المدارس في حضارتنا .. هل نستعيد مجدها !!!

إن المدارس، وهي التي قامت على الأوقاف الكثيرة التي تبرع بها الأغنياء من قادة وعلماء وتجار وملوك وأمراء، فقد بلغت من الكثرة حدا بالغا، وحسبك أن تعلم أنه لم تخل مدينة ولا قرية، في طول العالم الإسلامي وعرضه، من مدارس متعددة يُعلِّم فيها عشرات من المعلمين والمدرسين.

كان المسجد هو النواة الأولى للمدرسة في حضارتنا، فلم يكن مكان عبادة فحسب بل كان مدرسة يتعلم فيها المسلمون القراءة والكتابة والقرآن وعلوم الشريعة واللغة وفروع العلوم المختلفة، ثم أقيم بجانب المسجد الكتاب، وخصص لتعليم القراءة والكتابة والقرآن وشيئ من علوم العربية والرياضة، وكان الكتّاب يشبه المدرسة الابتدائية في عصرنا الحاضر، وكان من الكثرة حيث عدّ ابن حوقل ثلاثمائة كتّاب في مدينة واحدة من مدن صقلية. وكان من الاتساع أحيانا بحيث يضم الكتّاب الواحد مئات وآلافاً من الطلاب. ومما يذكر في تاريخ أبي القاسم البلخي أنه كان له كتّاب يتعلم به ثلاثة آلاف تلميذ.

ثم قامت المدرسة بجانب الكتّاب والمسجد، وكانت الدراسة فيها تشبه الدراسة الثانوية والعالية في عصرنا الحاضر. كان التعليم فيها مجانا ولمختلف الطبقات. وكانت الدراسة فيها قسمين: قسما داخليا للغرباء والذين لا تساعدهم أحوالهم المادية علي أن يعيشوا علي نفقات آبائهم، وقسما خارجياً لمن يريد أن يرجع في المساء إلى بيت أهله وذويه. أما القسم الداخلي فكان بالمجان أيضا، يهيأ للطالب فيه الطعام والنوم والمطالعة والعبادة.. وبذلك كانت كل مدرسة تحتوي علي مسجد، وقاعات للدراسة، وغرف لنوم الطلاب، ومكتبة، ومطبخ وحمام. وكانت بعض المدارس تحتوي فوق ذلك على ملاعب للرياضة البدنية في الهواء الطلق. ولا تزال لدينا حتى الآن نماذج من هذه المدارس التي غمرت العالم الإسلامي كله، ففي دمشق لا تزال المدرسة النورية التي أنشأها البطل العظيم نور الدين الشهيد، وهي الواقعة الآن في سوق الخياطين، ولا تزال قائمة تعطينا نموذجا حيا لهندسة المدارس في عصور الحضارة الإسلامية، لقد زارها الرحالة ابن جبير في أوائل القرن السابع الهجري، فأعجب بها وكتب عنها. ونجد مثلها في حلب في مدارس الشعبانية والعثمانية والخسروية، حيث لا يزال فيها للطلاب غرف يسكنونها وقاعات للدراسة، وقد كانوا من قبل يأكلون فيها، ثم عدل عن ذلك إلى راتب معلوم في آخر كل شهر يعطى للطلاب المنتسبين إليها.

وأظهر مثال لهذه المدارس الجامع الأزهر، فهو مسجد تقام في أبهائه حلقات للدراسة، تحيط به من جهاته المتعددة غرف لسكن الطلاب تسمى بالأروقة، يسكنها طلاب كل بلد بجانب واحد، فرواق للشاميين، ورواق للمغاربة، ورواق للأتراك، ورواق للسودانيين، وهكذا..

وجدير بنا ونحن نتحدث عن المدارس أن نتحدث عن المدرسين وأحوالهم ورواتبهم، لقد كان رؤساء المدارس من خيرة العلماء وأكثرهم شهرة، وإنّا لنجد في تاريخ مشاهير العلماء المدارس التي درسوا فيها، فالإمام النووي وابن الصلاح وأبو شامة وتقي الدين السبكي وعماد الدين بن كثير وغيرهم ممن كانوا يدرسون في دار الحديث بدمشق، والغزالي والشيرازي وإمام الحرمين والشاسي والخطيب والتبريزي والقزويني والفيروز أبادي وغيرهم ممن كانوا يدرسون في المدرسة النظامية ببغداد، وهكذا.. ولم يكن المدرسون في صدر الإسلام يأخذون أجرا على تعليمهم حتى إذا امتد الزمن واتسعت الحضارة وبنيت المدارس وأوقف لها الأوقاف جعل للمدرسين فيها رواتب شهرية.

ولم يكن يجلس للتدريس إلا من شهد له الشيوخ بالكفاءة. وقد كان الأمر في عصر الإسلام الأول أن يسمح الشيخ للتلميذ بالانفصال عن حلقته وإنشاء حلقة خاصة، أو أن يعهد برئاسة الحلقة إليه بعد وفاته، فإن فعل غير ذلك كان محل نقد وتعرض للأسئلة الشديدة المحرجة.. هكذا كان الأمر. فلما أنشئت المدارس جُعل للمتخرجين فيها إجازات علمية يعطيها شيخ المدرسة، وهي تشبه الإجازات العلمية في عصرنا، ولم يكن يسمح للأطباء بممارسة الطب إلا بعد نوال هذه الشهادة من كبير أطباء المدرسة.

