ثقافة الحوار

ثمة الكثير مما يكتب عن الحوار-وبمختلف مستوياته- مع الآخر، على اعتباره حاجة عليا، إذ يتم التركيز عليه باستمرار، كإحدى الضرورات التي لا بدّ منها، في مختلف مفاصل الحياة اليومية، صغيرها وكبيرها في آن واحد، ليكون المفردة الأكثر اعتماداً في معجم الثقافة الخاصة والعامة .
وإذا كان من المعروف عن الحوار، وعلى امتداد التاريخ، بأنه يزيل أية “عثرة” للتواصل، ويوضح الرؤية، ويزيل الغبش، راسماً صورة الواقع كاملة، ضمن أي مشهد من حولنا، فإنه يظل في إطاره العام مرهوناً بشرطه الزمني، ووفق قواعد وأسس، لا يمكن القفز فوقها، أو التحايل عليها البتة .
وبدهي أن الحوار في ما لو يتم ضمن ضوابطه المشار إليها، فإنه يجعل حياة الإنسان في شكلها الأرقى والمتوخى، مادام الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تعد لغة الحوار خصيصته الأولى، وعلامته الفارقة، وإن يمكن لنا وبشيء من المجاز، أن نسمي الهطل حواراً مع الأرض، وأن نسمي أيضاً حركة الكواكب في مداراتها، ووفق نظامها الخاص حواراً، وإن كان لكل من هذه الحوارات طابعه الخاص الذي يمكن أن يشكل أرومة وفضاء، لحوار الإنسان غير المحدود .
لقد بات معروفاً أن غياب الحوار يكمن وراء أية قطيعة مع الآخر، في أشكالها المتعددة، وهو ما قد يتسبب في حدوث أية أزمة من حولنا، من شأنها أن تتفاقم، في ظل مثل هذه القطيعة التي تكرس حالات التخندق، وتشوه الرغبة العارمة في العيش بسلام، والتفرغ لأداء المهمات الأكثر إلحاحاً والتي لا بد من تحقيقها من قبل الإنسان .
وإذا كان الحوار قد يجري ضمن الذات الواحدة، قبل أن يتوجه المرء نحو الآخر، فإنه لابد في أي حوار، من وجود طرفين يؤمنان به، يرى كل منهما في الآخر مثيلاً، صنواً ونداً، بالإضافة إلى أنه في أي حوار لا بد من أن تنتفي لغة إلغاء الآخر، لأن الحوار من طرف واحد يبقى ناقصاً، كما أن ما يتم فرضه من قبل طرف على آخر، في ظل غياب التفاهم، يعد استبداداً، ونبذاً لحكمة الحرص على الذات التي تتجلى في عدم الحرص على الآخر .
ومن المعروف أن جوهر الحوار يعني التسامح، ومن هنا، فإن من يتوهم نفسه في موقع القوة يرفض الإذعان للعقد الاجتماعي، متمترساً في مربعه السحري، غير مكترث بالحوار إلا في ما يسمى “الوقت الضائع”، وفق إرادته، بعيداً عن فهم “خلاسية” الحياة-كما يقول أحد المفكرين- وهو في شكله الصحيح الإكسير الناجع، لكل إشكالات الحياة، وأسئلتها العصية، ما لم ينظر إليه أحد الطرفين كإجراء موقوت، من أجل الالتفاف على الأسئلة الحقيقية التي تظهر، ولا يمكن إخفاؤها البتة .
من هنا، فكم نحن أحوج إلى تعلم الحوار، واعتماده، في جدول حياتنا اليومي، مادام أنه الثقافة الأرقى، بحكم تجربة الكائن البشري، سيان في ذلك بالنسبة للفرد أو المجتمع، بعيداً عن التعامل العرضي معه عند اللزوم، هذا التعامل الذي يفتقد المصداقية بكل تأكيد .