المسلمون بين التمييز والاندماج في أوروبا

عقبات العلمانيين الأصوليين من المسلمين وغير المسلمين
في الفترة من 17 إلى 25 آذار/ مارس 2007م تشهد أوروبا فعاليات "الأسبوع العالمي لمكافحة العنصرية"، ولا يدور الحديث في ذلك حول أشكال العنصرية المعروفة عالميا والتي سبق انهيار آخر حصونها الرئيسية في جنوب إفريقيا، إنّما يتوجّه الاهتمام إلى أشكال من العنصرية تشهدها الحياة اليومية الأوروبية نفسها، ضد "الأغراب" عموما، وبما يشمل المسلمين على وجه التخصيص. ويتزامن ذلك مع انطلاقة عمل "وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية" بديلا عن "مجلس العلاقات بين الثقافات" الذي كان يحمل مهمّة مراقبة مظاهر العنصرية والعداء للأجانب خلال السنوات الماضية (منذ عام 1998م) ويصدر تقريرا سنويا مفصلا حولها، مع توصيات ختامية لمواجهتها والحدّ من نموّها.
تمييز متصاعد ضد المسلمين - بين الخوف المرضي والجهل - بذور تيار العلمانيين المسلمين
آخر التقارير السنوية الصادرة عن المجلس الأوروبي للعلاقات بين الثقافات (12/2006م) يطرح صورة إجمالية سلبية للغاية عن أوضاع المسلمين في أوروبا، بدءا بالاقتصار على "تقديرات" رسمية عامّة لتعدادهم من بين الفئات السكانية الأخرى، مرورا بارتفاع نسبهم في ميادين البطالة والأجور المنخفضة والأحياء الفقيرة، وانتهاء بانخفاض نسب مَن يكمل التحصيل المدرسي والجامعي منهم. ويؤكّد التقرير تعرّض المسلمين للتمييز (في سوق العمل تخصيصا) بسبب انتمائهم الديني، لا سيّما في أسبانيا وإيطاليا وهولندا والبرتغال، وكذلك لهذا السبب بالإضافة إلى أسباب أخرى في النمسا وألمانيا وفرنسا واليونان وبلجيكا.
ورغم انتشار ظاهرة "الخوف المرضي من الإسلام" انتشارا واسعا، لا توجد حتى الآن إجراءات قانونية لمواجهتها، ولا تعريف رسمي لها، مع ملاحظة دور وسائل الإعلام في ترسيخها ونشرها، حتى أصبحت تشمل -وفق استطلاعات الرأي- أكثر من نصف السكان الأوروبيين مع تفاوت طفيف بين دولة وأخرى.
هذه الصورة السلبية الصادرة عن دائرة رسمية أوروبية لا تختلف كثيرا عن الصور التي تعطيها مؤسسات ودوائر وهيئات رسمية وغير رسمية أخرى، ازداد عددها في الآونة الأخيرة، أكبرها وأعرقها رابطة هيليسنكي الدولية لحقوق الإنسان، والمركز الأوروبي لمكافحة العنصرية في فيينا، بالإضافة إلى العديد من المؤسسات التي نشأت بمبادرات منظمات المجتمع المدني والكنائس، وجميعها يصدر تقارير مشابهة، ويطرح حلولا وتوصيات متعدّدة المضامين والأساليب.
على أنّ الجدير بالتنويه في هذا الموضع، أنّ أحدث هذه التقارير يشكو من عدم اتخاذ خطوات وإجراءات رسمية مضادّة لكبح جماح انتشار هذه الظاهرة، مقابل ارتفاع معدّلات العمليات العدوانية وشبه العدوانية المرتبطة بها (10 في المائة تقريبا بين عامي 2001 و2005م)، ولكنّ هذه الشكوى هي عينها التي كانت تحملها تلك التقارير على الدوام مع توصيات عملية عديدة للمسؤولين، لم تجد طريقها إلى التطبيق، منذ بدأ الاهتمام برصد تلك العمليات في أوساط التسعينات من القرن الميلادي العشرين، وبتعبير آخر: كلام كثير دون خطوة عملية.
يتناقض هذا الإهمال الرسمي بوضوح مع مضامين العديد من التصريحات والمواقف الرسمية، وقد ازدادت في الآونة الأخيرة، كالتصريحات الصادرة عن ساركوزي في حملته الانتخابية لمنصب الرئاسة الفرنسية، ويعود التناقض في الدرجة الأولى إلى انطلاق أصحاب التصريحات من نفق الاعتبارات الأمنية والسياسية فقط، بل يسري التناقض للسبب ذاته على ما يتخذ شكل خطوات عملية أيضا، مثل مشروع ما سمّي "مؤتمر الإسلام في ألمانيا"، أو ضمّ عضوين مسلمين في الحكومة الهولندية في منصب وزيري دولة (وكيل وزارة).
لا يستهان بالدوافع الأمنية الأوروبية للتعامل مع الظاهرة الإسلامية، ولكنّ هذه الدوافع لا تنطلق من دراسات منهجية موضوعية لأوضاع المسلمين في أوروبا، ناهيك عن معرفة الإسلام نفسه، قدر ما تنطلق من الجهل الناجم عن إهمال التعرّف على الآخر طوال العقود الماضية. ولا ريب أنّ الجهود المبذولة الآن لتعويض النقص جهود كبيرة، إذ لم يعد ينقطع مسلسل المؤتمرات والندوات والكتابات حول المسلمين، وبمشاركة بعضهم في كثير من الأحيان، إنّما تحتاج تلك الجهود إلى سنوات عديدة قبل أن تسفر عن نتائج تعطي مفعولها الإيجابي على صعيد صناعة القرار. فمجرّد دراسة ارتباط الدين بحياة المسلمين وتنظيماتهم في ولاية واحدة من أصل 16 ولاية بألمانيا، استغرقت من جانب جامعة بوخوم الألمانية أكثر من ستة شهور (عام 2006م)، وأسفرت عن نتائج لا تتجاوز حدود وضع خطوط عامّة، لما ينبغي دراسته أو استكمال دراسته لاحقا. وإلى أن يتبدّل هذا الوضع العام في الدول الأوروبية عموما، سيبقى المنطلق الغالب على التعامل مع الظاهرة الإسلامية في أوروبا عرضة التأثّر بعوامل عديدة أخرى، لا علاقة لها بحقيقة واقع المسلمين، أو أنّها لا تعبّر سوى جزئيا عن ذلك الواقع، وهذا مقابل استمرار غلبة العنصر العدائي من منطلق "علماني أصولي" على كثير من الناشطين إعلاميا وحزبيا.
ورغم ضعف حجم الخطوات العملية لمراعاة خصوصيات الانتماء الديني لعشرات الملايين من المسلمين في الدول الأوروبية، فإن ردود الفعل عليها من جانب فئات يمكن وصفها بفئات العلمانيين الأصوليين، أصبحت شديدة الحدّة في هذه الأثناء، وهو ما تشير إليه مثلا عناوين مثيرة على كتابات إعلامية مثل (غزو الإسلام لأوروبا) أو (طوبى للمنشقين) والمقصود كتابات فريق من ذوي الأصول الإسلامية الشديدة التحامل على الإسلام، أو (تسلل الشريعة) أي في أوروبا، وهؤلاء يأخذون على بعض المسؤولين دعوتهم مثلا إلى مراعاة المشاعر الإسلامية على ضوء ما صنعته "الإساءة الكاريكاتورية"، أو مجرّد طرح فكرة إنشاء أقسام في المستشفيات خاصة بالنساء المسلمات، ناهيك عن الحملات الشديدة ضدّ قبول بعض الجهات المدرسية بامتناع الفتيات المسلمات عن المشاركة في السباحة المختلطة وهي في منزلة درس إلزامي، بل شهد الإعلام الألماني مؤخرا احتجاجات على قبول بعض المسؤولين عن تنظيم مهرجانات الكرنفال باستثناء "موضوع" الإسلام والمسلمين من مواضيع السخرية والاستهزاء الغالبة على الاحتفالات.
على أنّ مشكلة التعامل مع مظاهر الخوف المرضي من الإسلام والتمييز على حساب المسلمين، من المشكلات التي لم تجد في الأوساط الإسلامية اهتماما كافيا يتجاوز حدود التعبير عن الرفض، بدرجات متفاوتة ما بين السخط والغضب والاحتجاج. وهذه الصور المتعدّدة للرفض هي التي يمتطي ظهرها العلمانيون من ذوي الأصول الإسلامية في تحرّكهم الرافض لصيغة اندماج إسلامي إيجابي مقبول في المجتمع العلماني الأوروبي. وقد ازداد هذا التحرّك ظهورا للعيان في الآونة الأخيرة، وبدأ يتخذ أشكالا تنظيمية، كما في سويسرا وألمانيا، ويمكن أن يتسع نطاقه مع مرور الزمن، ويزداد تأثيره نتيجة وجود جهات أوروبية راغبة في احتضانه ودعمه.
بينما يبقى انشغال التنظيمات الإسلامية عن ذلك مستمرا بالسعي لانتزاع اعترافٍ بها هي في قضايا التعامل مع الإسلام والمسلمين في أوروبا، وقد بقي حتى الآن على حساب العمل الضروري المطلوب للتعامل المباشر مع الفئات السكانية المختلفة خارج نطاق أجهزة صناعة القرار، ممّا يمكن أن يشمل الأنشطة الثقافية والاجتماعية التي تفتح أبواب الاحتكاك مع عامّة السكان، والتعاون مع منظمات المجتمع المدني ومؤسسات صناعة القرار الثقافي والإعلامي. فلا تزال أنشطة التنظيمات الإسلامية تقتصر في الأعمّ الأغلب على المسلمين أنفسهم، وهي لا تضمّ في الأصل ما يصل إلى عشرة في المائة من المسلمين. والقليل الذي ينطوي على احتكاك بالآخر يقتصر على أنشطة محلية في بعض البلدات والمدن، أو يجري على مستويات رسمية، بغرض إثبات وجود التنظيمات نفسها رسميا في نطاق الجهود الرسمية الأوروبية للبحث عن شريك في حوار هادف لرسم خارطة التعامل المستقبلي مع الوجود الإسلامي المتنامي، لجيل الشبيبة خاصّة في القارة العجوز. ورغم وفرة ما يسعى الشبيبة أنفسهم لممارسته من أنشطة خارج نطاق التنظيمات الكبيرة، إلاّ أنّ نقص الإمكانات والطاقات الذاتية يجعل من العسير الوصول إلى الهدف، الذي لم يجد بعد صياغة عامّة مقبولة، ما بين الحوار والاندماج من جهة والذوبان من جهة أخرى، وبما يزيل السلبيات والمخاوف المرتبطة بتناقض حقيقي في بعض جوانبه ووهمي غالبا بين الانتماء للمجتمع الأوروبي والانتماء إلى الإسلام.
المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://www.midadulqalam.info/midad/u...