وسطيـة الإســلام وسماحته ودعوته للحوار

وسطيـة الإســلام وسماحته
ودعوتـه للحــوار

إعــداد
د. عبدالعزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
- إيسيسكو -

مدخـــل :
تتزايد في هذه المرحلة الدقيقة التي يمرّ بها العالم الإسلامي، الأسباب والدواعي التي تدفع إلى معالجة القضايا والموضوعات ذات الصلة بمبادئ الإسلام وقيمه المثلى في الاعتدال والوسطية والسماحة والدعوة إلى الحوار والتعايش بين الأمم والشعوب، من أجل بناء علاقات دولية سليمة، والعمل على استتباب الأمن والسلام واستقرار المجتمعات الإنسانية، وصياغة مستقبل مزدهر للبشرية بمشيئة اللَّه تعالى، تسود فيه قيم الحق والعدل والمساواة والإخاء الإنساني.
وبقدر ما تتفاقم الأزمات على الصعيد الدولي، ويسود الاضطراب ويعمّ القلق الأسرةَ الدولية نتيجةً لإصرار إسرائيل على مواصلة إرهابها وبطشها بالشعب الفلسطيني قتلاً وتدميراً وحصاراً، ضاربة عرض الحائط بالقانون الدولي وبكل القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة التي تدين عدوانها وإجرامها، تَتَعاظَمُ مسؤولية أولي العلم وأرباب الفكر وحَمَلَة القلم من أبناء الأمة الإسلامية، في تبيان وجه الحق في الموقف المبدئي للإسلام من الإرهاب بجميع أشكاله، وفي توضيح المبادئ الإسلامية في التعاون الإنساني وفي تعامل المجتمع الإسلامي مع المجتمعات التي لا تدين بالإسلام على أساسٍ من الأخوة الإنسانية متين.
وعلى الرغم من تعدّد المناسبات التي نبادر فيها إلى إبراز مبادئ الإسلام وتبليغ رسالته إلى الناس كافة، ونقوم فيها بالكشف عن القيم الإسلامية والمثل العليا للدين الإسلامي الحنيف التي تدعو المسلم إلى التعامل مع العالم كلِّه لكونه الأسرة الإنسانية الواحدة، فإن التأكيد على هذه المبادئ يزيدها رسوخاً في الأذهان، ويمدّ إشعاعها إلى المدى الأوسع، ويوضح حقيقة موقف العالم الإسلامي من الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية والتي ينسب بعضها بالباطل والبهتان إلى الإسلام والمسلمين.
إن التأكيد على هذه المبادئ في هذه الظروف التي يتعرض فيها المسلمون للحملات المغرضة التي تزيف الحقائق، وتشوّه صورة الإسلام، وتروّج للأباطيل والاتهامات والشبهات ضد كل ما له صلة بالإسلام، هو من صميم المهام الحضارية التي ننهض بها. وهذه مسؤوليةٌ مشتركةٌ بين جميع العاملين في حقل الفكر الإسلامي، والعمل الإسلامي المشترك، وفي الدعوة الإسلامية بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولعل في مقدمة ما يجب أن نجلّيه للرأي العام العالمي، من مبادئ الإسلام الخالدة، ثلاثة مبادئ رئيسَة، هي : الوسطية، والسماحة، والدعوة إلى الحوار، وهي المبادئ التي تشكّل منظومة متكاملة من القيم الثابتة التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان.
وسنتناول في هذا البحث كلَّ مبدأ على حدة، نبيّن حقيقته، ونكشف عن جوهره، ونوضح خصائصه، ونعرض لتأثيراته في المجتمع الإسلامي، وفي العلاقات التي أقامها المسلمون عبر العصور، مع الأمم والشعوب انطلاقاً من أساسه. ثم نعرض بعد ذلك لحاجة البشرية اليوم إلى العودة لهذه المبادئ، حتى يستقر العالم ويعمّ الأمن والسلم أرجاءه، ونعقد مقارنة بين هذه المبادئ، وبين ما جاء في المواثيق والإعلانات والعهود الدولية بهذا الخصوص. أولاً - وَسَطية الإسلام :
في اللغة الوسط للشيء : ما بين طرفَيْه. وجُعلَ الوسط وصفاً للمتصف بالفضائل، فصار معناه الخيِّـر الفاضل. ومن شأن هذا أن يكون عدلاً في قضائه وشهادته، يقال رجل وسط وأمة وسط، والأوسط يأتي في معنى الأقرب إلى الاعتدال والقصد، والأبعد عن الغلوّ في الجودة والرداءة ونحوهما( ).
والوسط : في الأصل هو اسم للمكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب في المدوَّر، ومن الطرفين في المطوَّل، كمركز الدائرة، ولسان الميزان من العمود، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعهـــا بين طرفَيْ إفراط وتفريط : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}( ): يعني متباعدين عن طرفي الإفراط في كل الأمور والتفريط، ثم أطلق على المتصف بها مستوياً فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها( ).
وفي القاموس، الوسط : كل موضع صلح فيه (بين) فهو بالتسكين، وإلاَّ فهو بالتحريك، ولا يقع إلا ظرفاً.
وتقوم وسطية الإسلام على قواعد من القرآن والحديث النبوي. يقول اللَّه تعالى في محكم التنزيل : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} ، والمعنى في هذا السياق القرآني ينصرف إلى أمور ثلاثة :
أولهـا : الأمة الوسط.
ثانيها : الدين الوسط.
ثالثها : الرسالة الوسط.
فالأمة الوسط التي تدين بالدين الوسط هي ذات رسالة وسطية، تحمل مبادئ الإيمان والحرية والمساواة والتكافل والتضامن بين جميع البشر، وتنشر قيم الخير والفضيلة ، وتدعو الناس كافة إلى سواء السبيل، وتسلك بهم الطرق المستقيمة التي توصلهم إلى الأمن والأمان، والسلام والاطمئنان، وإلى سكينة القلب وراحة الوجدان. والأمة الوسط شاهدة على الناس الشهادة التي تؤكد التكليفَ الإلهيَّ، يقول المولى تعالى في تتمة الآية الثالثة والأربعين بعد المائة من سورة البقرة، موجّهاً الخطاب القرآني إلى المؤمنين : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }( ). والشهادة بالحق هي أعلى الدرجات في سلم المسؤولية التي تتحمّلها الأمة الإسلامية وتنهض بأعبائها وتقوم بواجباتها. لقد اختار اللَّه الأمة الإسلامية لتكون شاهدة على العالمين، لأنها أمة الوسط، لا تميل إلى التفريط ولا إلى الإفراط، ولأن خيرية الأمة من وسطيتها. يقول تعالى في كتابه العزيز : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }( ). فالخيرية في هذا السياق هي الوسطية ، واللَّه سبحانه وتعالى وصف أمة الإسلام بالصفتين معاً، كما وصفها بصفات أخرى في آيات كثيرة.
ولما جعل اللَّه هذه الأمة وسطاً، خصّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب( )، كما قال تعالى : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}( ).
إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، فتبدي فيهم رأيها، فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم وشعاراتهم، فتفصل في أمرها، فتقول هذا حق منها وهذا باطل، لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها، وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم، وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها، فيقرر لها موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيها الكلمة الأخيرة. وبذلك تتحدّد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها لتعرفها، ولتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدرها، وتستعد له استعداداً لائقاً، وإنها لَلأمة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي( ).
لقد جعل اللَّه الإسلام ديناً وسطاً وأمر المسلمين بأن يكونوا خياراً عدولاً، فهم خيار الأمم والوسط في الأمور كلها، بلا إفراط، ولا تفريط، في شأن الدين والدنيا، وبلا غلو في دينهم، ولا تقصير منهم في واجباتهم، فهم ليسوا بالماديين، ولا بالروحانيين، وإنما جمعوا حق الجسد وحق الروح، تمشياً مع الفطرة الإنسانية القائمة على أن الإنسان جسد وروح.
ومن غايات هذه الوسطية وثمرتها : أن يكون المسلمون شهداء على الأمم السابقة يوم القيامة، فهم يشهدون أن رسلهم بلَّغتهم دعوةَ اللَّه، ففرط الماديون في جنب اللَّه وأخلدوا إلى الملذات، وحرم الروحانيون أنفسهم من التمتع بحلال الطيبات، فوقعوا في الحرام، وخرجوا عن جادة الاعتدال، وجنوا على متطلبات الجسد.
والحاصل أن الشهادة على الأمم ميزانُها وسببُها وسطية الإسلام، ويؤكدها شهادة الرسول  على أمته بأنه يزكيهم ويُعلم بعدالتهم( ).
ومن شروط الشهادة في الأمور التي تتعلق بأحوال الناس ومعاشهم وحياتهم العامة : الصدق، والنزاهة، والاستقامة، إلى المعرفة والإحاطة بالظروف والحيثيات والمعطيات كافة. فالعلم مع هذه السجايا الحميدة، من مقوّمات الشهادة، وهذا الشرط لا يتوافر كاملاً مستوفيَ الأركان، إلا عند المؤمن حقاً بالدين الوسط، والذي ينتمي فعلاً إلى الأمة الوسط.
ولعلنا بهذا الربط بين (وسطية الإسلام)، وبين (خيرية الأمة الإسلامية)، نصل إلى إدراك المفهوم العميق لهذا المبدأ السامي من مبادئ الإسلام. وهو مبدأ لم تكن تعرفه الأديان السماوية السابقة على الإسلام، وذلك مما يتطابق تطابقاً تاماً مع الدين الخاتم والرسالة الخاتمة.
ولا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن على أي نحو من الأنحاء أن الوسطية تعني مستوى من مستويات التوفيق بين قواعد ومبادئ وقيم ومثل نزولاً على مقتضى من المقتضيات، أو أنها ضرب من (التقريب) بين ما تَبَايَنَ واختلف من التشريعات والأحكام. فهذا الفهم للوسطية يجافي حقيقتها ويتعارض مع خصوصيتها.
وجملة القول أن الوسطية هي تحقيق لمبدأ التوازن الذي تقوم عليه سنة اللَّه في خلقه. يقول تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }( )، أي بمقدار وبميزان، ووفق نظام رباني ومشيئة إلاهية، ولحكمة أرادها اللَّه تعالى. ويقول اللَّه تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }( ) أي وفق تقدير مسبق وثوابت وسَنَن لا تبديل لها. وهذا التوازن الذي يعني في الوقت نفسه الاعتدال، والتكافؤ بين العناصر والمقومات والمكونات جميعاً والتكامل فيما بينها، هو القاعدة الثابتة للوسطية، وهو الخاصية الجوهرية التي تتميّز بها، فإذا انتفى هذا التوازن، فقدت الوسطية عنصرها الأساس، لأنها في هذه الحالة تميل مع الأهواء، فتصبح تفريطاً أو إفراطاً، وهما بابان من أبواب التطرف في أحد الاتجاهين الإيجابي أو السلبي، وإن كان لا خير في التطرف من حيث هو، وإن حسنت النوايا، لأنه شرٌّ كلّه وعاقبته وخيمة في جميع الأحوال.

ولقد وضع الخالق تعالى الميزان لهذا الكون، ما نعلمه منه وما نجهل، لتنظيم الحياة وفق نظام رباني يجمع بين الانسجام والتناغم وبين الاعتدال والتوازن، وهو ما يؤكد أن الوسطية أصل النظام الكوني، وأنها عنصر من عناصر الخلق. وكما ينطبق هذا النظام الرباني على الحياة والكون، ينطبق أيضاً على الإنسان بدرجة أولى، بحيث إن المنهج الذي يصلح للإنسان هو المنهج الوَسَطي، وهو ما جاءت به الرسالة الإسلامية الخاتمة التي اشتملت على القواعد والأصول وكليات الأحكام.
فالوسطية هي المنهج الرباني، والنظام الكوني الإلهي، وسنة اللَّه في خلقه، وهي تنسجم مع الفطرة الإنسانية، ولذلك فالخير كلُّه في الوسطية التي جاء بها الإسلام للأمة الإسلامية وللإنسانية جمعاء، في كل زمان ومكان. وقد بلغت الوسطية الإسلامية وتبلغ هذا المقام في حضارتنا، لأنها بنفيها الغلو الظالم والتطرف الباطل، إنما تمثل الفطرة الإنسانية الطبيعية في براءتها، وفي بساطتها، وبداهتها، وعمقها، وصدق تعبيرها عن فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، إنها صبغة اللَّه ( ).

ثانياً - في دلالة سماحة الإسلام :
في اللغة، السماحة : الجود والكرم والسهولة، وسمح سمحاً وسماحاً : لأنَ وسَهُل، والسَّماح التسامح والتساهل. وفي الفقه البيع السَّماح هو البيع بأقل من الثمن المناسب. ومن معاني السماحة أيضاً، سمح العود : استوى وتجرّد من العقد. ففي تاج العروس (سُمح، ككرُم، سماحاً وسماحةً وسموحاً وسموحةً، بالضم فيها، و(سمحاً) بفتح فسكون (وسماحاً)، إذا جاد بما لديه، وكرم( ). وفي معجم لغة الفقهاء : سماحة مصدر سُمح (بضم الميم وفتحها) الجود والكرم، واللين والسهولة( ). وورود (اللين) هنا يفيد نقيض الشدة التي ترهق وتكلف المرء ما لا يستطيع تحمّله من أعباء وتكاليف في حياته. واللين فضيلة من الفضائل المحمودة، وهو منزع من منازع الشريعة السمحاء، وصفة من صفات المؤمن.
وينفرد صاحب (التعريفات) بإيراد معنى عميق الدلالة رحب المضمون، للسماحة، وهو (بذل ما لا يجب تفضّلاً) ( ). ولعل هذا المعنى هو أقرب ما يكون إلى الكرم والجود. ويلحظ ابتداءً أن الجرجاني أدق في تعريفه السماحة من غيره، لنزوعه كما نعلم إلى التعمق في المفردات والنظر إليها من زاوية أشمل، هي إلى الفلسفة أقرب منها إلى اللغة.
وقد اكتسب مصدر (السماحة) في هذا العصر معنى هو أقرب إلى التساهل بما يعني عدم تعقيد الأمور وجعلها سهلة لينة. وللتساهل معنيان، أولهما إيجابي، وثانيهما سلبي. ونحن نقصد بطبيعة الحال المعنى الإيجابيَّ الذي هو نقيض التفريط والإخلال بالواجب. وبذلك يكون معنى سماحة الإسلام، أو الشريعة السمحاء، هو التسهيل في الأحكام والتكاليف الشرعية، ومراعاة مقتضيات الفطرة الإنسانية، وتخفيف الأعباء عن كاهل الإنسان وعدم تكليفه ما لا يطيق، مصداقاً لقوله تعالى : { لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا }( )، وقوله عز وجل : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }( )، ولقوله عزَّ من قائل :{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }( ). ونحن إذا جمعنا هذه المعاني جميعاً، نصل إلى المعنى العام للسماحة الذي نهدف إليه، وهو المعنى الوافي بالقصد في هذا السياق. وفي ضوء ذلك تكون سماحة الإسلام،هي رحابة مبادئه وسعة شريعته ونزوعه إلى اللين واليسر، وتلبيته لنداء الفطرة واستجابته لمتطلباتها في وسطية واعتدال.
لقد اشتملت مبادئ الإسلام على منهج للحياة ملائم للإنسان في كل أطواره وظروفه، فيه الرحمة بالإنسان، وفيه هدايته إلى ما فيه الخير والصلاح والقوة والمناعة ضد كل ما يفسد الفطرة ويضرّ بالجسد والروح، وفيه ما يحقق له سكينة الضمير وراحة العقل وطمأنينة النفس، ويضمن له السعادة في الدارين.
ورحمة الإسلام بالإنسان من حيث هو إنسان، إنما تأتي من وسطيته، ومن سماحته، ومن عدالته، ومن تكريمه للإنسان، ومن تأكيده على مبدأ الأخوة الإنسانية النابعة من وحدة الأصل، فمبادئ الإسلام كلها رحمة وسماحة وعدالة بين البشر جميعاً، واللَّه سبحانه وتعالى خلق الخلق وسخر لهم ما في الكون وبعث فيهم الرسل والأنبياء، وجعل رسوله محمد بن عبد اللَّه  آخر أنبيائه ورسله مثال السماحة وعنوان الوسطية وميزان العدالة، والرحمة المهداة إلى الإنسانية، إلى أن تقوم الساعة.

ثالثاً - دعوة الإسلام إلى الحوار :
تقوم فلسفة الحوار في الحضارة الإسلامية على قواعد ثلاث، هي :
القاعدة الأولى :
الإيمان بالله ورسوله وكتابه، وتقوى اللَّه، والتواضع للَّه، والثقة في نصره، والاعتزاز بالحق والتشبث به، يقول تعالى في محكم التنزيل : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ }( )، { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }( ). فاستشعارُ العزة والامتلاء بها، يحفزان إلى الثبات في مواقف الحق، وإلى عدم الركون إلى الباطل أو الانهزام أمام سطوته، ويقوّيان في النفس إرادةَ البقاء الحرّ الكريم، فالـمؤمن دائـماً عـزيز النفس قويُّ الجانب، حرّ الإرادة، كريم الذات ؛ لا يقبل الهوان والانكسار والذلة والصغار، لا في دينه، ولا في نفسه.
القاعدة الثانية :
التأدّب بأخلاق الإسلام، والتأسي بسيرة النبي  ، وسِيرة صحابته الكرام، في الحوار ومخاطبة الناس من منطلق الإيمان بوحدة النوع الإنساني أولاً، قال  : " كلكم لآدم وآدم من تراب "، والمجادلة بالتي هي أحسن ثانياً، يقول تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }( )، { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }( ).
القاعدة الثالثة :
نشدان الحق والبحث عنه، والسعي إلى الحقيقة والتماسها، والقصد إلى ما فيه الصالحُ العام من شتى الطرق التي ليس فيها انحرافٌ عن محجة الشرع، وبمختلف الوسائل التي تحقّق مصالح العباد والبلاد.
وعلى الرغم من الطبيعة المتشعبة للحوار، فإنه ليس دعوة، ولا مناظرة، ولا مجادلة، ولكنه صيغة جامعة، وأسلوب من أساليب التقارب والتجاوب والتفاعل. ولذلك فإن من شروط الحوار الجادّ الهادف أن يتصف بالحكمة. والحكمة هي جماع العلم والمعرفة، من عناصرها الفطنةُ وحسنُ الفهم، وعمق الوعي وسعة الإدراك، والـرشد، والتـنبّه، والقصد والاعتدال. يقول تعالى في سورة البقرة : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}( ). وإذا كانت الحكمة هنا قرينةَ الدعوة، فإنها من شروط الحوار أيضاً.
وكما ترتبط الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فكذلك الحوار قرين الحكمة والموعظة الحسنة في جميع الأحوال. وهذا الارتباط هو من قبيل ارتباط المنهج والمضمون بالوسيلة والأسلوب ؛ فالحوار هو الوسيلة والأسلوب، والحكمة هي المنهج، بينما المضمون هوالموعظة الحسنة، وليست أية موعظة، على أي نحوٍ من الأنحاء، ولا بأية طريقة من الطرق، ولكنها موعظةٌ حـسنة. وفـي السـياق القـرآني، تتـبع الـدعوةَ إلى اللَّه بالحكمة والمـوعظة الحـسنة، الـمجادلةُ بالتـي هـي أحــسن، يـقول تعـالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }( ). وينطبق هذا على الحوار انطباقاً كاملاً.
وإذا كانت المجادلة، وهي مقارعة الحجة بالحجة، تأتي في المرتبة الثانية من مراتب الدعوة إلى اللَّه، وكما أن الدعوة لاتتم على الوجه الشرعي، إلا إذا كانت صادرة عن الحكمة، ومقترنة بها، كذلك الحوار لا يكون إلا بالتي هي أحسن، أي أحسن الوسائل وأقوم الأساليب، وأصح الطرق. وهذه هي مبادئ الحوار، وأسسه، وشروطه.
أما مقوّمات المحاور، فهي فرعٌ عن هذه المبادئ، وتأسيسٌ على تلك القواعد. فالمحاور لابد أن يكون حكيماً فطناً، عالماً بالعصر، فقيهاً في قضاياه ومشكلاته، قوياً مستقيماً، عارفاً بالدنيا، مدركاً لرسالته، متفتح العقل، ذكي الفؤاد، واسع الأفق، محيطاً بمعارف شتى، على قدر كبير من الثقافة والخبرة والتخصّص.
وبهذا المعنى، فإن الحوار قوة وسلاح من أسلحة السجال الثقافي والمعركة الحضارية، وهو وسيلة ناجعة من وسائل الدفاع عن المصالح العليا للأمة، وشرح قضاياها، وإبراز اهتماماتها، وتبليغ رسالتها، وإسماع صوتها، وإظهار حقيقتها، وكسب الأنصار لها، وجلب المنافع إليها، ودرء المفاسد عنها.
وإذا كان الحوار أصلاً ثابتاً في الحضارة الإسلامية، فإنه من مبادئ الشرع الحنيف، استناداً إلى قوله تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ }( ). فهذه الآية في عمقها وجوهرها، وفي مغزاها ومعناها، دعوة إلى الحوار الراقي الهادف.
وتأسيساً على هذه القاعدة، فإن الحوار الذي يجب أن ندعو إليه وندخل فيه ونتبنّاه، هو الذي يستمد من الإسلام روح الاعتدال، لأن أحكام الإسلام تسودها روح الاعتدال، فهي تنبذ التطرف وتفضل التوسّط بين الأطراف. ولقد وردت الكثير من الآيات القرآنية في مواضع مختلفة تشير إلى هذه الروح، بل تشيد بها، أي بذلك التوسّط، منها قولُه تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }( ) ويقصد "بأمة وسط" أمة لها طابع الاعتدال( ). ويرى بعض العلماء أن "وسطية الإسلام" تلتقي في معناها أو تتقارب مع "مثالية الإسلام"، فقد فسروا معنى " أمة وسطاً "، الواردة في هذه الآية، بأمة مثالية إذا اتبعت شريعة اللَّه وقامت بحقها( ).
وهكذا، فإن الحوار في شريعة الإسلام، وفي مفهوم الفكر الإسلامي، هو الحوار الذي ينزع منزع الوَسَطِيَّة والاعتدال، استمداداً من دلالة لفظ "كلمة سواء" في الآية الكريمة، فهو حوار بالكلمة الراقية، وبالمنهج السويّ ( ). وبذلك يتميّز حوارنا دلالةً ومفهوماً وغايةً وفلسفةً.

منطلقات الحوار وموضوعاته وأهدافه :
أولاً : منطلقات الحوار من منظور إسلامي، ومادام الحوار الراقي هو مظهرٌ حضاريٌّ يعكس تطورَ المجتمع ونضجَ فئاته الواعية، فإنه لابد أن يستند إلى أسس ثابتة، وضوابط مُحكمة، وأن يقوم على منطلقاتٍ أساسٍ يمكن حصرها في ثلاث، هي :
1. الاحترام المتبادل .
2. الإنصاف والعدل .
3. نبذ التعصّب والكراهية .
وفي رؤيتنا الإسلامية الحضارية، فإن الاحترام المتبادل بين الأطراف المتحاورة، هو المنطلق الأول الذي يجب أن يَرتكز عليه الحوار. يقول تعالى : {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ }( ). وهذا يفترض وجود قواسم مشتركة تكون إطاراً عاماً وأرضيةً صلبة للحوار. ولنا في القيم الدينية أولاً، ثم في المبادئ الإنسانية والقواعد القانونية ثانياً، غَنَاءٌ لجميع الفرقاء المشاركين في الحوار، على أي مستوى كان، وهي جميعاً قيمٌ ومبادئ تحكم علاقات البشر بعضهم مع بعض، وتضبط مسار حركاتهم وسكناتهم، وتضع القواعدَ الثابتةَ للتعامل فيما بينهم. وبذلك نضمن ألا يكون الحوارُ ساحةً للَّجاج العقيم، والتطاول على أقدار الناس، والمسّ بمكانتهم، وتبادل الإساءة فيما بينهم، ولئلا يفقد الحوار صبغتَه الحضارية.
وإذا كان الاحترام المتبادل منطلقاً أولاً للحوار، فإنَّ الإنصاف والعدل هو المنطلق الثــــاني. ولنا في قوله تعالى في ســــورة المائدة قاعــدةٌ ثابتةٌ، وهدايةٌ دائمةٌ. يقــــول تعالى : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ }( ). فالعدل هو أساس الحوار الهادف الذي ينفع الناس ويمكث أثرُه في الأرض. ويقتضي العدل المساواة بين البشر، ويستدعي الاعتراف بالفضل لذويه، ويتطلب الإقرار بالحقيقة، حتى وإن لم تكن في صالح جميع الأطراف. ثم إنَّ العدل هو روح الشريعة الإسلامية، وهو جوهر القانون الوضعي، وهو الأساس الراسخ الذي يقوم عليه القانون الدولي الذي يجب أن يسود المجتمعات البشرية كلَّها. ولذلك فإن العدل والإنصاف في مفهومنا الإسلامي، هو الشرعية الحضارية التي ينبغي أن تكون منطلقاً للحوار، أيّاً كان مستواه، ومهما تكن أهدافه.
وباجتماع الاحترام المتبادل والإنصاف والعدل، تتوفر قاعدة ثالثة من القواعد التي تقوم عليها منطلقات الحوار، وهي نبذ التعصّب والكراهية، ونجد أصلاً لهذه القاعدة في قوله تعالى في سورة الممتحنة : { لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }( ).
والتوجيه القرآني هنا، يرقى من مستوى نبذ التعصّب والكراهية، إلى مقام أرفع، وهو البرُّ بالناس كافة، ومعاملتهم بالقسط ـ وهو العدل ـ جميعاً. والبِرُّ هو الإحسان بكل دلالاته الأخلاقية واللغوية. ونتلو في سورة البقرة قوله تعالى: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}( ). ويذهب الشيخ محمد عبده في شرحه لهذه الآية إلى أن "الحُسْـــن" في هذا السياق، ليس معناه مجرد التلطف بالقول والمجاملة في الخطاب، فالحُسْن هو النافع في الدين والدنيا( ). وعند ابن كثير : "وقولوا للناس حسنا"، أي كلموهم طيباً وليّنوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالمعروف، ويعفو ويصفح ويقول للناس حسناً كما قال اللَّه وهو كلُّ خلق حسن رضيه اللَّه، بعد أن أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي( ) وتلك هي المنطلقات الراسخة لأي حوار فاعل وهادف.
ثانياً : موضوعات الحوار، إن كلَّ ما فيه المصلحة للفرد والمجتمع، يصلح أن يكون مجالاً للحوار، وكل ما يحقق المنفعة للمجتمع الإسلامي، جدير بأن يكون موضوعاً للحوار، فلا يقتصر الحوار على موضوع دون آخر، مادامت المنافع والمصالح هي محورَه الرئيسَ ومجاله الحيويّ، فهو يتناول الموضوعات جميعاً، ويشمل كلَّ القضايا ذات الصلة بحياة المجتمع في حاضره ومستقبله، ويغطّي شتى الموضوعات التي ترتبط بجميع مناحي الحياة سياسياً واقتصادياً، ثقافياً وعلمياً، تربوياً وفكرياً، ويستجيب للحاجات الضرورية التي تفرضها طبيعة العلاقات الثنائية والمصالح المتبادلة.
وموضوعات الحوار هي من السعة والشمول بحيث لا تُحَدُّ بمدارٍ أو مسار، مادام الهدف هو الوصول إلى الحقائق، وتحقيق الأهداف التي تعود بالنفع على الجميع.
ولا شك أن المجتمعات الإسلامية في المرحلة الراهنة في حاجة إلى أن ينفتح فيها الحوار على آفاق العصر، ولن يتيسّر هذا إلا بالأخذ بأمرين مهمين، أولهما الدخول في حوار مع العصر، بما يناسب من طرائق وأساليب، وثانيهما تحصين الذات بإصلاح أحوال الفرد والمجتمع إصلاحاً عميقاً، ومن النواحي كافة، حتى تسود روح الحوار العالم العربي الإسلامي، ويتعمّق ما يصطلح عليه بـ (الحوار الوطني) من جهة، و(الحوار العربي ــ العربي)، و(الحوار الإسلامي ـ الإسلامي)، من جهة ثانية.
وينبغي أن يهدف (الحوار الوطني) إلى رصد عوامل تفاقم الأوضاع الاجتماعية واحتوائها، والعمل على تدعيم سبل الاستقرار والتنمية. وحتى تصبح الحوارات الوطنية في العالم العربي الإسلامي بمثابة نقطة تحوّلٍ وانطلاقٍ إلى آفاق جديدة في واقعنا السياسي والاجتماعي وفي الميادين كافة، لابد أن نحرص على الإدارة العلمية والدقيقة لهذه الحوارات، وفي اتجاهنا نحو هذه الغاية لابد أن نفرّق أولاً بين مفهومَي (الحوار) وبين (عمليات التفاوض الجمعي) ( )، وذلك تجنباً للفوضى والوقوع في المحظور، والسير في الاتجاه الخطأ.
وهذا الضرب من الحوار الذي يمكن أن نصطلح عليه "بالحوار الداخلي"، هو خطوة أولى نحو الحوار مع الخارج، لأنه يقوي النسيج الوطني في كل بلد من بلدان العالم العربي الإسلامي، من جهة، ويُكسب المجتمع مناعةً أصبحت اليوم ضرورية للتعامل مع العالم المحيط بنا، من جهة ثانية. لأننا لايمكن أن نفلح في الحوار مع العالم، ما لم نُفلح في الحوار مع أنفسنا.
وفي هذا الإطار العام، يمكن أن يكون كل موضوع يهمّ الفرد والمجتمع موضوعاً للحوار. ولاينبغي أن ينطبع الحوار في كل المراحل بالطابع السياسي والثقافي والفكري فحسب، وإنما نفع الحوار ونجاعتُه تكمنان في شموليته واستقطابه لجميع الموضوعات، وذلك بالرغم من أن من طبيعة الحوار، من حيث هو حوار ابتداءً، أن يرتكز على الأسس النظرية للمسائل والقضايا المطروحة، فإذا انتقل إلى التطبيقات العملية، كان أقرب إلى العملية التفاوضية حسب المفهوم العلمي للمصطلح.
لقد وجد العالم العربي الإسلامي نفسَهُ ملزماً بالاستجابة للدعوات التي صدرت من الغرب للدخول في حوارات شتى، ومادام الأمر كذلك، فإن انتقاء موضوعات الحوار صار أمراً لامناص عنه .
وللإسلام مبدأ وموقف ورؤية إلى هذه المجالات جميعاً ؛ فتعاليم الدين الحنيف تحث على التعاون من أجل كلّ ما فيه الخيرُ والحق والفضيلة والشرف والعزة والكرامة، وفي سبيل تحقيق كلّ ما فيه السعادة لبني البشر كافة.
والحوار على هذا النحو الراقي، ومن أجل هذا الهدف السامي، ضرورةٌ من الضرورات التي يَقتضيها انتظامُ سيرِ الحياة على خطوط سوية، وتفرضها طبيعةُ العمران البشري. فالحوار حركةٌ مطردة، وقوةٌ دافعةٌ للنشاط الإنساني، وطاقة للإبداع في شتى مجالات الحياة، ووسيلة للنهوض بالمجتمعات، وهو سبيل إلى تحصين الشعوب والأمم ضد المخاطر التي تتهددها من جراء تصاعد الخلافات المتشعبة، سواء حول قضايا العقيدة والفكر والثقافة والحضارة واللغة، أو القضايا التي ترتبط بشؤون السياسة والاقتصاد والتجارة والأمن والحرب والسلم.
إن اللجوء إلى الحوار بدلاً عن الصدام، هو في حدّ ذاته تعبيرٌ عن نضج فكري ووعي حضاري، وتصميم على البحث عن أقوم السبل لتجنّب الخسائر، ولتفادي المخاطر، وللتغلّب على المشكلات، ولمعالجة الأزمات أو إدارتها، بعقل متفتّح، وبضمير حيّ.
ولما كان أمام العالم العربي الإسلامي مهامٌّ مستعجلةٌ لبناء الذات وتقدم المجتمع وازدهار الحياة، فهو مدعوٌّ اليوم، ولعلّ ذلك أكثر من أي وقت آخر، إلى الانفتاح على آفاق العصر على امتداداتها، وإلى الدخول في حوارات جدّية وهادفة مع دوائر عديدة، وعلى مستويات متنوعة، ليثبت للعالم كلّه جدارتَه واستحقاقَه وأهليتَه للإسهام في صياغة حضارة إنسانية جديدة تسود فيها قيمُ الخير والحق والفضيلة والتسامح والتعاون ومبادئ السلم.
ثالثاً : أهداف الحوار، وهي كل ما يحقق الخير والصلاح والأمن والسلام والرخاء والطمأنينة للناس كافة. وفي اللفظ القرآني "التعـارف" من قوله تعالى في سورة الحجرات، ما يُغني ويفيد ويقوي ويزكّي هذه المعاني جميعاً، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا }( ). فالتعارف هنا يتسع ليشمل التعاون والتعايش، وكلَّ ضروب العمل الإنساني المشترك، لما فيه الخير والمنفعة لبني البشر. وهو هدفٌ سامٍ من أهداف الحوار.
وينبغي أن تبدأ أهداف أي حوارٍ من الإنسان وتدور حول شؤونه وقضاياه، وتعود إليه، لئلا يفقد الحوار قيمته وأهميته ومضمونه الغني. وهذه الأهداف من الكثرة بحيث يتعذّر حصرها، ولكن يمكن إجمالها فيما اتفق المجتمع الدولي اليوم على جعلها أهدافاً إنسانية سامية. ويمكن اتخاذ ما ورد في إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي من أهداف، مثالاً لها. فقد نصَّ هذا الإعلان على الأهداف الآتية( ):
1. نشر المعارف وحفز المواهب وإثراء الثقافات.
2. تنمية العلاقات السلمية والصداقة بين الشعوب والوصول إلى جعل كل منها أفضل فهماً لطرائق حياة الشعوب الأخرى.
3. تمكين كل إنسان من اكتساب المعرفة والمشاركة في التقدم العلمي الذي يحرز في جميع أنحاء العالم والانتفاع بثماره، والإسهام من جانبه في إثراء الحياة الثقافية.
4. تحسين ظروف الحياة الروحية والوجود المادي للإنسان في جميع أرجاء العالم.
وكما هو شأن التعاون الثقافي الدولي، فإن على الحوار بوجه عام، أن يبرز الأفكار والقيم التي من شأنها توفير مناخ صداقةٍ وسلامٍ، وأن يستبعد جميع مظاهر العداء في المواقف وفي التعبير عن الآراء، على أن يتوخى الحوار أيضاً، النفع المتبادل لجميع الأمم التي تمارسه( )، ويسعى في جهد مشترك مع الأطراف جميعاً، للقيام بعملية حضارية كبرى، هي تصحيح المفاهيم الخاطئة التي تسود المجتمعات وتعوق مسيرة التعاون والتقارب والتفاهم والحوار.
وهكذا يفتح الحوار المجال واسعاً أمام تفاهم المجتمعات، ويؤدي إلى تقارب الثقافات، ويساهم في تلاقح الحضارات، وهو ما نصطلح عليه هنا بالتفاعل الحضاري الذي يجب أن يدعم التعاون الدولي على مواجهة تحديات العصر ومشكلاته والسعي لحلّها.
رابعاً - رسالة الوسطية والسماحة والحوار :
تشكّل هذه المبادئ الثلاثة : الوسطية، والسماحة، والحوار، بعد الإيمان والتوحيد وإخلاص العبادة لله، القواعد الثابتة للدين الإسلامي الحنيف التي يقوم عليها كيان الأمة الإسلامية، والتي منها انطلقت الحضارة الإسلامية فأينعت وأثمرت وأشعت بأنوارها على الدنيا. ولكن هذه المبادئ تحتاج فضلاً عن الإيمان بها عن علم ويقين، إلى العمل بها، وتمثـلها في حياة الفرد والجماعة؛ لأن من البديهيات أن المبادئ تكتسب حيويتها وتأثيرها، بل تكتسب مشروعيتها أيضاً من تطبيقها تطبيقاً يراعي الضوابط المنبثقة من العقيدة الأصل التي تنطلق منها.
وليس بخافٍ أنه لا قيمة للوسطية إن لم نكن نحن أمة وسطاً، ولا اعتبار للسماحة إن لم يكن فكرنا مصطبغاً بها، ولا جدوى من الحوار مع الحضارات والثقافات إن لم يكن في البدء والمنطلق حواراً داخلياً يجري فيما بين شرائح المجتمع على اختلاف مستوياتها، ويهدف إلى إزالة أسباب الفرقة والتمزّق وتشتّت الآراء والاختلاف في المواقف إلى درجة المشاحنة والمخاصمة والقطيعة. لأن من مصادر القوة والمناعة للأمة الإسلامية في هذا العصر، وفي كل العصور، أن تكون أمة وسطاً، تعمل وفق مبادئ الشريعة السمحاء التي تكفل الحرية والمساواة للأفراد والجماعات، وتضمن حقوق الإنسان، وتنفتح على الحضارات والثقافات الإنسانية من دون استثناء، وتقيم جسور التعاون والتعايش والتفاعل والتواصل والحوار معها. وفي ظلّ هذه المبادئ الوسطية السمحة، يزدهر المجتمع الإسلامي، ويتمتع كل إنسان فيه بحرياته الأساس، مع أدائه لواجباته دون تفريط في أي منها.
ولقد جعل اللَّه الأمة الوسط شاهدةً على الناس، والشهادة تقتضي المقام الأسمى والدرجة الرفيعة ؛ فالأمة التي هي دون ذلك ليست بمؤهلة لهذه الشهادة، وغير جديرة بهذه الخيرية التي وصف اللَّه بها أمة الإسلام، وجعلها مرتبطة بعد الإيمان بالله، بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، اللذين هما الركن الأساس في الإصلاح بكل دلالاته ومعانيه، وفي كل مجالاته ومناحيه.
ومن منطلق مبادئ الوسطية والسماحة والحوار والدعوة إلى اللَّه بالحكمة والموعظة الحسنة، يبدأ العمل الذي يتوجّب علينا القيام به، لإصلاح أوضاعنا في العالم الإسلامي كلِّه، ولإعادة بناء نهضتنا على أسس جديدة، بعيداً عن كل أشكال التزمّت والتشدّد والغلوّ والتطرف، وفي دائرة القيم الإسلامية المثلى ومبادئه السامية التي تدعو إلى البناء الحضاري، وإلى الإخاء الإنساني، وإلى التقدم العلمي في جميع المجالات، بجعلها طلب العلم فريضةً، والتفكير في التغيير الإيجابي والبنَّاء واجباً، والمبادرة إلى إنجازه ضرورةً مؤكدة.
إن الإصلاح الذي يُوجبه علينا ديننا لابد أن يقوم على هذه المبادئ الثلاثة : الوسطية، والسماحة، والحوار، ولاسبيل إلى الإصلاح بالغلـوّ في الفكر، والتطرف في الوسيلة، وبالانغلاق في الموقف والنظر إلى العالم المائج بالمتغيّرات من حولنا نظرة المتردّد، أو المتشكّك، أو المقاطع الرافض للتكيّف مع التطورات وتوفيق أوضاعه مع ضروراتها، وإنما الإصلاح والتوافق والانسجام مع النفس ومع العالم، يتم بتفعيل هذه المبادئ جميعاً وفق مبادئ الإسلام مما يجعل من حوارنا مع الحضارات والثقافات حواراً هادفاً ومنتجاً، ولا نترك أي فرصة أو حجة أو ذريعة لأي كان لاتهامنا بالتطرّف والإرهاب، واتهام ديننا وحضارتنا بالتخلف والانغلاق.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك