الحوار الحضاري والتعارف الإنساني

الحوار الحضاري والتعارف الإنساني
كمدخل لدرء الفتن والصراعات
بقلم: نبيل علي صالح

تتكرر وتنطلق بين الفينة والأخرى ـ وفي أكثر من موقع ثقافي واجتماعي وسياسي إنساني عالمي ـ دعوات متعددة حول ضرورة تحكيم لغة العقل والحوار بين الأمم والحضارات البشرية بهدف تخفيف الأجواء المشحونة والمناخات المعقدة القائمة التي باتت هي القاعدة والقانون الناظم الذي يتحكم بهذا العالم الكوني المضطرب والقلق والمنفعل، الذي تضغط قواه الكبرى باتجاه تبني لغة الصراع والتدافع بين الحضارات والثقافات الإنسانية المتعددة، خصوصاً في منطقتنا العربية التي تعتبر إحدى أهم مناطق العالم توتراً وعصبية وتشنجاً وحروباً ودماراً نتيجة لوجود حالة قسر غير طبيعية مستمرة فيها كجسد غريب عن واقع المنطقة. وأعني بها دولة العصابات الصهيونية التي رفضها جسدنا العربي والإسلامي فباتت كالدُّملة الملتهبة أو كالغدة السرطانية التي لا حل ولا دواء ناجع لها إلا بالكي والاستئصال الكامل.

الإسلام والدعوة إلى حوار الحضارات

لا شك بأن الحديث عن الحوار ـ بالمعنى العام ـ يجعلنا ننفتح على مفهوم التواصل الإنساني بين الحضارات، والذي يمثل نقل كل عناصر الفكر الإنساني بكل خصائصه الثقافية للحضارة الأخرى وللإنسان الآخر الذي يقوم بالدور نفسه لهذا الشخص. من هنا فإننا نعتبر بأن الحوار هو معنى أن يكون الإنسان اجتماعياً، واللاحوار يعني موت الحركية الإنسانية بالنسبة للآخر، وأن يعيش كل إنسان معزولاً عن الآخر.. ومن هنا فإننا نلاحظ أن الحوار كان أساسياً في الفكر الديني والإسلامي بالذات.. ففي القرآن الكريم ـ الذي هو كتاب حوار ـ نلاحظ أن الحوار الأول الذي سجله القرآن كان حوار الله سبحانه وتعالى مع إبليس.. فإبليس رفض السجود لآدم، لكنه لم يرفض فرصة الحوار مع الله. وقد عبر عما في نفسه وقدم طلبه إلى الله بعد أن رفضه سبحانه وتعالى، ثم بعد أن طلبه عبّر عن خطته: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(الأعراف:16). ونلاحظ أن الله تعالى أجابه بعد ذلك: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾(الحجر:42).

هذا الحوار يعطينا فكرة أنّ المخلوق حتى لو كان في موقع التمرد والعصيان فإنه لا يفقد فرصة الحوار مع خالقه.. فالله يعطيه الفرصة، ويفسح له المجال ليتحدث عما يجول في نفسه كما يجيبه على تساؤلاته مهما كانت طبيعة هذه التساؤلات. بالإضافة إلى ذلك يعطينا هذا الحوار فكرة أخرى وهي أنه ليس هناك شخص مرفوض في عمليه الحوار فبإمكانك أن تحاور أي إنسان مهما علا أو انخفض شأنه ومهما كانت درجه سقوطه الإنساني والديني والاجتماعي والسياسي.. وهكذا نجد أن الله تعالى قد قدّم لنا نماذج وتجارب مختلفة للحوار كما في حواره تعالى مع الملائكة.

وهذا الأمر يؤكد لنا أن الحوار هو الوسيلة المثلى لتأكيد المعرفة، ولتحريك الواقع الإنساني والحضاري، مما يجعل مهمته لا تقتصر على الجانب الثقافي، بل تتحرك في الجانب العملي أيضاً.
لقد أسس القرآن للحوار، وأراد للناس أن يتحاوروا بالحق، وأراد للإنسان أن يملك المعرفة والوعي في ما يحاور فيه..
يقول تعالى: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم  (آل عمران: 66).

وأراد للحوار أن ينطلق من خلال أصول موضوعية تحترم إنسانية الإنسان المحاور، سواء في مقام الدعوة أو في مقام الخصام والجدال، فيقول:
 ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم  (العنكبوت: 46)..

وهكذا نجد النبي (ص) يحاور الآخرين، وينهي الحوار في حالة ويفتحه في حالة أخرى.

ومدرسة الحوار في القرآن تقوم على منهج موضوعي يجرّد الحوار من ذاتية المتحاور  إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين  (سبأ:24). وجعل المتحاورين لا يتبنيان شيئاً، حتى لو كانا في العمق ملتزمين التزاماً حاسماً حول هذا الموضوع.

وبذلك يؤكد القرآن -في منهجه الحواري- على ضرورة أن يمنحك الوضوح في نظرته إلى الإنسان الآخر. ويمنح الآخر الوضوح في نظرته إليك. لذلك فنحن نعتبر أن الحوار ضرورة للحياة الاجتماعية في بعدها السياسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي وفي كل شي.

من هذا المنطلق -وتأكيداً على ضرورة أن يلعب الإسلام الدور المنوط به من خلال المشاركة الفاعلة في محاولة صنع ملامح القرن الجديد والألفية الجديدة من عمر البشرية- فإن العالم الإسلامي معني بشكل مباشر بالحوار الحضاري بين الأمم والشعوب، وبخاصة في ظروف التحولات الدولية التي طرأت وستطرأ على العالم كله، حيث أننا نشهد ازدياداً ملحوظاً في اللهجة العدوانية التي يتحدث بها الغرب عن الإسلام. وقد أصبحت شعارات من نوع الخطر الإسلامي، والإرهاب الإسلامي شعارات دارجة في الإعلام الغربي، وهناك من يسعى جاداً لتحويل الإسلام إلى العدد رقم واحد في أذهان الغربيين. ويبدو لنا أن الغاية اليوم –من كل هذا الجو الصراعي الممثل نظرياً بأطروحة "صدام الحضارات"، (بالنسبة إلى الغرب طبعاً)- هي تجريد تجريد الدين الإسلامي من عناصر قوته السياسية التي تستطيع مناهضة القوة الغربية المتفوقة حالياً.
أكدنا سابقاً على أن السلوك الحواري -بمضمونه الإنساني العادل- مقوّم أساسي في داخل المنظومة الفكرية والعقائدية الحضارية الإسلامية، وأن هناك توجّه قوي لدى العالم الإسلامي كله نحو تعميق الحوار في الواقع الإنساني المعاصر..
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا:
ما هي حقيقة هذه الدعوة وذلك التوجه؟!.
ثم ما هو الجواب الذي يمكن أن يقدمه الإسلام على السؤال الإشكالي المطروح حول حقيقة الصدام والصراع بين الشعوب والأمم والحضارات؟!.
وهل صحيح أن الإسلام –كما تزعم بعض الأوساط والدوائر السياسية والثقافية العربية والغربية– دين عنيف بذاته، وأنه يمثل حالة تطرف لا اعتدال؟!.
أم أن التأويلات الفكرية الإسلامية –وغير الإسلامية– للنصوص الدينية التاريخية المقدسة هي التي تقدم لنا الإسلام بهذه الصور النمطية المشوهة والمنحرفة؟!.
ثم ما هو المقياس في توصيف الإسلام بالتطرف أو الاعتدال؟!.
هل هي الظروف والوقائع الراهنة المحاصرة في حسابات الواقع الزمنية، أو هي المتغيرات والتحولات المتسارعة في آفاق المستقبل والغيب؟!..

لاشك بأن الإسلام والمسلمين يعيشون في العصر الراهن –وفي كثير من مواقعهم محاور وامتداداتهم- وضعاً صعباً لا يحسدون عليه أبداً.. والواضح هنا أنه –وبغض النظر عن ضغط التآمر السياسي والاقتصادي والإعلامي الدولي على بلاد الإسلام والمسلمين، والتي تعمل ليلاً ونهاراً على إملاء وفرض هيمنتها وتحكمها بثروات وموارد العالم الإسلامي الهائلة، وتوصيف هذا الدين توصيفاً سلبياً من خلال اعتباره دين الإرهاب والتطرف والعنف- أقول: أنه بغض النظر عن ذلك كله، لا يمكننا أن نهرب –نحن العرب والمسلمين- من تحمل المسؤولية الأكبر عن ذلك.. إذ أننا ساهمنا (كما ذكرنا) –كنخب سياسية اجتماعية- في إعطاء الآخرين تلك الصورة السوداوية عنا، بل وثبتناها بقوة داخل أذهانهم.صحيح أن الإسلام بذاته –وفي عمق أفكاره وطروحاته- لا يرى أن العنف هو الأسلوب الأوحد للصراع في خط التحدي ورد التحدي، بل يطرح –بدلاً عنه- أسلوب الحوار والرفق والتسامح باعتبار ذلك هو القاعدة والأصل في مواجهة المشاكل في اتجاه الحل، من خلال الآية الكريمة:
 ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة...
وصحيح أيضاً أن الإسلام يعتبر أن الأسلوب العملي الأنجع في العمل السياسي هو الأسلوب الذي ننفتح من خلاله –بوعي وإدراك وصدق- على الآخرين، لنحول الأعداء إلى أصدقاء، وذلك من خلال الآية:
 ولا تستوي الحسنة والسيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ..

وصحيح أن الإسلام يطرح مشروعه الفكري والسياسي بالوسائل الحضارية الإنسانية السلمية في مواجهة الطروحات والمشاريع الفكرية والسياسية الأخرى، من دون أن يجد في ذلك أي بادرة تطرف في الشكل والمضمون.. ويرى أن حريته – كمشروع حضاري يمارس عملية الدعوة والتبليغ- هي جزء من حرية الآخرين..

وصحيح أيضاً أن الإسلام يعمل – من خلال تربية الفرد المسلم- على تأصيل الاستقلال في نطاق الشخصية الإسلامية الواعية في حياة الأمة، وتربية المسلمين جميعاً على أساس مبادئ وقيم الإسلام النقي والصافي في فكره وروحه وحركته، بحيث تبرز التمايزات والفواصل الروحية والعملية بين الإسلام وبين التيارات والقوى الأخرى..

إن كل ذلك صحيح.. ولكن الواقع السياسي الإقليمي والدولي الموضوعي فرض نفسه بقوة -من خلال معادلاته وتنوعاته وضغوطاته- أمام الواقع الداخلي الذاتي الذي تعيش فيه الحركة الإسلامية، وباقي تيارات وقوى الأمة، ليكون موقع هذه الحركة مواجهاً تماماً لكل الدول والمشاريع والمحاور السياسية والاقتصادية في العالم التي تعمل باستمرار على تشويه صورة هذه الحركة في وجدان الرأي العام الإسلامي من جهة، والرأي العام الدولي من جهة ثانية.. وذلك عبر التركيز الدائم على المفردات السلبية داخل مواقع الحركة الإسلامية، والتي قد تثير بعض أجواء العاطفة الإنسانية المضادة كجزء من الحرب الدولية المفروضة أصلاً على الإسلام التحرري الأصيل الرافض للخضوع والإذعان لسياسات الأمر الواقع الإملائية.

من هذا المنطلق، وطالما أن الواقع العالمي الذي تعايشه الحركة الإسلامية هو واقع مضطرب، وبعيد كلياً عن تحقيق أدنى قيمة من قيم العدل والتوازن، ويخضع -في كل حركته، على مستوى وسائل العمل وأدوات الحركة- لمنطق أنصاف الحلول، وأساليب العمل السياسي البراغماتي النفعي.. فإنه من الطبيعي جداً (كلمة الطبيعي هنا لا تعني أبداً أننا نبرر أعمالهم –وأعمال غيرهم- العنيفة والمتطرفة) أن يلجأ الإسلاميون –كما يؤكدون في أدبياتهم الفكرية- إلى تبني الخيارات والوسائل ذاتها التي استخدمت (ولاتزال تستخدم) ضدهم من قبل محاور التآمر الخارجي والداخلي، انطلاقاً من التزامهم بمنطق وخيار "الواقعية"، و"التخطيط المرحلي"، و"المداراة" في حركة العلاقات السياسية والعملية، ومعالجة التحديات القائمة. وهذا أمر لا يختص –كما نعتقد- بالإسلاميين وحدهم، بل تؤمن به كل القوى والتيارات والتنظيمات الأخرى غير الإسلامية.

وقد ساهم هذا المنطق في اعتماد (وممارسة) بعض الحركات والمنظمات الإسلامية الأمنية لطرق ووسائل العنف والإرهاب المدمر غير المشروع كالتفجير، وخطف الطائرات والشخصيات..الخ. وذلك في سياق وجود مناخات ضاغطة وظروف قاهرة مضادة، قد تبرر –لأولئك المنظمين في تلك الحركات- استخدام وسائل العنف في مواجهة السياسات الظالمة (والمخالفة لأبسط مبادئ الحق والعدالة والقانون) التي تتبعها الدول (والقوى) العظمى ضدهم، والتي تستخدم (هي نفسها) الوسائل ذانها وبطرق رسمية (مبررة دولياً!)، خفية حيناً وظاهرة أحياناً.. فتكون القضية هي أن الإرهاب يحارب بعضه بعضاً على حساب المجتمعات المفقرة والمستضعفة.. وهذا ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية حالياً في حربها المزعومة (في أفغانستان والعالم) ضد ما تسميه (بالإرهاب الدولي)، وبخاصة إرهاب الجماعات والتنظيمات الإسلامية، حيث أنها (أي أميركا) تعالج الإرهاب المصنوع في دوائرها الأمنية والسياسية بأساليب ووسائل إرهابية تدمر البشر والحجر. بل وتحاول إعطاء الطابع الحضاري والثقافي لحربها العولمية ضد الإرهاب، مدعومة بإطار نظري جيواستراتيجي (نظرية صدام الحضارات الهنتنغتونية، ونهاية التاريخ الفوكويامية، ونظريات التبشير بالقيم الديمقراطية التي لا تنتهي، ومحاولات فرضها بالدمار والحروب، وخلخلة المكونات المجتمعية والثقافية للحضارات والأمم المتعددة.....)، وذلك بهدف تحقيق وحصد مزيد من المواقع والمزايا والمكاسب والامتيازات المتعددة التي تراكمت عبر عصور طويلة من خلال ما صنعه الاستعمار الغربي (الأوروبي) من قتل ودمار واستنزاف لخيرات وثروات وموارد عالمٍ مستضعف لا يمارس العنف والإرهاب إلا لأنه محروم من أبسط عناصر الحياة، والعيش بأمان، والمشاركة في صنع الحضارة الإنسانية جنباً إلى جنب الأمم والحضارات الأخرى.

أي أن الظروف والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التاريخية –التي طرأت على العالم العربي والإسلامي من استعمار دولي واستبداد سياسي محلي- هي التي ساهمت في تركيز أسس نمو العنف في هذا العالم.. وبالتالي فإن ما نراه أمامنا الآن -من عنف وعنف مضاد- لا يمكن إرجاعه مطلقاً إلى الدين الإسلامي بالذات، بالرغم من وجود الكثير من العناصر المسلمة التي دعت إلى تبني خيار العنف، ومارسته، بل وتورطت -مع الآخرين- في تنفيذ سياسات وأعمال إرهابية بحق بعض المواقع المحلية والدولية.

ومن أبرز وأهم تلك الظروف هو أن الحالة الإسلامية نشأت في واقع عربي وإسلامي كان العنف فيه هو السمة الأساسية الغالبة، وهو الممثل الوحيد لكل الحركات والملامح. فالأصولية الإسلامية انطلقت في أجواء ولادة المشروع الصهيوني، وقيام دولة إسرائيل في المنطقة على قاعدة العنف والتشريد والإرهاب المدمر، واستخدام كل الأساليب الوحشية والهمجية ضد الشعب العربي الفلسطيني، لتكون هذه الدولة قاعدة متقدمة للغرب وأميركا في سيطرتهم جميعاً على طاقات ومقدرات الأمة، وفي تحكمهم المباشر بقراراتها السياسية والاقتصادية والأمنية.

ولذلك يمكن أن نقرر هنا بأن العنف حالة طارئة انطلقت في الواقع العام من حالة انفعالية موجودة في العالم كله (خصوصاً في العالم الثالث)، تمظهرت –في أحد أشكالها وتعابيرها- من خلال هذا التحدي القائم في مواجهة السياسة الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.

من هنا نحن نعتبر أن اتهام الغرب للإسلام بأنه "دين التطرف والعنف"، لا أساس له من الصحة، والغرب ليس صادقاً على الإطلاق في رفضه لمسألة العنف. لأنه يرفض العنف الذي يقف في وجه تحقيق مصالحه وسياساته الاستراتيجية، ولا يرفض أبداً العنف إذا كان موجهاً ضد خصومه ومناوئيه.. وهذا ما شاهدناه في دعم أميركا المطلق للمجاهدين الأفغان في حربهم ضد الوجود السوفييتي (الشيوعي) في أفغانستان، مع أنها كانت تمثل عنفاً بالغاً وشديداً. ولكنها سرعان ما انقلبت عليهم عندما نالها قسط وافر من عنفهم وإرهابهم الدامي في عقر دارها في كل من منهاتن وواشنطن..

إن المسألة الأساسية هنا هي أن العنف الذي أعطاه الغرب صفة الإرهاب –وأصبحنا نردد ذلك عن حسن أو سوء نية- بات يلصق بالإسلاميين بشكل تعسفي، كجزء من الحرب السياسية والإعلامية الغربية والأميركية الهادفة إلى محاصرة ما تبقى من المسلمين المجاهدين القابضين على الجمر في مواجهتهم لإسرائيل وللسياسة الاستعمارية الغربية في هذه المنطقة، فيما الإسلام لا يعتبر العنف قاعدة أصيلة –في داخل منظومته الفكرية والعقائدية- لحل مشاكل وتعقيدات الحياة على مستوى حركة الفرد والمجتمع والأمة. بل إنه يعتبر –كما أوضحنا أكثر من مرة- أن الأسلوب السلمي –المعبر عنه بقيم التسامح والحوار واللين والرفق- هو القاعدة الأصل في ذلك كله.. كما يقول تعالى:
 ادفع بالتي هي أحسن.. .
 ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن...
 لا إكراه في الدين...

وقول الرسول (ص): " إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف".
إننا نعتقد أن الدين الإسلامي يحمل رؤى وأفكاراً ومفاهيم ومواقف وتصورات عن الوجود والحياة والإنسان والتاريخ، فيما يتعلق بقضايا الحياة والمعيشة وأصول العلاقات الاجتماعية وطبيعتها المختلفة. وهذه الرؤى والنظرات تتراوح بين النص التفصيلي الدقيق وبين طبيعة المبادئ الكلية العامة، وتتماسك في مدار منهجي واعتقادي متكامل واحد، وتنضبط فيه باعتباره ديناً توجيهياً، هو دين الله سبحانه، فهو باعتقاد التوحيد صاحب منهج حضاري شمولي.. وبتلك الرؤى والمفاهيم والأفكار والمواقف المتحركة في مدى منهجه، هو صاحب حضارة.

بهذه الدلالة نفهم قوله تعالى:  إن الدين عند الله الإسلام  (آل عمران:19) الذي يعني أن الإسلام هو التسليم، للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والأحكام، بما هي نظام شمولي وتفصيلي للحياة في آن معاً. أي بما لهذا النظام من حضور تشريعي واحد مودع في الفطرة الإنسانية. فهو في حقيقته أمر واحد، وإن اختلف كماً وكيفاً في شرائع الأنبياء والرسل.

يمثل الإنسان في المفهوم الإسلامي"سيد الكون" الذي أراد الله سبحانه وتعالى له أن يقود حركته من خلال ما أودعه فيه من طاقات ومن قوى يمكن أن تتيح له القيام بهذه المهمة الكبيرة. ونستطيع أن نستوحي ذلك من خلال الحوار الذي دار بين الله تعالى وبين ملائكته في خلق آدم(ع) حيث قال سبحانه:  إني جاعل في الأرض خليفة  (البقرة:21). وعرّفهم بأنه قد علمه من العالم ما لا يعلمون. ثم نلاحظ تقدير الإنسان حين أمر الله تعالى الملائكة بالسجود له، مما يوحي بعظمة خلقه وبالقيمة الكبيرة التي يمثلها الإنسان فيما هو خلق الله سبحانه وتعالى. ولذلك فقد اعتبر الإسلام الإنسان مسؤولاً عن نفسه، وعن خياراته العملية وكل التزاماته في الحياة.

وهكذا نجد أن النظرية الإسلامية للإنسان تعتبر أن هذا المخلوق يمثل العنصر الذي جُعلت الحياة كلها تتحرك في مداره، كما جعلت الآخرة كلها تتحرك في مداره. ومعنى ذلك أن الإسلام ينظر للإنسان على أساس أنه -من خلال رعاية الله له- هو مركز الكون، والعنصر الذي يدور الكون في دائرته. وعلى هذا الأساس فإننا لا نجد -في كل المواقع الحضارية- أية فرضية حضارية (غربية أو غير غربية) يمكن أن تعطي الإنسان هذا المفهوم الشامل الكامل.

ضمن هذا السياق تنطلق المسألة الحضارية عندنا لتكون تبصُّراً بالغايات. إن الغايات -إسلامياً- هي الموجه لحركة الإنسان وفكره ومعرفته وأفعاله ووسائله، بحيث لا تنفصل الغاية عن وسيلتها ولا عن وسيلة تحققها، فتكون الحضارة الإسلامية نسيج الإسلام، ونظام تحقق غاياته، ويكون الإسلام كيان الحضارة الإسلامية، وضابط نظام أجزائها وإنجازاتها وظاهراتها. وهو -بهذا المعنى- كيانها الفكري، وعلله، ومصادره، وتجلياته في القول، والعمل، والتطلعات، ومعايير محاكمته للوجود والأشياء وعلاقات البشر بالعالم، وتنظيم اجتماعهم فيه..إنه -بمعنى آخر- مشروعها الحضاري الذي تلتزم تحقيقه. ومن هنا اعتبارنا: أنه مشروعها الحضاري الخاص الناهد إلى التحقق الدينامي وصولاً بالإنسان إلى التكامل في بناء ذاته، وقيادة العالم الذي أُستخلف فيه، إلى الغاية التي من أجلها فُوّض تلك القيادة، وحُمّل مسؤوليتها بناء على خياراته الحرة كما يؤكد الدكتور علي شريعتي.

من هنا يمكننا أن نقول -بالاستناد إلى رؤيته، وتصوّرالإسلام لمجمل حركة الإنسان في التاريخ، وفي سياق الصيرورة الاجتماعية الحركية- إن تاريخ الحضارات البشرية قد عرف -بالتصنيف الإسلامي لهذا التاريخ- نوعين من الحضارات، لاعدة حضارات (بالتصنيف الذي اعتمده هنتنغتون) وهما: حضارة التوحيد التي تتمثل بالمشروع الإلهي للإنسان والعالم والوجود بما هو منظومة معرفية، واجتماعية، وقيمية سياسية خاصة، هي نفسها التي تنزّلت بها الرسالات السماوية المتعاقبة، واستكملت بالإسلام. والحضارة المادية التي اصطنعها الإنسان، والتي وصلت إلى نموذجها الغربي الراهن الذي تعاني فيه -هذه الحضارة- نقصاً خطيراً في الحياة الروحية والمعنوية أمام تعمّق وازدهار نمط الحياة المادية. وإن هذا النقص الذي يعود إلى طبيعة الأسس الفكرية والثقافية التي بنيت عليها هذه الحضارة، قد تحوّل إلى أزمة عميقة جرّت -ولا تزال تجرّ- الكوارث الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية على هذه الحضارة وعلى العالم بأسره، كما انعكس هذا النقص وبشكل خاص على الإنسان الفرد، والحاجات النفسية والمعنوية. وهاتان الحضارتان (الإلهية والمادية) محكومتان بالاختلاف والصراع، نظراً لتباينهما في المصدر، وتبصّر الغايات والوسائل، والمشروع والقيم.

ونحن عندما نشير هنا إلى أن الصراع أو التنافس الحضاري هو أحد أهم العوامل أو الدوافع المحركة للتاريخ، فإننا نعني بذلك الصراع بالمفهوم والمعنى الإسلامي الخاص لهذا التنافس، وبالأهداف والتطلعات والمضامين والمعايير القيمية التي يؤمن بها، ويقررها الإسلام نفسه. إنه هدف صراع(وجهاد) الإنسان من أجل الوصول إلى ما يناسبه من كمال ممكن له، على مستواه الفردي الخاص والاجتماعي العام.
لقد وصف القرآن الكريم الصراع أو الجهاد الذي يقوم به الإنسان(والحضارات) بصفة التدافع بين الحق (المشروع الإلهي: حضارة التوحيد) والباطل (المشروع المادي: حضارة الشرك). كما في قولـه تعالى:
 بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق  (الأنبياء:18)
وقوله تعالى:
.. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله  (الحج:40)..

إن دفع الله الناس بعضهم ببعض متوجه قرآنياً إلى حقيقة يتكئ عليها الاجتماع الإنساني -الذي به عمارة الأرض، وباختلاله يختل العمران وتفسد الأرض- وهي غريزة "الاستخدام" التي جُبل عليها الإنسان. والاستجابة لهذه الغريزة تعني-في رأي المرحوم الطباطبائي- التصالح في المنافع، والتمدن، والتعاون الاجتماعي، مع إظهار حقيقة التمايز والاختلاف والتعددية.

طبعاً لا بد ان نميز هنا بين لا بد أن نميز هنا بين نوعين أو مستويين للتدافع (أو الدفع).. الأول: المدافعة( المزاحمة)، والثاني: الإزالة بالقوة والحرب (القتال). (راجع: ابن منظور، لسان العرب، مادة "دفع"). وهذا أمر واقعي إذ أن الصراع بين القوى والتيارات ،بل وحتى الحضارات، لا يخرج عن هذين المستويين. لكن هذا التدافع -الذي هو أمر واقع لا محالة- ليس شرطاً لازماً لعمارة الأرض ودفع الفساد عنها. أي عن إنسانها. لأن بناء الحضارة الإنسانية لا يعني حتمية أن يفني قوم قوما آخرين، أو إزالتهم عن ما هم فيه. أما القتال فيختزن -بحسب المرحوم الطباطبائي- مضمون العقاب والردع بهدف تحقيق هدف عمارة الأرض والحفاظ على الحقوق الاجتماعية والقانونية الحيوي، وإقامة القسط والعدل بين الناس بموجب الشريعة الإلهية. وإذا قدر للقتال أن يتوقف -إذا ما اندلع- فلا يعني ذلك توقف الصراع، وإنما استمراره بوسائل وطرق مختلفة، وبوتائر أخرى.

وبهذه المعاني الحضارية الراقية لمفهوم الصدام أو الصراع الحضاري لا تعود العلاقات بين الأمم والشعوب نمطية، مشدودة إلى حتمية الصدام وإقامة الحدود الدموية -بحسب هنتنغتون وغيره- بل تغدو تلك العلاقات ميداناً رحباً للتعارف، والتفاعل، والتواصل، والتعاون، والدعوة إلى احتمال القضايا الإنسانية الكبرى، والالتقاء حولها -أو الاختلاف- لا التنازع الدموي على المصالح والمنافع، على قاعدة القانون الطبيعي، وتنازع البقاء، وقصر حق الحياة بالأقوى، وهي القاعدة الخلقية التي تشكلت فيها ومنها الأصول النظرية والفلسفية للمشروع الحضاري المادي، منذ فكر أثينا إلى مقولات فوكوياما وهنتنغتون والعولمة ونهاية المثقف، وو.. وغيرها من اصطلاحات ومقولات الغرب التي لا تنتهي…الخ، والتي تشكل -في حصيلتها النهائية- منظومات فكرية تنطلق في حساباتها من توجهات عملية تقف وراءها الأنانية، والمصالح، والمنافع الاقتصادية والسياسية المختلفة.
إن دعوتنا للحوار -لا الصدام- بين الحضارات تهدف إلى مساعدة الجانب الغربي-الذي هو نظيرنا في الخلق- على إعادة ذلك التوازن المفقود في داخل بنيته الحضارية الحديثة حتى يتسنى لهذا الغرب-ولغيره من الحضارات- الفرصة المناسبة من أجل بناء الحياة المبدعة والخلاقة والهادفة، والتي تعود بالمنفعة والخير على الإنسانية كلها.

من هنا يأتي" تحدي الحوار" ليضعنا أمام السؤال التالي: كيف يمكن لنا أن نتحاور (نسيطر) مع وسائل هذه الحضارة الغربية، ونستوعبها حتى يكون لنا مكان إلى جانب الغرب، لا خاضعين له، ولا مسيطرين عليه، وإنما نعيش إلى جانبه، نحاوره، ونتعاون معه، وأن ننجح بالسيطرة على التكنولوجيا، وأن نكون فاعلين ومبدعين ومساهمين أيضاً في صنع وإنتاج هذه الحضارة. كشركاء غير متساوين في إطار أو بعد أو دائرة حضارية واحدة.

وبناء على ما تقدم فإننا -في العالم الإسلامي- إذا ما أردنا أن ندخل في حوار الحضارات بوعي وثقة ومسؤولية، فلا بد أن نعيد النظر في كثير من حساباتنا الثقافية والفكرية والسياسية التي تتصل بالمشروع الحضاري الإسلامي المعاصر، وضرورة إعادة بلورته وطرحه، وتحديد ملامحه -من جديد- بما يتناسب مع مستجدات الحياة، ومتغيراتها على مستوى التفاعل الحاسم مع قضايا العدالة، والحرية،والمساواة، وحقوق الإنسان، والتعددية السياسية، ومسائل البناء الحضاري المختلفة.. أي يجب علينا أن نعيد النظر –في داخل ثقافتنا الحوارية الإسلامية- في إشكالية العلاقة بين الأنا والآخر بحيث تقرأ هذه العلاقة قراءة تكاملية واقعية راهنة بعيدة كلياً عن منطق الثنائيات الضدية، والأفكار الصراعية والاصطفائية الاستئصالية. وفي ضوء هذه القراءة –التي ترى الوجه الآخر للعلاقة بين الأنا والآخر- يمكن تجاوز فخ العداء بين الإسلام والغرب. فلا يعود الإسلام مصدر الخطر والخوف، بل يصبح من يتهمه الغربيون بالإرهاب لتغطية عنفهم الرمزي، وإرهابهم العسكري. أو يشكل العالم الذي يحتاج إليه الغرب، ولا يستغني عنه في ما يصنع من قوة أو ثروة .. ولا يعود الغرب هو الجحيم، بل من نحتاجه، ونحاكيه، ونتمثل ما عنده من قيم ونظم إيجابية نحن بأمس الحاجة إليها، في مشاريعنا الحضارية، بما يعني أن علاقتنا به (بالغرب) هي علاقة ضرورية بقدر ما يشكل نظيرنا الإنساني، وشطرنا الآخر على الصعيد الوجودي.

ونحن ندرك سلفاً أن الإسلام سيواجه مجموعة من التحديات على غير صعيد، لذلك لا يمكن مواجهة هذه التحديات -على المستويين القريب والبعيد- إلا إذا واجهنا (قبل ذلك) الذات، ورؤيتنا من منظور الإسلام نفسه، ما يشكل وسيلتنا أو الفعالية لمواجهة تحديات الحوار، ومنها تحدي "العولمة".

صحيح أن المشروع الحضاري الإسلامي المعاصر –القائم على الحرية والعدالة وتحقيق مقاصد الدين العليا- يواجه تحديات وعقبات ذاتية وموضوعية كبيرة، منها: نقاط الضعف الكثيرة الموجودة في الواقع الإسلامي كحالات الجهل والتخلف والتعصب الأعمى، وحالات المذهبية والعنصرية والتمزق القومي والقومية المنغلقة، ومنها الواقع الانقسامي الذي يعيشه المسلمون في هذه الدول، ومنها فقدان الإحساس بمعنى الأمة في داخل مشاعرهم الحقيقية، ومنها أيضاً المشكلات والتحديات الخارجية…الخ، كل ذلك صحيح.. ولكن يجب على هذه الحركة الإسلامية المنفتحة والعقلانية والمدركة لواقعها أن لا تقف عاجزة أمام تلك التحديات وتعتبرها مانعاً من تحديد أسس ومعالم مشروعها الحضاري الإنساني، بل يجب أن تراعي هذا الجو فلا توجه حركتها في اتجاه واحد وهو الاتجاه العسكري أو السياسي كما هو واقع الآن، بل لابد أن تنفتح في الاتجاه الثقافي والتبليغي الحضاري السلمي المنفتح في خط الدعوة إلى جانب العمل الاجتماعي، وما إلى ذلك من الأعمال التي تحمي الحركة الإسلامية من كل نقاط الضعف التي تفرض عليها من خلال التيارات الأخرى والحضارات الأخرى.

إننا نعتبر أن هذه التحديات (تحديات فرض منظومات ثقافية عالمية جديدة) يجب أن تدفعنا باتجاه مواجهة أزمة ثقافتنا الإسلامية التي من أبرز مظاهرها نقص الحرية في هذه الثقافة، والاستبداد القائم في داخل الواقع السياسي والاقتصادي والتاريخي للأمة، الأمر الذي أدى (وسيؤدي باستمرار في المستقبل إن بقيت الأوضاع السلبية على حالها) إلى دفع أبناء الأمة باتجاه تبني سياسات عنيفة متطرفة، وبالتالي فإن الأمة ستبقى الأمة كالريشة في مهب رياح التخلف والتبعية والاستلاب.

إننا نجزم بالقطع الإيجابي هنا بأن الأنظمة والحكومات القائمة عندنا –التي هي من ثقافة وبيئة هذا المجتمع المغلوب على أمره، والتي هي أحد تعابيره وتجلياته السلبية- تتحمل المسؤولية النفسية والمادية الكاملة عن نمو بذور الإرهاب الداخلي، وامتداده إلى مواقع الآخرين. ويبدو لنا أن لهذه النتيجة الحاسمة -التي وقفنا عليها هنا- مقدمات أساسية ارتُكز عليها للوصول إلى النتيجة الحاسمة السابقة.. فما هي هذه المقدمات؟!..

لا شك بأن هناك معاناة حقيقية شاملة، وتخلف سياسي واجتماعي عام يلف واقع العرب والمسلمين. ويظهر أمامنا حالياً كنتيجة طبيعية للسياسات العقيمة والفاشلة التي اتبعتها النخب الحاكمة –في كل مواقعها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية– منذ بداية عهود الاستقلال الشكلي عن الاستعمار الغربي وحتى الآن، والتي أدت إلى إلحاق الضرر والخراب الكبير بحق أبناء الأمة، وبحق ثرواتهم، ومواردهم الطبيعية الهائلة التي أضحت مشاعاً للدول الكبرى المرتبطة كلياً بالمافيات المحلية.

ومن المعروف –بالنسبة إلينا جميعاً– أنه لا توجد (في معظم البلدان العربية والإسلامية) حياة سياسية حقيقية بالمعنى الدقيق للكلمة. حيث أنه ليس مسموحاً أبداً للشعب -في داخل الحياة السياسية العربية– لا بالتعبير عن آرائه، ولا بالتظاهر، ولا بممارسة النقد، ولا بالإضراب، ولا بالتنظيم السياسي، ولا بإقامة الانتخابات الحرة، ولا بالإعلام الحر والنزيه، ...الخ . أي أن هذه السياسة الاستبدادية تدفع المجتمع كله بالتجاه سلوك طرق (واتباع وسائل) عنيفة غير سلمية، خصوصاً أولئك الناقمين والساخطين والمتضررين مباشرة من هيمنة تلك السياسة القاهرة.

ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أن سلوك طرق العنف واستخدام الوسائل العنيفة –في التعبير عن الرأي، وممارسة السياسة– هو أمر مدان بشدة من قبلنا، ومن قبل كل من يملك عقلاً حراً، ووعياً إنسانياً متقدماً في الفكر والممارسة.. ولكن المسألة هي أن هناك من يدفع أبناء مجتمعاتنا دفعاً نحو تلك الطرق والوسائل العمياء المرفوضة كلياً.. إنها السلطات القائمة.. فهي التي تهيئ –في داخل استراتيجيتها السياسية– الأجواء المناسبة، وتخلق التربة الأخصب لنمو أفكار ومشاريع وسياسات الإرهاب الداخلي، ومن ثم الإرهاب الخارجي.. وذلك من خلال منعها أبناء المجتمع من مزاولة النشاط السياسي الطبيعي، واتباع الطرق والأدوات والمناهج السياسية السلمية.. ويشهد على ذلك واقع الحضارات والأمم في الماضي والحاضر، حيث نجد هناك أن النظم والحكومات الديكتاتورية المستبدة هي (الأم الحنون؟!) لتوليد (ورعاية) الإرهاب والإرهابيين.

وبالإضافة إلى انعدام الحياة السياسية الطبيعية في معظم دولنا العربية والإسلامية، فإننا نجد أن هذه الدول تعاني معاناة اقتصادية واجتماعية شديدة نتيجة تطبيق(وفرض) سياسات تنموية عقيمة على شعوبها المفقّرة المستضعفة. كما أن للفساد العريض بكل أنواعه وتبعاته الاقتصادية والسياسية –الذي يلف أركان تلك البلدان ما قبل الدولتية- الدور الأكبر في الوصول إلى تلك النتائج المأساوية والخطيرة التي أفقدت مجتمعاتنا توازناتها وإيقاعاتها الداخلية، وخربت الإنسان-الذي هو أساس بناء الأوطان– من الداخل، وتركه حائراً من أمل بحياة شريفة، هادئة ومطمئنة.

وفي اعتقادي أنه عندما تصل الأمور –على الصعيد الاقتصادي بصورة خاصة- إلى هذا المستوى الكارثي الخطير من التدهور والسوء-الذي يعبر عنه من خلال تفشي مظاهر اليأس والإحباط والقنوط والعدمية واللا إبالية كما ظهر لدى العراقيين الذين كانوا على استعداد للتحالف مع أيٍ كان للتخلص من الديكتاتور صدام- فإنه من الطبيعي جداً أن تتحول مجتمعاتنا إلى مواقع وبؤر توتر حقيقية لتفريخ الإرهاب، ونمو بذور العنف الذي يمكن أن تتطاير شرارته إلى مسافات بعيدة لتصيب بلهيبها وشظاياها هذا البلد أو ذاك، ومن دون انتظار ومعرفة النتائج السلبية الخطيرة المترتبة على مثل هذه الأفعال الشنيعة.

ولعلنا لا نعاني كثيراً -إذ أن الواقع يؤكد ذلك- إذا ما اعتبرنا أن وجود كثير من النظم السياسية الجامدة، والفاقدة لوجودها الشرعي الطوعي الحقيقي الكياني القاوني (الاعتباري)، هي المسؤولة –بشكل أو بآخر– عن تغذية مواقع (وعناصر) القنوط واليأس بين جماهير الأمة (وبالتالي تدعيم قوى التطرف والإرهاب والأصولية) لأنها لا تزال نظماً أمنية بوليسية بامتياز.. تحصي على الناس أنفاسهم (نموذج الدول القبلية) وتفكر (وتعتاش) على الهاجس الأمني بطريقة جنونية، أدت إلى تحويل المجتمع كله إلى مجرد سجن مغلق، لا يمكن للفرد فيه أن يعبّر صراحة عما يجول في نفسه من قيم وأفكار بطريقة سلمية ديمقراطية.. إذ أن قوانين الطوارئ والاستثناء –المعمول بها والمنتشرة في معظم بلاد العرب والمسلمين- جاهزة للانطلاق، وهي تترصد كل حركة غير(طبيعية!) هنا وهناك. ويبدو لنا أن هذه القوانين العامة (الطارئة) هي أكبر دليل على سياسة الكبت والمنع المتبعة، وعلى أن انتظام العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلداننا كلها، أصبح قائماً ومؤسساً بقوة على قاعدة العنف (كقيمة فكرية وعملية أساسية) تدعو إليها –وتمارسها، وتلتزمها- النخب الحاكمة الفاسدة والمفسدة في الوقت ذاته، والمنتجة -هي بذاتها بفكرها ومتبنياتها الفكرية- للإرهاب والعنف على أوسع نطاق.

من هنا نحن نعتقد أن صناعة الإرهاب وإنتاجه، وتوسيعه، وتركيز خطوطه –كقيمة عملية، لها أسسها، وقواعدها، وآليات عملها المباشرة وغير المباشرة في داخل بلداننا على مستوى النخب السياسية والاجتماعية الحاكمة ككل- هو الذي يساهم في جعل كل هذا الإرهاب الدولي (المتحرك حالياً) إرهاباً عربياً وإسلامياً فقط، وبالتالي يدفع باتجاه تكوين رأي عالمي موحد ضد العرب والمسلمين في كل مكان وزاوية من هذا العالم.

ولذلك فالمشكلة القائمة حالياً لا تقتصر فقط على وجود قوى ومنظمات وشخصيات إرهابية تعمل في السر أو العلن هنا وهناك، بل إنها تتعدى ذلك لتصل إلى مرحلة وجود مناخ أو جو عربي وإسلامي عام يتعامل –بصورة طبيعية- مع قضية الإرهاب المحلي والدولي، وذلك كنتيجة منطقية لوجود نظم ونخب سياسية تُرعب، وتُرهب، ولا تهتم إلا بمصالحها ومواقعها الخاصة على حساب مصالح الأمة كلها.. بل إنها جعلت من إسرائيل وأمريكا –كما يعبر أحد الباحثين– وحوشاً مفترسة لشعب من دون حراسة، ولا قيادة، ولا دفاع، ولا مصير.. ولولا قوة وخيار المقاومة الاستراتيجي، البقية الباقية الوحيدة –مع من يدعمها مادياً ويغطيها سياسياً ومعنوياً من أشراف هذه الأمة- في داخل هذه الأمة القابضة على جمر المواجهة المصائرية ضد العدو الإسرائيلي، لكان لوضعنا ووجودنا شأن آخر غير الذي نحن عليه الآن.. ولأكلنا يوم أكل الثور الأبيض.

ونحن بالرغم من عدم انسجامنا (أو اتفاقنا) مع السياسات العملية المطبقة في معظم البلدان العربية والإسلامية -التي تكرس الإرهاب والتسلط والاستقالة الشاملة من المستقبل الحضاري المتطور والمنشود– فإننا لا نزال نأمل، وننتظر من تلك النظم القائمة أن تنطلق من لحظتها الراهنة –مستفيدة من أحداث أيلول 2001 وما حدث بعده من أزمات وحروب وتعقيدات سياسية واقتصادية وعسكرية لافتة- إجراء إصلاحات سياسية وتنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية على مستوى منطق الحكم والسلطة، وفي كل ما يتصل بضرورة مواكبة معايير ومبادئ التنظيم السياسي والاجتماعي الإنساني الحديث، في قضايا: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحرية الفكر والتعبير، وإلغاء قوانين الطوارئ والاستثناء، ووضع حد نهائي لمناخ القمع والرعب والاضطهاد السائد (الذي تمثله تلك الأنظمة الديكتاتورية)، والمبادرة الفورية إلى إعلان عهد الحريات والأمان العام في كل البلاد.. لأن الحرية والأمان شرطان أساسيان لازمان لكل عمل خلاق ومبدع، حيث أنه لا تنمية حقيقية، ولا تحديث صحيح معافى (وليس التحديث الشكلي القشري الذي يقوم على استهلاك حضارة ومنتجات الآخرين بما يبقينا تابعين ومستلبين لهم) دون تمثل وتطبيق تلك التطلعات الكبرى.

وحتى نتمثل تلك الطموحات العالية -ونتحرك في خط التنمية المطلوبة فردياً وجماعياً- لابد أن تكون أنظمة الحكم القائمة في داخل اجتماعنا السياسي والديني (والتي تدير وتشرف وتنفذ السياسات العامة في المجالات كلها) شرعية في فكرها ووجودها وامتدادها. أي أن تحظى بقبول طوعي (لا قسري) بين أبناء الأمة.

وهذه هي الإشكالية الأكبر التي لا نزال نعاني منها، ولا أعتقد بأننا سنخطو خطوة واحدة نحو الأمام من دون إيجاد حلول جذرية عملية لها. إنها إشكالية إحجام الناس عندنا، وعدم مشاركتهم بشكل فاعل ومنتج في مجمل النشاطات السياسية والاقتصادية العامة، وبالتالي عدم الاستفادة القصوى من كل الإمكانيات والطاقات والجهود البشرية (والطبيعية) المتاحة أمامنا.

ونحن نعتبر أن تثمير جهود وقدرات أفراد الأمة في طريق العمل الخلاق والمبدع -الذي نحن بأمس الحاجة إليه حالياً– لا يمكن أن يصل إلى نهاياته السعيدة ما لم نوجد إطاراً ثقافياً ونفسياً صحياً لعملية التنمية المطلوبة، (إطار "اجتماعي– سياسي" معين يحترم أفراد الأمة من خلاله طبيعة المناهج التي تتخذها الدولة أساساً لتنظيم حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وموالاتهم الطبيعية (لا القسرية) لها وإيمانهم في التنفيذ والتطبيق)، بحيث يدمج الأمة ضمنه لتتجاوب معه، بما يساعد على الشروع بتطبيق خطة اقتصادية وإدارية –يشارك فيها الشعب كله– تمهد للقضاء على مواقع الفساد، وتساعد في خلق مناخ نقي وصحي جديد، مشجع على العمل والإنتاج والاستثمار من أجل أن تتحرك الأمة (كل الأمة) على طريق إنجاح التنمية، وبناء المجتمع الحديث. لأن حركتها تعبير حر عن إرادتها، وعن نمو وعيها، وانطلاق مواهبها الداخلية وطاقاتها الكامنة نحو المشاركة الفاعلة في عملية البناء والتنمية للثروة الخارجية من خلال تنمية ووعي الثروة الداخلية.

وبتعبير أكثر صراحة نحن نعتبر أن إطار التنمية الثقافي والنفسي الشامل السابق ينبغي أن يتأسس -في العمق الروحي والنفسي– على مناهج فكرية ومعرفية عملية لا تتعارض (ولا تتواجه) مع طبيعة التركيب النفسي والشعوري والعقائدي المتركز داخل البنية النفسية والفكرية لأبناء الأمة. أي لا تتعارض مع الإسلام كثقافة وأفكار وأهداف عليا وغايات إنسانية نبيلة. لأن وجود التعارض والمواجهة مع التركيب النفسي للأمة (مع الإسلام) سينعكس حتماً بصورة سلبية على واقع مجتمعاتنا، ويتمظهر-كما ذكرنا- من خلال امتناع أفراد الأمة عن المشاركة في صياغة ومناقشة القضايا الرئيسية، وممارسة رقابتهم على الأجهزة المختلفة للدولة.

لذلك -وحتى ينخرط الجميع في عملية بناء الوطن وتطوير المجتمعات- فإن الدولة يجب أن تعبيراً حقيقياً عن إرادات الناس ومصالح المجتمع، وتجسيداً عملياً لقيمه الثقافية والتاريخية الأصيلة، في تقدير وجود الإنسان واحترامه، وتوفير العمل اللازم لمعيشته، ونمو وعيه.. وبذلك تثبت الدولة، وتستقر وتتطور قدماً نحو الأمام.

من هنا نقول بأن افتقاد الأمة للمشاركة الشعبية الطوعية الواعية للجماهير الواسعة في عملية التنمية الذاتية، والتغلب على واقع التخلف، والخروج من أنفاق التبعية والارتهان للخارج، لا يمكن إلا أن يضعف الشأن العربي والإسلامي في قضاياه الاستراتيجية المصيرية، وبكل مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي: عندما نحقق مناخ الحرية، ونؤسس الديمقراطية الصحيحة (التي هي ليست وصفة جاهزة لمرض طويل، وإنما هي ممارسة قانونية واعية لعملية التداول السلمي للسلطة، ولا تنحصر فقط في قضية مواجهة الاستبداد والفساد..إذ أن إسقاط واقع الاستبداد، واستبداله بسلطة لا تعرف شيئاً عن الممارسة الديمقراطية الواعية سينتج أسوأ الديكتاتوريات، وأشنع أنواع الفساد) فإنه يحق لنا أن عن وجود قدرات أكبر وأوسع تسمح لنا بتوفير قاعدة مادية صلبة لمواجهة إسرائيل، حيث أن واقع هذه المواجهة (المؤكدة في المستقبل القريب أو البعيد) يزداد ضعفاً كلما زاد ابتعاد الحكام عن هموم الشارع العام (أي عن متطلبات المواطن الأساسية)، وكلما فرض (هؤلاء الحكام) على الناس نموذجاً واحداً في الفكر والعمل.. وهذا ما يحدث حالياً في بلداننا العربية والإسلامية بشكل واضح تماماً حيث تتصور الكثير من النخب السياسية أن الهيمنة على الشعب، والتحكم بمعيشته وقدراته، وتفتيت قواه وثرواته، يمكنها أن تساهم في تنفيذ سياساتهم أكثر فأكثر.

ولكن الحقيقة هي أن هذا التصور المزعوم قد يصدق حيناً، ويسقط أحايين كثيرة أخرى. فالشعب يحتاج –بدايةً- من أنظمته الحاكمة إلى أجواء ومناخات حرية دائمة تسمح بوجود حوار فكري متحرك ومفتوح، يشارك فيه الجميع، وتتعمق من خلاله النقاشات الجادة والمثمرة، وتطرح فيه الرؤى والأفكار المتعددة التي تنصب أساساً على طريق بلورة الوعي القادر على محاصرة كل أنواع القهر والتخلف والتأخر في واقعنا، والمتمثلة -كما تحدثنا سابقاً-في التجزئة، والاستلاب، والارتهان والتشتت واتباع الأهواء وفقدان إرادة التغيير الصحيح، وضعف (تضعيف) المؤسسات الدستورية الديمقراطية (مؤسسات وهيئات المجتمع المدني)، وهيمنة التدخلات الأجنبية على الداخل، والاستكثار منها تعويضاً عن غياب (أو تغييب) الإرادة العربية والإسلامية الجامعة (حيث أن العرب يجتمعون على أفكار الآخرين أكثر مما يجتمعون على قراراتهم هم).

وهذا الأمر ليس متوفراً للأسف حالياًً. لأن النظم والنخب السياسية والاجتماعية الحاكمة عندنا لا تريد فتح باب الحوار الهادئ والعقلاني المتوازن، وهي أصلاً لا ترغب به، لأنها تشعر بأن فيه –في حال تحققه جزئياً أو كلياً– ما يهدد سلطتها الشاملة، وهيمنتها وسطوتها المطلقة التي لا تنتهي على البلاد والعباد.

إن انعدام العلاقة والثقة لاحقاً بين "المواطن-الفرد" في عالمنا العربي والإسلامي وبين السلطة –على مدار العقود الماضية (والتي كان من المفترض أن تقوم على قاعدة المتوازن والثقة المتبادلة بينهما- كان من أهم الأسباب التي ساهمت في إيصالنا إلى ما نحن فيه الآن من تخلف وتقهقر حضاري إنتاجي.. فالمواطن عندنا لا يثق بسلطته، والسلطة لا تثق بالمواطن.. وتحولت العلاقة بينهما إلى علاقة محض أمنية. وأضحت الثقافة –في طبيعة تلك العلاقة- ثقافة أمنية.. فالسلطة تريد أن تحمي حقها في الحكم والسلطة -بأي شكل كان- من طموحات المواطن، والمواطن يلتزم بثقافة الاحتماء من عدوان السلطة عليه، سواء بالصمت والسكوت، أو بالفرار، أو بالنفاق، أو...الخ.

إننا نؤكد هنا –اختصاراً لكل هذا الجدل- على أننا ننحاز بقوة، وندعو بجرأة إلى السير على طريق الحوار الداخلي بين القوى والتيارات الفكرية والسياسية العربية والإسلامية كلها، وكذلك ندعو إلى تمثل قيم الحوار الخارجي، أي إلى سلوك طريق حوار الحضارات والتفاعل الحضاري كضرورة إنسانية، لابد منها لقيام الحضارات، وتقدم الإنسان في كل ما من شأنه أن يأخذ بيد هذا الإنسان، ويشيع في المجتمعات الإنسانية أجواء السلام والأمن والاستقرار. ونحن نريد من الآن أن نؤسس لهذ "الحوار-الضرورة" معرفياً وعملياً في داخل ذاتنا الحضارية الإسلامية التي سبق أن استوعبت (وهضمت) كل حضارات العالم، وقدمت للبشرية حضارة إنسانية عادلة. لكن انحيازنا (ودعوتنا) لتأصيل قيم الحوار في الواقع –وضرورة تأسيسها على مبادئ التسامح والانفتاح والعدالة- يجب ألا يحوّل هذا الحوار المطلوب إلى ستار يحجب عنا ما يجب أن نراه، ويرينا ما يجب ألا نراه.

فالحوار المبني على قاعدة التسامح مثلاً، ينبغي ألا يحول مفهوم التسامح نفسه إلى القبول أو الموافقة على أمور (والإمضاء على قضايا وقيم) لا ينبغي قبولها، أو الموافقة عليها. أي بقيم وتقاليد وتطلعات وتوجهات تعتبر –من قبلنا- انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، ولحرياته الأساسية. والحوار المبني على قاعدة السلام لا يتحقق إلا إذا اكتملت شروطه السياسية والفكرية والاقتصادية التي تسمح لكل جماعة بحيازة شروط بقائها وازدهارها.
من هنا تأتي قناعتنا الدائمة بأن بناء عالم إنساني حضاري على أسس راسخة ومستقرة من العدالة، والسلام، والتوازن، والتسامح يفرض العمل على موازنة وتثبيت قيم الحرية الأصيلة والأولى. أي بالسعي الحتمي نحو تعزيز موارد الفرد (والجماعة والأمة)، وقدراته، وطاقاته، ومواهبه، واستثماره بشكل فاعل في حركة الواقع اليومي.. وبذلك لا يمكن للحرية (كمعادلة للحوار) –إذا تركت بإطلاق عشوائي- إلا أن تقود إلى التفاوت المتزايد بين البشر. وما لم تجد الحرية حدوداً لها في قيم أخرى، مثل العدالة والتضامن والأخوة الإنسانية والبيئة النظيفة، فلا بد أن تقود –على أي نطاق طبقت، وإلى أي نظام انتمت- إلى تفاوت بين البشر، أفراداً وجماعات، فتقود –من ثم- إلى طرق مسدودة.

والحرية التي تعني قدرة الإنسان على الاختيار يجب أن تكون مسؤولة، وليست حرية منفلتة أو مطلقة. فالإنسان مسؤول عن أعماله واختياراته أمام الله تعالى، وأمام الأمة كلها في الاتجاهين السلبي والإيجابي.

إننا نعتقد أن هناك ضرورة إسلامية ملحة قائمة الآن –ذات أبعاد معرفية تاريخية واجتماعية راهنة ومستقبلية- تؤكد من جديد أهمية اندماج إشكالية "حوار الحضارات" في حوار أشمل وأوسع عن نظام اقتصادي وسياسي عالمي جديد يقوم على الاعتماد المتبادل، والمنفعة المتبادلة والمتعددة بالفعل لا بالاسم، وعلى التعددية والعدالة والتنمية والتكافؤ والندية بما يعزز رؤية سكان العالم لموقع كوكبهم في الكون ومستقبلة الواحد. وهذا ما يحتم على العرب والمسلمين السعي المتواصل والدؤوب -في إطار حوار الحضارات- لمعرفة(وأخذ) إيجابيات الحضارة الغربية، ومنها قضايا التعددية السياسية، وحقوق الإنسان، وتعميق الحس والنظرة النقدية للواقع بما يعزز هويتنا الحضارية في إطار من التفاعل الخصب والمنتج مع الحضارات الأخرى، والتعامل الجدي والمسؤول مع المتغيرات والمستجدات العالمية الراهنة، بهدف الاستجابة والتكامل بها ومعها.

ونحن عندما نؤكد على ضرورة أخذ إيجابيات الحضارة الغربية على مستوى الاستفادة من القيم والمبادئ السياسية والثقافية السائدة هناك، فإن ذلك لا يعني خلو خزان حضارتنا -إذا صح التعبير- من هذه القيم، بقدر ما يعني أن نستفيد -حضارياً- من آليات الحكم في قضايا الحرية وتداول السلطة، ومجال حقوق الإنسان -مثلاً- التي استطاع الغرب أن يصل إليها، ويؤسس لها معرفياً وثقافياً، في داخل منظومته الحضارية قبل الحضارات الأخرى.. ونحن هنا لا نريد لهذه الاستفادة أن تكون مجرد نقل، أو سرد حرفي، أو شراء قسري لحداثة الآخر.. وإلا فإنه لولا تداخل وتشابك الكثير من الظروف والأحداث السياسية التاريخية في مجالنا الحضاري الإسلامي -على مستوى الحكم والسلطة والسياسة- لاستطاع المسلمون تقديم نماذج إنسانية فريدة في طبيعة التكوين السياسي والاجتماعي الديني للعالم أجمع.

أخيراً –وليس آخراً- أحب أن أشير إلى نقطة أراها ضرورية لاستكمال هذه الكلمات، وهي أننا كأمة -تعيش في الحياة بين مجموعة من الأمم المتقدمة والمتخلفة- لا نزال نفكر فيها بعقلية البلدة والوطن الصغير.. ولم نعد نفكر بعقلية الأمة والوطن الكبير.. مع العلم أن الله تعالى قد ألزمنا بضرورة أن نتضامن ونتوحد أمتياً-إذا صح التعبير- مع بعضنا البعض من أجل تحقيق هدف وجودنا الحضاري الأساسي في الحياة، كأمة لها رسالتها الإنسانية الخالدة، ولها دورها الرسالي المحوري بين أمم ورسالات العالم كله. وهذه هي الأمانة الحقيقية التي حُمّلنا إياها..
فهل نحن مؤتمنون حقاً عليها؟!.

وهل أدينا وعملنا على ما تستلزمه منا هذه الأمانة الثقيلة ؟!.

إننا وقبل أن نبدأ بالإجابة على السؤالين السابقين، يجدر بنا أن نلتفت جيداً إلى واقعنا الراهن. لأننا سنجد فيه ما يوفر علينا عناء التدقيق والتأمل في أسئلة باتت بلا معنى، والبحث عن إجابات وافية وشافية لأسئلة كثيرة لا تنتهي.. فنحن قوم لا نحب العمل والكد في طرق ذات الشوكة، ولا نرغب بإجهاد أنفسنا وعقولنا في البحث والتنقيب هنا وهناك. وهذه هي للأسف أكبر مصيبة ابتلينا بها.. أن يفكر الآخرون بالنيابة عنا، فقد أعطينا عقولنا إجازة طويلة منذ زمن طويل.. طويل جداً.. وأعلنّا على الملأ الإفلاس والاستقالة العقلية والعملية من الحياة والوجود كله!.

وأتمنى ألا يعتبر أحد بأنني أنشر هنا جو التشاؤم، وأهرب من مواجهة الواقع، ولكنني أحاول تسليط الضوء على الواقع القائم كما هو، والبحث عن مسؤولياتنا التاريخية الراهنة والمستقبلية.. مسؤوليات قراءة الوقائع، والتعامل مع المجريات والمعطيات القائمة حالياً بمنطق الفهم والعقلنة والتدبر، وبلغة النقد الهادف، حتى لا نقف دائماً على الهامش (أو هامش الهامش).. وهذه هي –على ما اعتقد- فرصتنا الوحيدة للانخراط في العالم، والمشاركة في صنع المشهد الكوني الإنساني المستقبلي القائم على منطق التشارك والتعايش وتوزيع المسؤوليات المتبادلة مع الآخر الذي هو -كما يقول الإمام علي(ع)- نظيرنا في الخلق. والنظير له علينا حقوق، ولنا عليه واجبات.. إنها أولاً وأخيراً حق وواجب الحوار بيننا وبينه..

والحوار -الذي هو حق وواجب في آن معاً، نشترك فيه مع الآخر- هو الوسيلة الوحيدة الباقية أمامنا لمعرفة منطلقات نهضتنا الحضارية، وأسس تواصلنا مع بعضنا البعض، في ما يتعلق بمسألة الحقوق والواجبات.. ولذلك كان لابد -لهذا الحوار الحضاري العالمي- أن ينطلق من قاعدة السعي للتعارف، فالتفاهم، فالتعاون والتكامل في مجال إنتاج وصياغة رؤية سياسية حضارية مستقبلية للعالم الإنساني كله في مناخ سليم ومعافى من التوتر واليأس والقلق السلبي المدمر، وفي وجود استعداد حقيقي -لدى كل أطراف الحوار- لقبول وتبني ما يحفل به المنهج والواقع الحضاري الآخر من مزايا وإيجابيات فكرية وعلمية ومفاهيمية.

ويبدو لنا أن هذا الهدف النهائي سيلزم أطراف الحوار بمراجعة مضامين حضاراتها الثقافية والتاريخية، وممارسة عملية النقد لجملة الأفكار والرؤى الأيديولوجية المسيطرة عليها.. وحضارتنا الإسلامية معنية تماماً بهذا الموضوع قبل غيرها من الحضارات، حيث ينبغي عليها –في هذا المجال- أن تصل إلى مرحلة نقدية واعية وهادفة، من خلال مراجعة مكونات وآليات عمل هذه الحضارة، وجعلها حضارة موحدة في طبيعة عناصرها ومكوناتها الذاتية الروحية والسلوكية الأساسية، لكي تعكس (هذه الوحدة الحضارية المنشودة) واقع الإسلام الواحد الأصيل والمنفتح والمتعايش –عن قناعة ووعي أصيلين- مع الغير، بحيث يسود –الآن وفي المستقبل- فقه التسامح، وتتغلب ثقافة الالتزام والانفتاح والتيسير على ثقافة التعصب والانغلاق والتعسير.
المصدر:
http://www.wahdaislamyia.org/issues/107/nalisaleh.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك