الأسر غير المسلمة، وإن كانت من الطبقة الثرية..
إنّ العنصر الأهم من وراء ارتكاب الجنح مثلا –وهو موضع التجاهل غالبا- يكمن في أنّ نسبة الأسر الفقيرة المسلمة ما زالت مرتفعة في المجتمع الألماني.. فمن المسؤول؟..
إضافة إلى معطيات ذاتية لا ينبغي إغفالها قطعا، إنّما ليست هي موضع الحديث هنا، أي الحديث عن الطرف الألماني الذي يركّز على هذه المعطيات الذاتية لدى المسلمين ويتجاهل –إلا نادرا- ما سواها، بينما توجد معطيات "تاريخية" وأخرى "معاصرة"، تقع في صلب المسؤولية الرسمية الألمانية، من وراء واقع نسبة عالية من الأسر المسلمة في ألمانيا:
أولا: تعود المعطيات التاريخية إلى حقبة السبعينات الميلادية عندما جلبت الدولة الألمانية العمال من أقصى أرياف تركيا ثم الشمال المغربي، مع اختيار "الأمّيين لغة ومدرسيا وثقافة"، حرصا على "الأيدي العاملة الرخيصة"، دون الاهتمام بالتعويض عن شيء من ذلك على هامش تشغيلهم في ورشات العمل التي ساهمت آنذاك في صناعة "المعجزة الاقتصادية" الألمانية، أمّا طريقة المعاملة فكانت تصنع الأوضاع الاجتماعية المتردية على ذلك صنعا. من الشواهد على ذلك مثلاً كتاب ألماني يُحتفل حاليا بمرور 25 سنة على صدوره، بعنوان "في الحضيض/Ganz unten" للأديب الألماني الشهير "جنتر فالرات"، الذي قضى سنتين متنكّراً كعامل تركي حيناً وإفريقي حينا آخر، فعايش بنفسه ممارساتٍ لا تكاد تُصدّق من الاضطهاد وانتهاك الكرامة والحقوق المالية والظلم الاجتماعي، ووثّقها في كتابه بحيث تعرّضت سلسلة من الشركات الكبيرة للمقاضاة في حينه، وبيع من كتابه 4 ملايين نسخة، فسجّل رقما قياسيا عالميا. وكان من أقواله فيه: "لا أعلم حتى الآن كيف يتفاعل الإنسان الأجنبي مع الإهانات والعداوات والكراهية ممّا يتعرّض له يوميا، ولكن أعلم الآن ما الذي يتعرّض له فعلا، وما مدى ما وصل إليه الاستهتار بالإنسان في بلدنا هذا".
ثانيا: أمّا الأسباب "المعاصرة" فتنكشف من خلال الدراسات الحالية، وتقول مصادر وزارة العمل الاتحادية استنادا إلى تلك الدراسات إنّ كلّ فرد عامل من بين "ذوي الخلفية الأجنبية" (تسري على المسلمين الأتراك أولا) يشغل مكان عمل دون مستوى كفاءاته واختصاصاته.. كما تكشف الدراسات عمّا يسمّى "العنصرية الخفية"، وهي ليست خفيّة تماما، فمن تلك الدراسات ما أظهر أنّ رفض كثير من طلبات العمل، من المسلمين الأتراك وسواهم، يجري فقط بسبب "الاسم" الذي يوحي بأنّ صاحبه مسلم أو تركي أو عربي، وقد دفعت تلك الدراسات إلى التخطيط لمشروع بحثٍ يساهم فيها أربع شركات كبرى مع وزارة العمل، ومحوره "تقديم طلبات العمل دون ذكر الاسم أو مكان الميلاد أو اسم الأبوين" لاستكشاف ما يمكن مقارنته بين نسب القبول أو الرفض من منطلق التمييز العنصري ومن منطلق تقويم المعلومات المعتبرة على صعيد الاختصاص والتأهيل والخبرة العملية وما شابه ذلك.
لا ريب أنّه إذا صحّ القول بإخفاق التعدّد الثقافي أنّ القسط الأكبر من الأسباب يقع على الجانب "الألماني" ولا سيّما من يحملون مسؤولية صناعة القرار والتوجيه العامّ، سياسيا واقتصاديا وفكريا وإعلاميا، ولا تنفصل الضجّة الحالية في التعامل مع الإسلام ومع "الألمان الأتراك" عمّا ورد أعلاه، كما لا يختلف رفض "التعدّد الثقافي" داخل ألمانيا عنه في تعليل رفض "انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي" على أرض الواقع رغم المفاوضات الجارية.
إنّما حدث تطوّر ملحوظ في هذه الأثناء.. فإلى وقت قريب كان جوهر المطالب الرسمية (والفكرية والإعلامية) تجاه المسلمين في ألمانيا (وعموم أوروبا) وتجاه تركيا أوروبيّا هو الالتزام بالدستور والقانون على مستوى المواطن المسلم في الدولة الأوروبية، وتعديل المعطيات التقنينية (وغيرها) في الدولة التركية لتكون على مستوى ما يسري في الاتحاد الأوروبي. ولا بدّ من التنويه بما يسري فيه فعلا من إيجابيات كبيرة معروفة، تحت عنوان الديمقراطية واستقلالية القضاء وسيادة القانون والحريات والحقوق.. دون إغفال دور التشويه التطبيقي الصادر عن غلبة مفعول عوامل أخرى، مادية وعنصرية محليا ودوليا، بالإضافة إلى غلبة الازدواجية والانحياز دوليا.
لم يكن في الاستجابة إلى مطالب الالتزامات الدستورية والقانونية مشكلة كبيرة، وليس مجهولا ما قطعته تركيا كدولة وقطعه المسلمون عبر تنظيماتهم الرئيسية من أشواط واسعة النطاق في هذا الميدان (منها كأمثلة ميثاق صدر عن المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، وآخر في إيطاليا، وفتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء وتوجيهات الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين على صعيد حياة المسلمين في بلدان غير إسلامية).
إنّما تبدّلت نوعية المطالب جوهريا، الرسمية منها والفكرية والإعلامية.. وهو ما يتطلّب الدقّة في استيعابها:
1- أصبح التركيز الأكبر في التصريحات في هذه الأثناء وما يواكبها إعلاميا، على منظومة القيم، المسيحية واليهودية، وليس على "منظومة الدساتير والقوانين"..
2- هذا ما كشف "تطبيقيا" أنّ الفلسفة والنظم العلمانية الأوروبية -مع تفاوت درجاتها المتشدّدة في فرنسا مثلاً والأقلّ تشدّداً في ألمانيا مثلا- لا تنفصل عن الإرث "الفلسفي الديني"، المسيحي واليهودي.
3- مع ملاحظة أنّ المطالب ليست صادرة عن الكنائس بقدر ما هي صادرة عن القوى العلمانية، في الحكم وخارجه..
4- ويكاد يتخذ عنوان "الإرث المسيحي واليهودي" لدى تلك القوى صبغة التسويق الإعلامي على صعيد العامّة من الأوروبيين، ممّا يزيد حدّة انتشار الخوف المرضي من الإسلام والانحياز تجاه المسلمين..
5- والواقع أن "محور" تلك المطالب باسم "القيم" لا علاقة له بالعقيدة من حيث الأساس، بل يدور حول العلاقة بين الجنسين.. بما في ذلك ما يسمّونه الجنس المثلي ونعرفه تحت عنوان اللواط والسحاق..
6- وليس مجهولا أنّ هذا بالذات متناقض في الأصل مع التعاليم المسيحية واليهودية، قديما وحاليا..
7- إنّ الاستجابة إلى هذه المطالب يعني على أرض الواقع تطبيق "إسلام آخر" لا علاقة له بحرية دينية، ولا حتى بالنظرة الغربية إلى التديّن باعتباره "قضية شخصية".. فكلّ ما هو ديني شخصي محض –كالحجاب- يجد التأويل دون سند منطقي، مثل اعتبار الحجاب "رمزا" وليس "فرضا"، بعد أن اهترأ مفعول ادّعاءات سابقة بأن الفتاة المسلمة "تُكره" عبر أسرتها على وضع الحجاب..
8- ولا يخفى التركيز على الشبيبة المسلمة ومستقبلها "قيميا واجتماعيا" عند الحديث عن دروس السباحة المختلطة ونوعية الألبسة الكاشفة في دروس الرياضة والرحلات المدرسية المختلطة لعدّة أيام وتوزيع تدريس العلاقات الجنسية الإباحية –باعتبارها هي الممارسات الطبيعية!!- تحت عنوان التوعية على مختلف الدروس بحيث لا تقتصر على "مادة" يمكن أن يتغيب عنها الناشئ المسلم أو الناشئة المسلمة في المدارس..
9- إنّ الاهتمام بمستقبل "الشبيبة المسلمة" على هذا النحو في مقدمة ما يمكن تصوّره أو التكهّن بأنه يكمن من وراء ازدياد الاهتمام الرسمي بتدريس الإسلام رسميا وإعداد الأئمة محليا، ما دام قد ثبت في هذه الأثناء أنّ إقبال الشبيبة على المساجد واللقاءات الإسلامية التقليدية ظاهرة ثابتة لا يُنتظر وقوع "نكسة" كبيرة على صعيدها، ولا يراد أن يقتصر عليها إعدادُ الشبيبة المسلمة في ألمانيا (وأوروبا عموما)!..
إنّ الخطر الأكبر يكمن في جوهر الصيغة الراهنة للتعامل مع الوجود الإسلامي في الغرب عموما، وخطورتها كامنة في التصعيد باتجاه المواجهة، أمّا جوهرها فهو "أزمة القيم" التي تواجهها العلمانية الأوروبية والغربية عموما مع نفسها، وتتقمّص عناوين المسيحية واليهودية فيما تعمل لتعبئته شعبيا في مواجهتها للقيم الإسلامية.
إنّه رفض التعدّد الثقافي بهذا المعنى، وليس بمعنى الاندماج في واقع الحياة اجتماعيا واقتصاديا وتعليميا وثقافيا وسياسيا، مع تعدّد الاقتناعات الفردية والجماعية، كما تعنيه كلمة "التعدّدية" في الأصل.. ولم يعد لذلك علاقة بما يفرضه الدستور والقانون، فقد قطع المسلمون على هذا الصعيد أشواطا واسعة النطاق، وهذا ما يفسّر اضمحلال مفعول حملات سابقة واتهامات تعميمية انطلاقا من مقولات أفراد أو جماعات صغيرة بشأن "هدف" تطبيق الشريعة في بلدان تقطنه غالبية من غير المسلمين.
المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...