المسلمون في الاتحاد الأوروبي

جزء من مجتمع متعدّد الانتماءات
يتعرض الوجود الإسلامي في الغرب ولا سيما في أوروبا إلى عوامل عديدة، بعضها يمثل ضغوطا للتضييق عليه، لا سيما بعد نهاية الحرب الباردة ثم بعد تفجيرات نيويورك وواشنطون، وبعضها إيجابي يرمز إليه ازدياد نسبة الإقبال على تفهم الإسلام، إلى درجة اعتناقه على المستويات الشعبية، جنبا إلى جنب مع تبدل هيكلي في نوعية الوجود الإسلامي نفسه، وغلبة نسبة المسلمين من أهل البلاد الأصليين ومن مواليد الجيل الثاني والثالث للوافدين، على نسبة المقيمين إقامة مؤقتة، وهو ما جعل هذا الوجود البشري جزءا من المجتمعات الغربية، وإن لم تستقر الصيغة الأفضل للتعامل مع الوضع الجديد. ومع متابعة أوضاع المسلمين في أوروبا مع اقتراب نهاية عهد بوش الابن الذي تميز بعسكرة الهيمنة الأمريكية وشدة العداء للمنطقة الإسلامية، تعود في ذاكرة القلم هذه السطور عن تطور الوجود الإسلامي في أوروبا بعد التوسعة الكبرى في تاريخ الاتحاد الأوروبي، أوساط عام 2004م.
نسيج الوجود الإسلامي في أوروبا
الفئات المسلمة في إطار المجتمع والأحداث
الجديد عبر التوسعة الأوروبية
مهامّ مستقبلية وعقبات
تضع التوسعة الأوروبية الكبرى في تاريخ الاتحاد الأوروبي المسلمين في دوله الأعضاء الخمس والعشرين (أصبحت 28 في هذه الأثناء) على ضوء الأحداث الساخنة في المرحلة التاريخية الراهنة، في بؤرة الاهتمام، وتدفع إلى التساؤل عن آثار التوسعة على أوضاعهم الراهنة ومستقبلهم، وما يمكن أن يصدر عنهم للتأثير إيجابيا على صناعة الحدث والقرار المتعلّق بهم، وبوجودهم على مختلف الأصعدة في المجتمعات الأوروبية، أو بتفاعلهم مع صناعة القرار وبالتالي تأثيرهم على السياسات الأوروبية. ومن الضروري لاستشراف ذلك إلقاء نظرة مبدئية على المعطيات الراهنة، وعلى التغييرات المحتملة على صعيدها. ولا تسمح معالجة الموضوع في "مقالة تحليلية مطوّلة" بأكثر من سرد معلومات، يمكن توثيقها في الأصل، ويعتمد كاتب هذه السطور على دراسات ومقالات سابقة بصددها، وسرد خواطر وأفكار تستند إلى معايشته لأوضاع المسلمين في أوروبا عموما، من خلال وجوده في ألمانيا منذ عام 1965م، في العمل الإسلامي وفي الميدان الإعلامي.
ينتشر المسلمون على امتداد القارة الأوروبية ما بين القوقاز والمحيط الأطلسي، فلا يكاد يخلو منهم أيّ بلد أوروبي، وتبقى الكتلة البشرية الإسلامية الكبيرة في تركيا خارج نطاق الحديث هنا، رغم أنّ السؤال القديم بصدد انتماء تركيا إلى القارّة الأوروبية أم الآسيوية ما زال مطروحا بصورة أو بأخرى، من جانب الساسة الأتراك على الأقلّ. كما لن يتعرّض الحديث إلى الكتلة البشرية الإسلامية الكبيرة في دول البلقان، وعلى وجه التحديد في ألبانيا وكوسوفا والبوسنه والهرسك، فليست هذه البلدان مطروحة أصلا على أرضية مزيد من التوسعة الأوروبية في المستقبل المنظور، علما بأنّه لا يوجد هنا لَبْسٌ بشأن انتمائها إلى أوروبا. أمّا البلدان القليلة الأخرى التي لا يضمّها الاتحاد الأوروبي بعد توسعته، فَنِسَبُ المسلمين إلى سكانها منخفضة، وهذا ما يسري أيضا على البلدان العشرة التي انضمّت إلى الاتحاد مع الأوّل من أيار/ مايو 2004م، ويبرز هنا الوضع الخاص بقبرص، التي انضمّ منها الجزء اليوناني، وبقي الجزء التركي خارج نطاق الاتحاد الأوروبي، وحسب المصادر الغربية، يقطنه حوالي خمس السكان، وهم مسلمون، من أصل أقل من 800 ألف نسمة، مجموع سكان الجزيرة.
في إطار الاتحاد الأوروبي بحدوده الجديدة تتأرجح التقديرات عن أعداد المسلمين تأرجحا كبيرا في غياب إحصاءات دقيقة، وأدناها يصل إلى زهاء 15 مليون مسلم من أصل 450 مليون نسمة، بينما يمضي بعضها إلى 25 مليون مسلم وأكثر.
وسيّان ما هو الرقم الحقيقي يبقى من الضروري تأكيد خطأ التعامل مع الوجود الإسلامي البشري في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من خلال مصطلحات تقليدية معتادة في فترة تاريخية ماضية، مثل "الجاليات"، التي يشيع فهمها لوصف مجموعات بشرية وافدة يمكن أن "تجلو" فتغادر مواطنها الأوروبية، ولا ينطبق شيء من ذلك على الغالبية العظمى من مسلمي أوروبا، لا سيّما حيث يرتفع عددهم إلى بضعة ملايين، كما في كلّ من فرنسا وألمانيا وبريطانيا. وهذا الوصف -مثل وصف أقليّات أيضا- يسبّب خللا في التعامل مع قضايا المسلمين في أوروبا، كما ظهر مثلا بشأن قضية الحجاب في فرنسا وظهور أصوات في الإعلام العربي تقول: "إذا كانت المسلمات في فرنسا لا يردْن الالتزام بقوانينها فعلام لا يرحلن عنها؟.."
هذا علاوة على أنّ مصطلح "أقليّات" في الدول الأوروبية له على الغالب مفهوم يرتبط بمضمون سياسي أو عرقي وأحيانا لغوي، ولا يسري ذلك على واقع المسلمين فيها، وهم في حاجة إلى تفاعل عمليّ مع الفئات الأخرى في المجتمعات الأوروبية، وليس إلى "حشر" قضاياهم في نطاق مطالبة أقليّة ما بحقوقها، مقابل غالبية ترفض ذلك أو لا تقرّ به.. إلاّ إذا "انتُزعت" تلك الحقوق انتزاعا، وليس المطلوب والمفيد توجيه تلك القضايا في هذا الاتجاه.
إنّ النسبة الأعظم من المسلمين في أوروبا هي جزء من نسيج المجتمعات الأوروبية، وإذا كانت لهم أوضاع ومواصفات ومميّزات يختلفون بهم عن فئات أخرى من السكان، فهذا ما يسري على تلك الفئات أيضا، بغضّ النظر عن "الانتماء الديني" لأفرادها، وجميعها يبقى من نسيج المجتمع، الذي أصبح في الدول الأوروبية متعدّد الثقافات، ومتعدّد المصالح، ومتعدّد المظاهر، وجميع ذلك يتداخل في بعضه بعضا، عبر الانتماءات القومية والدينية وسواها، وتقوم العلاقات بين تلك الفئات على أساس الحوار والتعايش والأخذ والعطاء وربّما "الصراع" أيضا، دون أن توضع فئة بعينها خارج إطار المجتمع، أو تُحشر في موضع الأقليّة منه، وهذا ما ينبغي أن يسري على "فئة" المسلمين من بين سكان الاتحاد الأوروبي.
إنّ المسلمين في أوروبا لا يمثّلون "ظاهرة عابرة" تاريخيا، ولم يعد يوجد من يفكّر بإمكانية التعامل معهم على هذا الأساس، كما لا يوجد ما يشير إلى احتمال "اضمحلال" هذه الظاهرة، بل على النقيض من ذلك يوجد كثير من الدلائل التي تؤكّد أن الوجود البشري الإسلامي في أوروبا سيتنامى، سواء من حيث الأعداد المجرّدة، أو من حيث ارتفاع النسبة المئوية إلى السكان بمجموعهم. وتذكر الدراسات المستقبلية الأوروبية ومن جانب الأمم المتحدة، أنّ الهرم السكاني في الدول الأوروبية جميعا يشهد تبدّلا كبيرا سيترك آثاره في العقود المقبلة، ومن ذلك ما يساهم فيه ارتفاعُ نسبة المواليد المسلمين في أوروبا بالمقارنة مع سواهم، ومن صور التبدّل المنتظر انخفاض نسبة فئات الأعمار من القادرين على الإنتاج، وارتفاع نسبة المتقاعدين، ممّا يستحيل علاجه وفق تلك الدراسات إلاّ بفتح الأبواب الأوروبية أمام "المهاجرين" على نطاق واسع، وهذا ما يصعب تحقيقه عمليا دون أن يشمل "الملايين" من المسلمين الوافدين، ليس على أساس فترات "عمل قصيرة" وإنما مع الإقامة الدائمة.
إذا كان المسلمون في أوروبا في الماضي أجانب وافدين وطارئين على المجتمع، فلم يعد يوجد فيهم إلاّ القليل ممّن تسري عليهم هذه الصفة في الوقت الحاضر، فغالبيتهم الكبرى حاليا (1) من ذوي الأصول الأوروبية، و(2) مواليد أوروبا على مدى عدّة أجيال متعاقبة، بالإضافة إلى (3) وافدين مضى على وفودهم عدّة عقود من السنوات وأصبحوا بواقع معيشتهم جزءا من المجتمعات الأوروبية، وإذا كان لهؤلاء معا ما يميّزهم عن سواهم تبعا لإسلامهم، فذاك ما يسري على آخرين من أصحاب الديانات الأخرى المتديّنين، من صفوف الكاثوليكية والبروتستانتية وحتّى صفوف البوذية والزرادشتية وغيرها.
ولأسباب ليست موضع الحديث هنا، لا تتوافر إحصاءات دقيقة حول أعداد المسلمين وتصنيف فئاتهم في بلدان الاتحاد الأوروبي، ولكن القليل المتوافر من الأرقام يسمح بتثبيت صورة إجمالية في إطار عدد من المعطيات الرئيسية، وأهمّها:
1- تبلغ نسبة المسلمين إلى سكان الاتحاد الأوروبي عموما 3،5 (ثلاثة ونصف) إلى 5،5 في المائة حسب التقديرات المتفاوتة، بينما تبلغ نسبة الجيل الناشئ من الأطفال والشبيبة على الأرجح حوالي 45-50 في المائة من أعداد المسلمين إجمالا، وتتراوح ما بين 16 و20 في المائة من الجيل الناشئ من الأطفال والشبيبة في دول الاتحاد إجمالا. وهذا ما يعني أنّ هذه النسبة الأخيرة ستكون بعد عدد محدود من السنوات هي نسبة الوجود البشري الإسلامي في فئة أعمار "الإنتاج والإدارة" في مختلف الميادين، وربّما يشمل ذلك جزئيا قطاعات واسعة على صعيد الإسهام في صناعة القرار عموما.
2- لا تزال المعدّلات الوسطية لمشاركة جيل الأطفال والناشئة من المسلمين في مسيرة الإعداد التعليمي المدرسي والتأهيلي المهني، أدنى من المعدّلات الوسطية للأطفال والناشئة عموما في المجتمعات الأوروبية، كما أنّ معدّلات البطالة بين العمال من المسلمين أعلى من المعدّلات الوسطية، ولكن يوجد من المؤشرات الأولية، بما في ذلك حملات رسمية تحت عناوين مختلفة مثل "الاندماج"، ما يسمح بتوقّع حدوث تغيير إيجابي تدريجي على هذا الصعيد.
3- تتناقص بصورة تدريجية النسبة المئوية -وليس العدد المجرّد بالضرورة- للعمال المسلمين في الدول الأوروبية مقابل ارتفاع مطّرد لفئات أخرى، في مقدّمتها أصحاب المهن الأكاديمية والحرة، كما في قطاعات الطبّ والهندسة والتعليم والتجارة والمهن الحرفية، إضافة إلى ارتفاع مطّرد لأعداد العاملين في "إدارة الأعمال والشركات" الذين يعتبرون من ركائز البنية الهيكلية الاقتصادية التي لا غنى عنها لضمان سياسات التشغيل وما يرتبط بها من تأمينات اجتماعية، وربّما بلغت النسبة المئوية لكلّ من هاتين الفئتين في الوقت الحاضر أكثر من 5 في المائة (قياسا على آخر المعلومات المتوافرة عن المسلمين الأتراك في ألمانيا) وهي نسبة لا بأس بها بالمقارنة مع تركيبة الخارطة الاجتماعية في الدول الأوروبية.
4- تبدّلت خلال العقود الماضية بشكل ملحوظ خارطة مظاهر ارتباط المسلمين في أوروبا بدينهم، فانخفضت نسبة من توصف أوضاعهم بالذوبان في المجتمع الغربي، بينما ارتفعت نسب الفئات الأخرى ابتداء بانتشار ظاهرة التديّن التي يعكسها انتشار الحجاب وارتفاع أعداد المصليات والمساجد والمتردّدين عليها، إلى ارتفاع المستويات الثقافية التي تنعكس في انتشار و"استهلاك" الكتاب الإسلامي بمختلف اللغات وفي ارتفاع مستوى الندوات والمؤتمرات واللقاءات الإسلامية ثقافيا وفكريا، فإلى ظهور الشبيبة المسلمة المتزايد -نسبيا- في وسائل الإعلام، وحتّى المشاركة بكثافة في فعاليات التنظيمات والمراكز الإسلامية عموما.
5- لم تعد التنظيمات والمراكز الإسلامية التي انتشرت في حقبة ماضية وشهدت تطويرا بطيئا نسبيا، لأسباب مالية وغير مالية، قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة من المسلمين مع انتشار ظاهرتي التديّن والالتزام، وكثير منها لا يكفي لتأمين الاحتياجات الأولية على صعيد الشعائر التعبدية، فضلا عن إمكانية الإسهام بصورة فعّالة على صعيد تأمين أسباب التعليم الإضافي لربط المسلمين بإسلامهم بصورة منهجية، ممّا لا يتوافر عبر المدارس الأوروبية إلا بصور محدودة وناقصة، ناهيك عن إيجاد المنشآت الاجتماعية والثقافية والرياضية والتأهيلية المهنية وغيرها.
6- رغم الضجّة الكبيرة التي تصنعها الإثارة الإعلامية من جهة، كما تصنعها من جهة أخرى ممارسات التحامل السياسي في قضية انتشار التطرّف والإرهاب في صفوف المسلمين في أوروبا أو عالميا، فإنّ أقصى درجات الاتهام التي ترتكز على تقارير المخابرات الدورية -وقليل منها ما يقدم أدلّة وإثباتات مقنعة قضائيا- لا تصل إلى ما يسمح بالقول بانتشار ظاهرتي التطرّف والإرهاب انتشارا واسعا، وأقصى التقديرات التي تذكرها تلك التقارير تبقى دون 5 في الألف من المسلمين بمجموعهم (ألمانيا مثلا: بضعة عشر ألفا من أصل ثلاثة ملايين ونصف المليون) وهي نسبة لا تختلف كثيرا عن نسبة انتشار "الإرهاب" اليميني العنصري في أوروبا عموما، ولا تقارن بالنسبة المرتفعة لانتشار "التطرّف" اليميني في معظم البلدان الأوروبية، والتي تنعكس أحيانا في الانتخابات النيابية.
تزامنت التوسعة الأوروبية 2004م مع التركيز على قضيّة الوجود الإسلامي في أوروبا عموما، ولكن مع غلبة السلبيّات على هذا الطرح، وإن تفاوت ذلك من بلد إلى آخر ما بين علاقة إيجابية متبادلة مع المسلمين عموما من جانب الدولة ومؤسساتها والمجتمع وشرائحه (السويد في المقدّمة) وعلاقة بدأت تزداد سلبياتها نتيجة التصرّفات الرسمية المبالغ فيها على صعيد "ردود الفعل" على ظاهرة "الإرهاب العالمية" بغضّ النظر عن وجود مرتكزات لها أو عدم وجودها بصورة قاطعة في البلدان المعنية، وهو ما بدأ يظهر للعيان فيما يُعرف بالقوانين الاستثنائية في بلدان رئيسية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
والواقع أنّ من العوامل التي ساهمت جزئيا في التعجيل بالتوسعة الأوروبية، ودار الحديث عنها بوضوح خلال التسعينات من القرن الميلادي العشرين أثناء سيطرة أجواء التطرّف اليميني والشكاوى من ارتفاع نسبة الأجانب، لا سيّما المسلمين، في غرب أوروبا، في فترة ارتفاع البطالة نتيجة الركود الاقتصادي، واستمرارها بعد ذلك طويلا نتيجة "العولمة".. كان من تلك العوامل الحديث عن الرغبة بجلب العمالة من شرق أوروبا بدلا من البلدان الإسلامية أو الجنوب عموما، وهذا ما اقترن أيضا بالتركيز سياسيا على جهود تطوير البنية الاقتصادية في الدول الأوروبية الشيوعية سابقا، مقابل انخفاض الاهتمام بالسياسات الإنمائية في الجنوب فيما يُسمّى "العالم الثالث".
على أنّ التحوّل في هذا الاتجاه خلال السنوات الماضية اقترن بأكثر من عنصر جديد نسبيا، وبصورة تحدّ من قابلية تحقيق الهدف المذكور، ومن ذلك -بالإضافة إلى عوامل جديدة أخرى- ما يلي:
1- اقتران فتح الحدود تدريجيا نحو الشرق بانتشار الجريمة المنظمة على نطاق واسع، والتي يؤخذ من المصادر الرسمية أن مراكزها الرئيسية تقع في البلدان الشرقية.
2- ارتفاع نسبة الحاجة إلى "عمالة أجنبية" في الدول الصناعية الأوروبية اختلف مضمونا عمّا كان عليه في فترة الستينات والسبعينات الميلادية، فالبطالة منتشرة على نطاق واسع، مقابل نقص كبير في الكفاءات والمؤهّلات المهنية على المستويات العليا والمتوسّطة، وهذا ما لا يمكن سدّ الحاجة إليه من البلدان الأعضاء الجديدة، نظرا إلى حاجتها هي إلى الكفاءات والاختصاصات المختلفة في فترة تطوير أوضاعها الاقتصادية، الضروري من جهة اخرى لضمان اندماجها في الاتحاد الأوروبي.
3- أظهرت الدراسات المستقبلية -كما سبقت الإشارة- أنّ الدول الأوروبية ستواجه في العقود القادمة نقصا كبيرا في الطاقات البشرية الإنتاجية وارتفاعا كبيرا في نسبة المتقاعدين، فبينما تعادل هذه النسبة حاليا ثلاثة إلى واحد، يُنتظر أن تنخفض حتى اثنين إلى واحد، في حالة استمرار تطوّر معدّل الولادات والوفيات على النحو الراهن، الذي يسجّل "تناقصا" مستمرّا في أعداد ذوي الأصول الأوروبية، وهو ما يوازنه منذ سنوات عديدة ارتفاع عدد المواليد في الفئات السكانية ذات الأصول غير الأوروبية، وفي مقدّمتها فئة المسلمين. ولا يُنتظر وفق الدراسات أن يمكن الحفاظ على مستوى اقتصادي مرتفع، وضمانات كافية للمتقاعدين، ما لم تُفتح أبواب الهجرة إلى أوروبا، لا سيما أسبانيا (التي بدأت تواجه المشكلة في الهرم السكاني) وإيطاليا وألمانيا، وساد الاعتقاد فترة من الزمن بإمكانية تعويض النقص من البلدان الشرقية، على أنّ الدراسات المستقبلية الحديثة تؤكّد أن الدول الجديدة في الاتحاد ستعاني من المشكلة نفسها، لا سيّما بولندا التي يبلغ عدد سكانها أكثر من سكان الدول التسعة الأعضاء الجديدة الأخرى معا.
4- من العوامل السلبية التي يمكن تقديرها نتيجة التوسعة الأوروبية، أنّ السنوات القليلة الماضية شهدت قفزة مبدئية في انتشار المعرفة بالإسلام والمسلمين بما ساهم جزئيا على الاقل في دحض "افتراءات وأحكام مسبقة" قديمة، لا سيّما في أوساط الشبيبة في بلدان الاتحاد سابقا، مثل بلجيكا وألمانيا وفرنسا وغيرها، وبالمقابل لم يقع مثل هذا التطوّر في البلدان الشرقية، نتيجة ضعف الاحتكاك المباشر بالمسلمين والضعف النسبي لانتشار وسائل الاتصال ونقل المعلومات هناك. وهذا ما يؤثّر على موقف الرأي العام، وبالتالي يمكن أن يترك أثره في إطار الوصول إلى تقنين أرضيّة أوروبية مشتركة للتعامل مع قضايا تتعلّق بالوجود الإسلامي في أوروبا، إذ ستكون الدول الجديدة على الأرجح سندا للدول الأكثر تشدّدا في نطاق الاتحاد الأوروبي قبل توسعته.
5- رغم انتقال الدول الشرقية من الشيوعية إلى نظام السوق الرأسمالية اقتصاديا، فإنّ كثيرا من الأفكار الشيوعية ما زالت منتشرة فيها على المستويات السياسية والحزبية والاجتماعية والفكرية، وليس مجهولا موقف الشيوعية من الأديان عموما، ومن الإسلام على وجه التخصيص، على أنّه من العسير القول إنّ هذا الجانب سينتشر باتجاه "غرب أوروبا" والأرجح هو تقلّص تلك التوجّهات تدريجيا، إنّما سيستغرق ذلك فترة زمنية طويلة.
إن أي انطلاقة لتحقيق مهامّ مستقبلية جديدة، تتطلّب وضع الحديث عنها في إطار الأجواء السائدة على أرض الواقع، ونأخذ مثالا على ذلك من الميدان الأكثر إثارة والأدعى للاهتمام، وهو العملية الإرهابية في مدريد في 11/3/2004م، فليس مجهولا أنّ المسلمين في أسبانيا بالذات قطعوا خلال العقود الماضية أشواطا كبيرا على طريق تثبيت وجودهم العضوي في نسيج المجتمع، وبالتعاون مع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وحقق ذلك نتائج ملموسة في قطاعات عديدة على صعيد التعليم، وتشريع القوانين، وانتشار المساجد والمراكز الثقافية.. ويأتي انحراف قلّة محدودة العدد ترتكب عملية إرهابية، فيهدّد عملها بتقويض ما تمّ تحقيقه، وهو ما يقع نتيجة الأساليب المتبعة للتعميم، وشنّ الحملات السياسية والأمنية والإعلامية، والتفاعل الخاطئ من أصحاب العلاقة مع الحدث نفسه، وجميع ذلك يعود بالأضرار الكبيرة، ليس على الوجود البشري الإسلامي في أسبانيا فحسب، بل على الأوضاع الاجتماعية والأمنية في أسبانيا عموما، فالأضرار مشتركة، ويجب بذل قدر كبير من الجهود المركّزة بصورة مشتركة لمواجهة هذه الأضرار قبل وقوعها، وهو ما لا يتحقّق دون استيعاب الطرف الآخر استيعابا كاملا، وليس بأسلوب إملاء الشروط أو إصدار التعليمات أو المطالبة بإدانة، ولكن مشروطة بعدم إدانة أعمال عدوانية تُرتكب هنا وهناك في بلاد المسلمين عموما، علما بأن صدور هذه الإدانة عن الفئات الأخرى من غير المسلمين في أوروبا لا يجد نقدا أو رفضا أو يثير استغرابا سياسيا وإعلاميا، ناهيك عن أن يسبب حملات أمنية.
وإذا أردنا وضع إطار للمهام المرجوّة مستقبلا على مستوى الوجود الإسلامي في الاتحاد الأوروبي، الذي يزداد ثقله العالمي بصورة ملحوظة، يمكن أن يكون هذا الإطار تحت عنوان الوصول إلى اندماج متوازن أفضل للمسلمين في المجتمعات الغربية، وهذا ما يتطلّب مراعاة أمرين رئيسيين من خلفيّات الواقع الأوروبي الراهن، وأمرين رئيسيين آخرين من زاوية خلفيّات الوجود الإسلامي الراهن فيه:
من الواقع الأوروبي: (1) النسبة الأعظم من صانعي القرار السياسي والاقتصادي والأمني والفكري والثقافي في الوقت الحاضر، هم من جيل أوروبي نشأ في فترة السبعينات الميلادية الماضية، التي كانت حافلة بأشد درجات الحملة على الإسلام والمسلمين، وهو ما ساهمت به آنذاك أحداث الأرض الفلسطينية وما يُعرف بثورة أسعار النفط الخام، وهي حملة بنت على نسبة عالية من الافتراءات الصارخة في الكتب الكدرسية وكثير من الكتب الفكرية والثقافية التي توصف أحيانا بالوثائقية والجامعية.. و(2) بالمقابل من الملاحظ في غالبية عمليات استطلاع الرأي بشأن أحداث تتعلّق بالمسلمين، كقضية الحجاب، أو تعميم الاتهامات بالتطرّف، أنّ جيل الشبيبة في أوروبا، أكثر من سواه انفتاحا وفهما تجاه الإسلام والمسلمين، وهو ما شهد تطوّرا جذريا خلال السنوات القليلة الماضية، على النقيض ممّا كان متوقّعا من الحملة التي أطلقت بعد تفجيرات نيويورك وواشنطون، وعلى النقيض أيضا ممّا كان يتردّد في التسعينات من القرن الميلادي العشرين، أنّ "التطرّف اليميني" يجعل جيل الشبيبة الأوروبية أشدّ رفضا للوجود الإسلامي في أوروبا. فالواقع أنّ النسبة الأعلى من الشبيبة أقرب إلى الإنصاف نتيجة الاحتكاك المباشر، وازدياد الإقبال على المصادر الفكرية والثقافية ذات العلاقة بالإسلام والمسلمين، هذا علاوة على ارتفاع نسب اعتناق الإسلام من الشبيبة، في مختلف البلدان الغربية.
ومن واقع الوجود الإسلامي: (1) ما تزال التنظيمات والمؤسسات والمراكز التقليدية الإسلامية منقسمة على نفسها في التعامل مع المتغيّرات، ما بين درجة من الاندماج فيها بعض المبالغات الناجمة عمّا صنعته المخاوف المرتبطة بقضايا التطرّف والإرهاب، مقابل عدم القدرة على استيعاب أوسع للمقبلين على الإسلام من جيل الشبيبة، وما بين استمرار سيطرة درجة لا بأس بها من "الغوغائية" على بعض المجموعات التي لا تجد سندا كبيرا من المسلمين، ولكن يمكن استغلال أقوالها ومواقفها في تعميم الاتهامات تجاههم. و(2) بالمقابل لم يصل الوجود الإسلامي الفعلي بقاعدته العريضة (رجالا ونساء) من أطباء ومهندسين وتجار ورجال أعمال ومثقفين وطلبة وغيرهم، إلى مستوى تفعيل هذا الوجود في مصلحة المسلمين عموما، فهذا ما لا يمكن رصده حتى الآن، لا سيّما في نطاق الاختصاص عبر إثبات وجود المتخصصين المسلمين بين أقرانهم على مستوى كلّ بلد على حدة أو على المستوى الأوروبي، مع توظيف ذلك في تأكيد "الوجود الطبيعي المنتج" للمسلم المتخصص في المجتمع الأوروبي، وهو ما يخدم -لو توافر- بصورة عملية قضية إزالة الأحكام المسبقة والافتراءات ويضعف مفعول الحملات المعادية تحت عناوين سياسية وأمنية.
وعلى ضوء مجموع ما سبق من معالم رئيسية لما كان قائما قبل التوسعة، وبعض المعالم الجديدة المرتبطة بها، يمكن تأكيد ثلاث مهامّ أساسية يفتقر إليها التعامل الراهن مع الوجود الإسلامي في أوروبا، ولا غنى عنها لتحقيق نتائج ملموسة في وقت مناسب على صعيد المهام الفرعية، بمعنى في كلّ ميدان قائم بذاته على حدة، كتعليم الأطفال المسلمين مثلا. المهاّم الرئيسية التي يُفترض أن تتضافر الجهود عليها، ويكثر الحديث عنها، في أوساط المسلمين أنفسهم، وفي مراكز احتكاكهم مع سواهم، وكذلك في وسائل الإعلام العربية والإسلامية التي تتابع هذه القضية عن بعد.. هي:
1- وضع حدّ لتغليب منظور "مكافحة ظاهرة التطرّف والإرهاب" الضروري في الحدود الموضوعية لهذه الظاهرة، المتناسبة مع نسبة انتشارها الواقعية، المماثلة بمعدّلاتها لوجود التطرّف والإرهاب في المجتمعات الأوروبية عموما، أو المنخفضة عن ذلك، وترسيخ منظور التعامل مع الكتلة البشرية الإسلامية الكبيرة المتنوّعة في الجوانب الثقافية والمهنية والتأهيلية وغيرها، والمتداخلة من خلال هذا التنوّع مع سائر الفئات الأخرى في المجتمعات الأوروبية.
2- وضع حدّ للتعامل مع الوجود الإسلامي في أوروبا بأسلوب "المواجهة.. أو الحوار" بين طرفين منفصلين، رغم الاندماج القائم على أرض الواقع في مختلف ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية، واقتصار النسبة الأعظم من التباين والاختلاف على بعض المظاهر الشكلية وجوانب العلاقة المباشرة بين الإنسان وخالقه.
3- العمل على تحقيق نقلة نوعية في مركز ثقل العمل على ترسيخ الوجود الإسلامي في أوروبا، بحيث لا يكون عملا قائما على ما يمكن تحقيقه فقط ما بين المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية من جهة، والتنظيمات والمراكز التقليدية للمسلمين في أوروبا من جهة أخرى، فالمطلوب أن يتحقق الهدف عبر الوجود الفعلي للمسلمين، لا سيّما من فئة الشبيبة والناشئة، في إطار التركيبة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية القائمة، من خلال المدارس والجامعات والمراكز الثقافية والنقابات وروابط البيئة وغيرها وكذلك من خلال المشاركة في فعاليات هذه الجهات وفعاليات التوعية العامّة، الرسمية والشعبية، بالإضافة إلى ما يمكن الوصول إليه تدريجيا وبنسبة أعلى ممّا يتوافر حاليا، في الميادين الحزبية والسياسية والتشريعية وما يلحق بها.
إنّ المعطيات المبدئية لهذه المحاور الثلاثة متوافرة نسبيا، ولا يعني ذلك الغفلة عن العقبات والعراقيل، الذاتية من داخل صفوف المسلمين، والخارجية. والعمل على صعيدها بصورة شاملة، لا يمنع من تأكيد العمل على المستويات الأخرى، التي يمكن وصفها بالتخصصية أو الفرعية، التي يمكن تعداد عناوينها فيما يلي، دون الإغفال عن وجود كثير من المبادرات العملية الناشطة على صعيدها:
1- التركيز على مضاعفة الجهود في إعداد جيل الأطفال والناشئة من المسلمين على مستوى التعليم المدرسي والجامعي والتأهيل المهني.
2- تكثيف نشاطات التوعية الإسلامية المتوازنة في أوساط الشبيبة المسلمة، اعتمادا على جهود الشبيبة أنفسهم، ودون الفصل بينهم وبين عامّة الشبيبة في المجتمعات الغربية حولهم.
3- متابعة الجهود المبذولة على صعيد المرأة المسلمة، ولا سيّما من جيل الشبيبة التي تشهد تحرّكا واسع النطاق، لإثبات وجود المرأة المسلمة ودورها في المجتمع حولها بصورة مباشرة.
4- إعادة النظر في المهام التقليدية والأساليب التقليدية التي قامت عليها التنظيمات والمراكز الإسلامية في الغرب حتى الآن، ممّا حقق أغراضه في فترة سابقة بغض النظر عن حجم النجاح وحجم الأخطاء، ولا بدّ من تطوير جذري لتلك المهام والأساليب والبنية الهيكلية بما يتناسب مع المتطلبات الراهنة والظروف الراهنة.
5- التحرّك من جانب من لديهم مواصفات "النخبة الثقافية والفكرية والإعلامية" داخل صفوف المسلمين في الغرب، لإيجاد آليات عملية ودائمة للتفاعل مع النخب المماثلة في المجتمع الأوروبي، والتي يمكن القول إنّ الفترة الأخيرة شهدت على صعيدها كثيرا من المبادرات الهادفة إلى "ضبط" أفضل وأكثر إنصافا لأطر التعامل مع الإسلام والمسلمين بدلا من "انفلات" الحملات الهجومية الراهنة،
6- دراسة السبل الأنجع لتفعيل نموّ العمل الاختصاصي في الميادين الأكاديمية والمهنية والتجارية، ليس بغرض فصلها عن المحيط الاختصاصي الأوروبي حولها، وإنّما لتعزيز وجودها في نطاقه، مع قابلية توظيف منجزاتها في خدمة مستقبل أفضل للوجود الإسلامي في المجتمعات الأوروبية عموما.
المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...