وكان للمدرسين شعار خاص يفضلهم عن غيرهم من أرباب المهن. كان شعارهم في عهد أبي يوسف عمامة سوداء وطيلسانا، وشعارهم في عهد الفاطميين عمامة خضراء وكسوة مذهبة تتكون من ست قطع، أهمها القلنسوة والطيلسان. أما الجبة واختصاص العلماء والمدرسين بها فقد بدأ ذلك في عهد الأمويين. وكانت ملابسهم في الأندلس تختلف قليلاً عن ملابس العلماء والمدرسين في المشرق.. وقد أخذ الغربيون عن مدرسي الأندلس زيهم، فكان هو أصل الزي العلمي المعروف الآن في الجامعات الأوروبية.

وكان للمعلمين نقابة كنقابة الطالبيين، ونقابة الأشراف ونقابات بعض الحرف والمهن الصناعية في تلك العصور، وكان جماعة المدرسين هم الذين يختارون النقيب، وما كان يتدخل السلطان إلا إذا وقع خلاف بين الأعضاء فيصلح بينهم.

كانت المدارس على هذا، وخاصة المعاهد العليا، تملأ مدن العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه ويذكر التاريخ بكثير من الإكبار والإعجاب نفرا من أمراء المسلمين كانت لهم اليد الطولى في إنشاء المدارس في مختلف الأمصار، منهم صلاح الدين الأيوبي، فقد أنشأ المدارس في جميع المدن التي كانت تحت سلطانه في مصر ودمشق والموصل وبيت المقدس، ومنهم نور الدين الشهيد الذي أنشأ في سورية وحدها أربعة عشر معهداً، منها ستة في دمشق، وأربعة في حلب، واثنان في حماه، واثنان في حمص، وواحد في بعلبك، ومنهم نظام الملك الوزير السلجوقي العظيم الذي ملأ بلاد العراق وخراسان بالمدارس حتى قيل فيه، إن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة، وكان ينشئ المدارس حتى في الأماكن النائية، فقد أنشأ في جزيرة ابن عمرو مدرسة كبيرة حسنة، وكلما وجد في بلدة عالما قد تميز وتبحر في العلم بنى له مدرسة ووقف عليها وقفا وجعل فيها دار كتب. وقد كانت نظامية بغداد أولى المدارس النظامية وأهمها، درّس فيها مشاهير علماء المسلمين فيما بين القرن الخامس والتاسع الهجري، وقد بلغ عدد طلابها ستة آلاف تلميذ، فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة وابن أفقر الصناع فيها، وكلهم يتعلمون بالمجان، وللطالب الفقير فوق ذلك شيء معلوم يتقاضاه من الريع المخصص لذلك.

وبجانب هؤلاء العظماء كان الأمراء والأغنياء والتجار يتسابقون في بناء المدارس والوقف عليها بما يضمن استمرارها وإقبال الطلاب عليها، وكثيرون جدا هم الذين جعلوا بيوتهم مدارس، وجعلوا ما فيها من كتب وما يتبعها من عقار وقفا على طلاب العلم الدارسين فيها.

وكانت المدارس متعددة الغايات، فمنها مدارس لتدريس القرآن الكريم وتفسيره وتحفيظه وقراءاته، ومنها مدارس للحديث خاصة، ومنها- وهي أكثرها- مدارس للفقه، لكل فقه مدارس خاصة به، ومنها مدارس للطب، ومنها مدارس للأيتام، وها هو النعيمي في كتابه (الدارس في تاريخ المدارس)- وهو من علماء القرن العاشر الهجري- يذكر لنا ثبتاً بأسماء مدارس دمشق وأوقافها، ومنه نعلم أنه كان في دمشق وحدها للقرآن الكريم سبع مدارس، وللحديث ست عشرة مدرسة، وللقرآن والحديث معا ثلاث مدارس، وللفقه الشافعي ثلاث وستون مدرسة، وللفقه الحنفي اثنتان وخمسون مدرسة، وللفقه المالكي أربع مدارس، وللفقه الحنبلي إحدى عشرة مدرسة، هذا عدا عن مدارس الطب والرباطات والفنادق والزوايا والجوامع، وكلها كانت مدارس يتعلم فيها الناس.. وإذا ذكرنا مع هذا ما كان عليه الغربيون في تلك العصور نفسها من جهالة مطبقة ومن أمية متفشية حتى لم يكن للعلم مأوى إلا أديرة الرهبان، وهي مقصورة على رجال الكهنوت فقط، أدركنا أية عظمة بلغتها أمتنا في أوج مجدها، وكم كانت حضارتنا رائعة في تاريخ المؤسسات الاجتماعية والمعاهد العلمية، وكم كان للإسلام من يد في نشر العلم، ورفع مستوى الثقافة العامة، وتيسير سبلها لسائر أبناء الشعب.

قال ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة إحدى وثلاثين وستمائة: (فيها كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد، ولم يُبنَ مدرسة قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة، من كل طائفة إثنان وستون فقيها، وأربعة معيدين، ومدرس لكل مذهب، وشيخ حديث، وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام، وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد..) إلى أن قال: (ووقفت خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها، وجودة الكتب الموقوفة بها).

المصدر: فكرة لبكرة.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك