حواراتنا غير المكتملة: جهد مهدور
الخميس، 22 يوليو 2010 محمد بن جماعة
من يقرأ الحوارات في المنتديات الإسلامية يصطدم بكونها أكثرها مبتورة، غير كاملة. وعادة ما ينتهي فيها الأمر إلى تخلص أحد المشاركين من استكمال الحديث لسبب أو لآخر.
فما الذي يحصل في نهاية مثل هذه الحوارات؟ الجواب: تصبح جهدا مهدورا، تضيع فائدته التي انطلق من أجل تحصيلها..
لأن موضوع الحوار يبقى عنصر اختلاف بين المتحاورين. فيتأجل الكلام، ويبقى كل واحد على رأيه، فيضيع الهدف الذي من أجله انطلق الحوار، وهو:
1- إقناع أحد الطرفين للآخر بوجهة نظره،
2- أو على الأقل تقريب وجهتي النظر، فتصبح المسافة بين المتحاورين أقرب مما كانت عليه قبل الحوار.
ولتقريب الفكرة إلى الذهن، أسوقها بالترتيب التالي :
1- يعرض شخص (ولنسمّه: محمد) موضوعا، أو تعليقا، أو مقالا، يحتوي على وجهة نظر أو فكرة.
2- يقرأ شخص ثان (ولنسمه: عبد الله) الموضوع، فيحصل لديه "انطباع" حول تلك الفكرة. ومن خلال الانطباع الذي تولد لديه، يقرر أن يقف على مسافة من تلك الفكرة. واعتمادا على هذا الانطباع المتولد لديه، يعتقد "عبد الله" أن رأي "محمد" بعيد عن الرأي الصائب (أو لنسمه: الحق). ثم يقرر، اعتمادا على ذلك، أن يقف أيضا على مسافة من "محمد".
3- انطلاقا من انطباعه حول تلك الفكرة، وانطباعه حول "محمد"، يكتب "عبد الله" ردا أو تعليقا، يوضح فيه المسافتين التي قررهما لنفسه تجاه الرأي، وتجاه "محمد".
الحالة الأولى:
في بعض الأحيان، لا يرد "محمد" على "عبد الله" لتوضيح رأيه، فيقطع بالتالي الحوار. وفي هذه الحالة، تكون النتيجة أن المسافة بين "محمد" و"عبد الله" تبقى كما حددها "عبد الله" اعتمادا على انطباعه.
فإن كانت هذه المسافة متباعدة، فمن الذي يلام عليها في هذه الحالة؟
في تقديري: الملوم هو "محمد" لأنه تخلى عن واجب توضيح رأيه، فترك "عبدَ الله" محتفظا بانطباعه عن المسافة بينهما، في حين أن واقع الأمر قد لا يكون كذلك لو وضّح رأيه أكثر.
بالتالي، فعوض أن تكون المسافة بين المتحاورين مسافةً حقيقيةً (واقعية، موضوعية)، تصبح مسافة انطباعية مغلوطة، لأنها لا تعبر عن المسافة الحقيقية.
الحالة الثانية:
في الحالة الثانية، يبذل "محمد" مجهود توضيح رأيه لعبد الله، فيشرح أدلته، ليبين أن "عبد الله" مخطئ في تقدير مسافته الانطباعية حول تلك الفكرة، وحاول تقريب المسافة بين "عبد الله" وبين الفكرة الأصلية، بحيث تكون هذه المسافة أقصر من المسافة الأولى (مسافة الانطباع الأول).
في هذه الحالة، واعتمادا على تقريب المسافة وتصويب فهم الفكرة، يسعى "محمد" أيضا لتغيير انطباع "عبد الله" نحو شخصه، حتى تصبح المسافة بين الشخصين أقرب من تلك التي نتجت عن انطباع "عبدد الله" تجاه "محمد".
وفي انتظار جواب "عبد الله"، ما الذي يحصل في ذهن (أو في انطباع) "محمد"؟
ما يحصل هو أنه يكوّن لنفسه انطباعا حول "عبد الله". بحيث تكون المسافة الناتجة عن انطباع "محمد" حول "عبد الله" مختلفةً عن المسافة الناتجة عن انطباع "عبد الله" نحو محمد". وفي هذه الحالة، يظن "محمد" أنه قرّب المسافة بينه وبين "عبد الله"، في حين أن الثاني بقي انطباعه كما هو، لم يتغير.
الحالة الثالثة:
الآن: ماذا يمكن أن تكون ردة فعل "عبد الله" عند قراءة رد "محمد"؟
الجواب: إما أن لا يبذل الجهد لتعديل انطباعه اعتمادا على المعلومات الجديدة التي أضافها "محمد"، أو أن يترك الرد.
فإن ترك الرد (وما ينتج عنه من تعديل للمسافات بين المتحاورين)، نجد أن: المتحاورين لم يعد لهما نفس الانطباع حول المسافة بينهما، وبالتالي فإن المسافة الحقيقية بينهما، بدلا من أن يتم معرفتها بشكل جيد، تصبح "مسافة انطباعية"، مختلفا في تقديرها وقياسها بين المتحاورين.
وفي غالب الأحيان تكون المسافتان الانطباعيتان مختلفتين عن المسافة الحقيقية بين الرجلين (وهذا الأمر من الضروري التنبه إليه والتأكيد عليه).
في هذه الحالة، يصبح الحوار غير مفيد، بل يصبح ضارا، إن لم نقل خطيرا، لأنه ينجر عنه أخطاء كثيرة في تقييم الرأي وتقييم الرجال بعضهم لبعض.
لماذا؟ لأن الحوار في أصله ينطلق إما لرغبة في تقريب وجهات النظر أو في تقريب بين المتحاورين. أي أن الحوار يُعتمَد لحساب المسافات الحقيقية بين الأفكار أو بين الرجال. فإذا تخلى أحد المتحاورين (أو كلاهما) عن استكمال عملية تعديل المسافة للوصول إلى المسافة الحقيقية، فإن الحوار يصبح ضارا.
إذن: في هذه الحالة (أي عندما لا يرد "عبد الله")، على من يقع اللوم؟
لا شك أن اللوم يقع على "عبد الله".
قاعدة عامة في الحوارات:
من هنا، أسوق قاعدة عامة في الحوارات كي تكون ناجحة: "لحساب المسافة الحقيقية بيننا (كمتحاورين)، نحتاج للاستمرار في توضيح الافكار (في مسار ذهاب وإياب) لعدة مرات، حتى نضمن لأنفسنا الاستفادة من حواراتنا".
والمثال الذي طرحته يعرض مقطعا نموذجيا واحدا من عملية الحوار، أي:
- عرض فكرة
- نقد الفكرة
- إعادة توضيح الفكرة
وهذا المقطع يمكن أن يكون في بداية عملية الحوار، أو أثناءها، أو في نهايتها.
ولو كررنا هذا المقطع مرات ومرات، فلا شك أننا سنجد حالات متعددة، تبين في آخر المطاف أن عملية الحوار، عندما تنطلق في لحظة ما، تؤدي إلى سلسلة متحركة من حساب المسافات الحقيقية والانطباعية بين الأفكار، والمسافات الحقيقية والانطباعية بين المتحاورين.
خطوات ضرورية لنجاح الحوار:
الحوار ميدان حراك سريع، وعندما نريد بدءه مع أحد الأشخاص، يجب أن نقوم به بوعي ويقظة، كي لا يؤدي إلى نتائج عكسية. ومن الخطوات التي تهيء لنجاحه إدراك المسائل التالية:
1- ما هو الهدف الذي أسعى لتحقيقه من الحوار؟
- أهو معرفة المسافة بيني وبين محاوري؟
- أم تطوير علاقتي به لمزيدالتقارب؟
- أم تصحيح المسافة بيننا؟
- أم توجيه رسالة لمحاوري بأننا متباعدان؟
- أم توجيه رسالة لآخرين يطلعون على هذا الحوار، من باب: (إياك أعني وافهمي يا جارة)؟
- أم من باب تقريب مستمع لصفي وإبعاده عن صف محاوري ؟
...
2- الحرص على وضوح التعبير عن الفكرة، حتى يفهم محاوري فكرتي تماما كما أردت له أن يفهمها (وهذا الأمر هو أصعب المراحل، لأنه يستدعي معرفة كافية بأسلوب تفكير المحاور).
3- عدم تفويت الفرص أثناء الحوار لفرز النقاط المتفق عليها والتركيز عليها وتذكير المحاور بها. وهذا على عكس ما يجري في العادة من التركيز على نقاط الخلاف وإن كانت ثانوية، وإغفال نقاط التلاقي، وإن كانت كبيرة ورئيسية. لأن استدعاء نقاط دون أخرى يؤدي دائما إلى خطإ كبير في حساب المسافات بين الأفكار والأشخاص.
4- الدخول في عملية الحوار بروح إيجابية متفائلة، تحسن الظن بالآخر، ولا تفسر أي خطإ في التعبير أو في التفكير بأنه ناتج عن انحراف أصيل.
5- التنبه إلى ضرورة قياس أهمية (أو قيمة) كل فكرة قبل التركيز عليها في الخطوات التالية من عملية الحوار:
- أهي هامة، مقارنًة بالأفكار الأخرى التي يجب التركيز عليها؟
- إن كان التركيز على فكرة مختلف فيها سيؤدي حتما إلى تباعد وتنافر، فلماذا لا يتجنب الحديث فيها حرصا على عدم التباعد؟
- ...
4- عدم إنهاء الحوار في اللحظة التي يكون فيها حساب المسافات ضارا بالعلاقة بين المتحاورين، أي عندما تصبح المسافة الجديدة الناتجة عن الحوار أبعد من المسافة التي انطُلٍق منها.
5- عند الاضطرار لقطع الحوار، لسبب أو لآخر، فمن الضروري تلخيص ما تم التوصل إليه، وإيضاح الأمر حتى لا يؤدي قطع الحوار إلى توجيه رسالة سلبية وخاطئة للمحاور، قد لا تعبر عن حقيقة السبب الذي أدى إلى قطعه.
6- ويبقى أهم المسائل (في تقديري) في نجاح الحوار أن يتم التعامل مع المحاور كشخص مستقل عن غيره، وأن لا نحاكمه إلى أنماط جاهزة من الأشخاص نظن أنه يشبهها أو يعبر عنها، فيصبح حوارنا معه أشبه بالحوار مع الآخرين.
ومثال ذلك أن نعمد إلى البحث عن فكرة أو عبارة في كلام المحاور فنستنتج أنه ينتمي إلى فرقة أو مذهب أو طائفة، أو شيخ، فنعمد نتيجة ذلك إلى استحضار كل المقولات السائدة عن هذه الفرقة أو المذهب أو الطائفة أو الشيخ، ونستكمل حوارا معه على أساس هذه المقولات التي لم يقلها بالضرورة... وهذا من أخطر الأساليب في الحوار، وعادة ما يؤدي إلى أحكام ظالمة في تقييم الأشخاص.
المصدر:
http://www.alwihdah.com/fikr/adab-hiwar/our-unfinished-conversations-a-w...