التصوف وحوار الحضارات

إبراهيم الوراق
ما لابد منه
إنني سأدلي بدلوي في هذا الموضوع الشائك من وجهة صوفية، وسأحاول أن أقف وقفات مع مجموعة من قضايا الحوار الديني والحضاري والثقافي فيما بين مكونات الثقافة الإسلامية وغيرها، وسأبين كثيرا من المواقف الرائعة التي تؤكد قيمة وجود هذه القيم الكبرى عند الصوفية الذين يعتبرون في تقدير البعض سكانا من الدرجة الثانية، أو أقليات تعيش على هامش الأحداث المتأججة في عالمنا المعاصر، والسبب الكامن من وراء هذا، أنني نظرت بعين قلبي إلى أهيل الدين، فوجدت تفاوتا فيما بين النص المؤسس، وراهنية الحال، فتذكرت أنني مطالب باستكشاف السر المغروس في تفاصيل التجربة، فشمرت عن ساق البحث حتى تعرفت على ما وراء الأكمة، وحينها حصل المراد، وظهر القصد، ثم عن لي أن أخاطب نفسي بحديث الروح، ووحي العقل، فخاطبتها بلغة لا تجيد سواها، وإشارات لا تقوم الدلالة بالبيان مقامها، لكنها وإن شاغبت بالتطاول، فالحياة قد أحيت فروع الكلام بداخلها، وأهاجت كل إحساس يرنوا مني إلى غيرها، وأنبتت في قلبي ورودا بدت لغيري ذابلة، وأزهارا ترمقها عيون العجلى يابسة، وأنا أعاينها لحظة من لطف الله الخفي، وحين تمددت الأفكار في المقالين الأولين(جذور التصوف، وأهمية التصوف)، هام مني القصد إلى أن أبين وجهة نظر صوفية في أمر تعجلته الأقلام بالكتابة، وتواترته الأفواه بالأحدوثة، وتناولته بالكلام، حتى عد من مواضيع الساعة. والله المقصود.
بارقة
إن العالم يعيش صراعا محتدما فيما بين القوى القوية المتدافعة على الاستيلاء والهيمنة العالمية، وبين القوى الضعيفة التي تريد الإبقاء على خصوصياتها وهوياتها المحلية، والتاريخ المؤسس اليوم، يشهد عراكا حادا بين ثقافات مستبدة تستغل التطور العلمي لفرض سيطرتها، وبين ثقافات إقليمية لم يكتب لها أن تهب من رقدتها، وأن تنفض غبار العجز والكساد عنها، وهذا الصراع المحتد فيما بين الشرق والغرب، أو فيما بين الإسلام والغرب، أو فيما بين الهلال والصليب، أو فيما الكنيسة والمسجد، هو جزء من تاريخ متعفن يرخي بظلاله على أفئدة كثير من صاغة الفكر والسياسة لدى الإتجاهات التي تريد إطالة ذيل هذا التحارب فيما بين الحضارات والثقافات والديانات إلى أمد لا يعرف نهايته إلا من يريد من هنا أومن هناك مستمرا ليكون وسيلة للقهر والاستلاب والاستعباد، ومنطلقا لتوسيع الفجوات فيما بين شعوب الأرض التواقة إلى عالم يسوده الأمن والاستقرار.
ولأمر ما، ومنذ زمان يضرب في عمق التاريخ بجذوره، تخوض أمة الإسلام غمار هذا الصراع، فأراضيها كانت مسرحا لكبرى الأحداث التي حصلت تحت مجهر الرأي العالمي، وسكانها كانوا حلبة لتجريب أنواع كثيرة من الأسلحة المدمرة للكون والإنسان، وخيراتها كانت مرمى نظر كثير من الظرفاء الذين أرادوا أن يعلموها كيفية إنفاقها، وطريقة التصرف فيها، ووسائل الحفاظ عليها، وهذا الوضع بمأساويته يدل على فساد الضمائر والقلوب، وينذر بشؤم يؤلم شجاه كل فضيل، يريد أن يرى الكون مراحا تتسامى في الإنسانية عن الأطماع الخسيسة، والأغراض الدنيئة، وتتعالى فيه عن كثير من الأسئلة التي تهز أذهان الفضلاء من أبناء هذه الأمة، وهم يتساءلون عن موقعهم الحقيقي في هذا الوجود، ويبحثون لأنفسهم عن منطلق يستوحون منه موقفهم، ويؤسسون عليه نظرهم، ويستبصرون به طريقهم، فهل الصراع سيمتد فيما بين الحضارات مع قيام الحجة عقلا ودينا وواقعا على وجوب تجاوزه؟؟ أم لا بد من مواصلة النداء للتحاور والتشارك والتفاعل فيما بين الأمم ؟؟
إن حضارة اليوم تحركت من دائرة النفع، وإزالة الضرر، إلى حضارة مدمرة تلوث الإنسان، وتهدم الكون، وتنسف القيم، وتبني الأحقاد، وتؤسس للكره، والإنسانية في مستقبلها على ضوء هذه المعطيات، ستعيش كارثة هوجاء، وزلزالا عنيفا، يعصف بقيمها، ويقضي على حياتها، وهذا ما يهدد الكون، وسيجعل مآله الدمار والخراب، ونهايته العبثية والفوضى، والذي يدرس أدبيات العنف المستشري هنا وهناك، ويرى نزوة التسابق المجنون نحو التسلح، ويلمس هوة التفاوت الطبقي فيما بين مكونات المجتمعات، سيدرك لا محالة هذه المساحة التي تقف حاجزا فيما بين الإنسان، ووسائل إنتاج السعادة في هذا الكوكب المتشاكس، وسيلحظ إخفاق كل المنظومات التي يطبل لها قديما وحديثا- سواء كانت دينية أو سياسية أو فكرية أو ثقافية - عن إيجاد نعيم آمن للإنسان الموجود في وجوده بطموح العيش الكريم، ورغبة في الحياة الوديعة، وسيجد عجزها عن تلافي الضرر المحدق، والكارثة المرتقبة.
ومن باب استشعار المسئولية، قد قامت دعوات صارخة في الغرب والشرق، تنادي بالوقوف في طريق هذا الطوفان المهدد للوجود البشري، وتطالب بتجاوز هذا الخطر الزاحف على كيان المجتمعات الإنسانية، وترافع بدعوى السعاية لبناء مستقبل زاهر للكيانات البشرية، وهذه وجدت لها بعض الآذان الصاغية، وصادفت أروحا معذبة تبحث عن تخليص المجتمعات من الزحف الأسود، فالصراع ليس من مصاديق القضاء والقدر، ولا مفردة من مفردات الجبرية والقدرية، بل هو صناعة بشرية خالصة أنتجتها أيد أثيمة تنظر إلى الكون نظرة مختزلة تجزيئية لا ترى فيه إلا المصالح والمنافع، ولا تؤمن فيه إلا بما يدر عليها أوهامها، ويحقق لها نرسجيتها، ويجعلها مسيطرة على غيرها.
لكن بعض المفكرين يذهبون إلى عدم وجود صراع فيما بين الغرب والإسلام، لكون المسلمين لا يملكون حضارة تعاكس حضارة الغرب، ولا يتوفرون على مؤهلات مادية وأدبية لمنازلة قيم الآخر، لكنهم يذهبون إلى أن الشرق مظلوم مهضوم، وأن الغرب معاد مهاجم، فالغرب في تقديرهم لم يقبل أن يرى من المسلمين ما تبقى من أثر في حضارتهم التي سادت وإلى القرن السابع عشر، فهذا الرأي وإن كان فيه من الصواب ما فيه، فإنه لا ينفي الصراع ولا يرفعه، ولا يحاول أن يمهد له، ولا أن يحميه، فالأزمة قائمة، والصدام موجود، وإن اختلفت التقديرات لذلك والقراءات، والزمن كشاف، وأهل البصيرة يسعون لتطويق الأزمة لا لتركيبها.
بحث الدلالات:
التصوف:
قيل عنه:غيبة الخلق في شهود الحق
لم أرتب هذه الدلالات ترتيبها في العنوان، لأنني أردت أن أعرف التصوف أولا، ثم الحضارة، ثم أستفيض في الحوار لكثرة ما يحتاج إلى ذكره فيه.
إنني لا أعني بالتصوف إلا ذلك المستبطن الروحاني الموجود في الإنسان، وهو يتشكل واقعا في تجربة تصطدم مع الوجود في تدافع مستمر، لتحقيق الذات وجودَها، وترسيخ حضورها، وإظهار كونها لطفا إلهيا في الزمان والمكان، وجوهرا ساميا يحلق إلى مستوى عال يجعلها نسمة من فيضه المتلألئ في الكون عدما ووجودا، ونفحة موضوعة لتحقيق المحو في المطلق بصحو حاضر في ماهية الوجود عبادة وطاعة، وفي الحضرة الإلهية فناء وسكرا، فيكون التصوف في محصلته، تلك العاطفة الدينية في بهائها ونقائها، وتلك المعاني في جمالها وكمالها، وهي تكتشف ذلك البعد المتعالي في الإنسان، وتمهد الطريق للمريد دليلا لأن يصل إلى إنسان كامل يتمتع بلذة المشاهدة لهذا الكون على ما هو عليه واقعا لا خيالا، ولأن يعيش لحظة التوهج في ذاته وحياته وهولا يرى سوى الله في حركاته وسكناته، أو هو، تلك التجربة الفردانية في الغالب، أو الجماعية المتكونة من هذا اللقاء، فيما بين الإنسان وربه، وفيما بين الإنسان وكونه، وفيما بين الإنسان وحياته بجميع علاقاتها وارتباطاتها وتفاصيلها.
الحضارات:
فالحضارة هي الكلمة العربية المقابلة للكلمة الإنجليزية civilization.و الحضارة من حضر، حضورا ، وحضارة، بمعنى الإقامة في الحضر كما قال أبو الطيب:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية(())وفي البداوة حسن غير مجلوب.
وتعني أيضا، الحضور والوجود والتميز، وتشاكل المدنية في المعنى، وعند البعض تشترك في الدلالة مع الثقافة، وهي مرحلة من مراحل التكوين البشري، وطفرة في النشاط الإنساني، الذي يحصل من خلاله التطور الفعلي على مستويات عدة، ونواح كثيرة، وهي نتيجة لتفاعل الإنسان مع الكون والحياة، بغض النظر عن بعض الخصوصيات التي تخصه، والتباين الذي ينتجه الاختلاف في العقيدة والدين، وهي تتكون من شقين، مادي ومعنوي، فالمادي ما نلمسه من عمران وصناعات وتقنيات وفنون وعلوم ومعارف وقوانين وأعراف، والمعنوي يمثل النوازع العقدية، والدوافع القيمية التي كانت من وراء صناعة هذه الحضارة، فالعقائد والأخلاق والسلوك كلما اقتربت من المعايير العلمية والمنطقية، صارت أقرب من المدنية التي هي مرادف الحضارة عند البعض، وإذا أنتجت التصحر والعقم المعرفي، كانت بداوة ورجعية وتخلفا، فالحضارة نتاج إنساني يعبر عن وحدة المنشأ، وتكامل الأدوار، وهي متداخلة فيما بينها، ومتكاملة في حلقاتها، لا يلغي اللاحق منها السابق، ولا يميت البعض منها الآخر، وإن تباعدت الأقطار، وتفاوتت الأزمان.
الحوار
لن أعرف الحوار بتعريفه اللغوي، وإنما سأعرج على مصاديق الحوار الذي ندعوا إليه، ونؤمن به، ونؤسس له.
أبجديات
إن الإسلام أكد على ضرورة سلوك منهج الحوار، في مجموعة من القضايا المصيرية التي تتعلق بالعقيدة والشريعة، ووطد لهذا المبدأ الذي يعتبر ركيزة أساسية لبناء المؤسسات الحياتية بمبادئه وسلوكياته القائمة على معيار العقل والمنطق، ومبادئ النظرة الكلية للكون، وقيم النزعة الذاتية التحررية، ولا ضرر في اعتماد الحوار وسيلة في أهم الأمور الفكرية تعقيدا، لأن الإسلام أراد أن يفتح الطريق أمام العقول الواعية، لتقرر الأدلة على المعرفة الجازمة التي تنفي كل تقليد يؤدي إلى التبعية العمياء للآبائية، أوالإستيلاب للأنظمة التي جعلت نفسها وساطة فيما بين الإنسان والمطلق، فالإيمان بالحوار في أقدس مبادئه، يعني انتفاء أسباب الصراع، وعدم وجود مغذيات النزاع، والحوار لا ينتج سلوكا مستقيما في الفرد والجماعة مادام المحاور لا يستشعر بأن الآخرين إخوة له في الإنسانية، يتعايش معهم على أساس قائم على التوحد في المشتركات الأساسية للحياة، ويتوافق معهم فيما يضمن المصلحة الكبرى للبلاد والعباد، ومادام الحوار يؤدي إلى تحقيق هذه المقاصد فإنه حوار جاد، و إلا، كانت الدعوة إليه وسيلة لدغدغة المشاعر، وتليين الأجواء، وتبليد الأحاسيس النافرة، و المصلحون قد سلكوا هذا المنهج في فض الخلافات التي تشتعل مرة بعد مرة، وختم النزاعات التي تؤدي إلى تعارك يعطل عمل الحياة، ويجعل الأرض عرضة للضياع.
والحوار لا يتم في ظروف ملغمة يعتز فيها كل طرف بموقفه، ويعتد بآرائه، ويعتقد الكمال في توجهاته، ويحزم باليقين في مقولاته، فلا يمكن تحقق أخلاقيات الحوار، كما يقول بعض المفكرين، لدى من تهيمن عليهم نزعة التشكيك والسفسطة، أو أولئك الذين يتخيلون أنهم يحتكرون الحقيقة، بل يتجلى الحوار بمظهره الرائع الخفي.... لدى أولئك الذين يضعون أيديهم في أيدي بني الإنسان كافة، ويواكبون الآخر الإنساني، ويرافقونه في طي تلك الطريق....وما عساه أن يحصل من إخفاق في مسيرة الحوار، أو شلل في نتائجه، فمن عدم ضبط الآليات التي تساعد في تصويب الرأي، وتسديد القصد.
أزمة الصراع
إن الصراع ليس من قيم الحضارات، بل هو بداوة تجتاح العقل، وتخترق محيط الإنسان حين يفكر في حدود أرضية تفقده صوابيته في استلهام مبادئ الحياة، وجهوزيته ليكون دليلا على الخير لا على الشر، ويترتب عن هذا صراع الإرادات والأوهام والقوى، أما الحضارات القائمة على مبدأ التعامل والتبادل، فإنها تتفاعل فيما بينها لصالح البشرية، وتتحدى الحواجز الواقفة في طريق الحياة الفضلى، حيث يسعد فيها الإنسان بحركته الوجودية بدون عنف ولا إكراه، فلا بد مبدأ من التنقيص من قيمة كل ما يسبب العنف والغلو داخل منظومتنا الفكرية، والقضاء على كل المسببات التي تعطل السلم الاجتماعي، والتشارك المتبادل، وهذا خير ما يقدمه المفكرون والمثقفون لربط جسور الحوار فيما بينهم ومع الآخرين، بعيدا عن التشنجات التي تنشئها العصبيات المؤسسة على احتقار السوى ونقصهم، والمظهرة للإنسان المسلم في عين الغرب وحشا كاسرا لا يملك أحد إيقافه، وعبدا مشئوما لا يبالي إلا بالأوامر المحبوكة بيد من لا يرعى حريات الناس، ولا يسلم بقيم الإخاء وحسن الجوار، ولا يسعى لربط علاقات التعاون والتوادد مع الآخر، إن الحقيقة التي نؤمن بها كإلهيين وصوفيين، أننا نرى بعض هذه الحوارات أنتجت مناخا معتدلا للتعامل المشترك، والتعاون المتبادل، وكان من غرسها ما جنته أمتنا من سلم وهناء، وبعضها كان سيئا للغاية، ذبحت فيه الكرامة البشرية على مسالخ التاريخ، وفنيت فيه الأمم بواسطة الحروب والدمار الأهوج، فكان سببا لمآس يطول لهيبها وإلى أمد غير محدود، فالتصادم فيما بين الديانات، بله الحضارات أو الثقافات، لا يعني عند العقلاء إلا الظلمة والوحشة، ولا يفسر إلا خبث الطوية، وسوء النية، ولا يقوي في حقيقة الأمر إلا طرفا على طرف بنية ابتلاعه واستعباده وإضعافه وتفقيره حتى يكون تابعا له. فالصراع فيما بين المجموعات البشرية، نوع من البدائية الفكرية، التي تعلن يُبس روْح العقول، وموت الضمير الجمعي القائم على مبدأ التعامل وقف المصلحة المشتركة الضامنة للاستقرار والحياة الآمنة.
قد ينشأ هذه الصراعات فيما بين الأفراد، لتمتد أفقيا وعموديا من قبل صناع الخلاف، حتى تشمل الدين الذي ينتمي إليه الإنسان، والحضارة التي تراكمت جهودها عبر مراحل من تاريخه، والتاريخ الذي هو جزء من كيانه، وهذا ما يجعل الإنسان بدون مشيئة منه يعيش جوقة الصراع التي تنميها مبادئ التعارك على مصالح تعود على أفراد أو أنظمة بالنفع، وتؤوب عليهم بالخيرات والمسرات....
فالحوار الذي نستهدفه هو الذي يطرح القضايا الكبرى أساسا للحوار، ويضع المشتركات محلا للتوافق والانسجام، ويترك الخصوصيات للاعتداد الشخصي والجماعي، فليحصل التحاور في صناعة تاريخ مشترك يعطي لكل واحد حق ممارسة قناعاته وقف عقد مسبق يربط فيما بين الأطراف، وميثاق يسمح بالخصوصيات والمحليات.
القرآن والحوار،
إن القرآن الكريم بأحكامه المجملة والتفصيلية يؤسس لمبدأ التنوع والتعدد، ويمهد السبل للاعتراف بالغير، وهذا ما يلمسه كل دارس للكتاب الحكيم، ويعلمه كل من يرى الحوار آلة يطرحها القرآن لإثبات العقائد، ووسيلة لاستكشاف الرأي الآخر، وطريقة للتعامل في إطار يعطي إمكانية قبول النتائج، وفرضية الوصول إلى قاسم مشترك بين الجميع، سواء كانت النتيجة انتزاعا للحقيقة، أم اعترافا بها، أم إنكارا لها، والقرآن قد جعل هذا التعدد الذي نطمح إليه في عالم اليوم آية من آيات الله الدالة على خلقه، وسمة على عظيم صنعه، فقال تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين، فتنوع الألسن والألوان، يجعل الصوفي يستحضر وحدة الأصل التي تجعل الناس سواسية وإن اختلفت معتقداتهم، وتعددت مشاربهم، فالعبرة بالجوهر لا بالعرض، والقيمة بالأصل لا بالفرع.
والحوار في القرآن يشذب الطريق للإنسان من نقط صغيرة ثم يرتقي بالإنسان ليشمل بنية ذاته، فيستفسرها عن شكوك في معتقده، ويسألها عن غوامض المجهول في عالم الغيب، ويتصاعد الحوار بشكل ملفت ليستغرق كل المواضيع التي تتركب منها حياة الإنسان. فالإيمان بالتعدد الجنسي، والاختلاف الطبيعي، ضرورة بشرية، وحتمية وجودية، ودلالة صامتة تعطي العقل موقفا صحيحا في التعامل مع الآخر، وتمكن من وجود المشترك الإيجابي فيما بين الناس، وتسمح بقيام مناخ للتعايش السلمي المرتكز على منابذة التطرف والعنف، ولا غروفي ذلك، فالحوار يعتبر الدواء الناجع لإنهاء الأزمات، وإيقاف النزاعات، وليس مراما لتكريسها، ولا منالا لتمديد آجالها، وهذه النظرة المتفائلة، رغم ما فيها من يوتوبيا، تبقى هدفا نبيلا، وحلما زاهرا جميلا، يراود من يسعى إلى دحض لغة العنف والتصادم، وينحو غاية ردم الفجوات فيما بين الحضارات والفرقاء الدينيين والسياسيين.
والحوار بهذا الملحظ، قيمة جمالية تدعوا إليها الفطر السليمة التي تحقق ذاتها في ذات الجميع، وتكسب حريتها في تقدير الآخرين، وهو نوع من الديمقراطية التي تهدف إليها الشعوب لتحرير نفسها من الاستعمار والديكتاتورية، وتثبيت مركزها في هذا الوجود بقيمتها الاعتبارية، وتدعيم حركتها في السعي من أجل تنوير دروب الحياة بفضليات الأخلاق والشيم، فلكل حق في اختيار دينه، ولكل حق في انتخاب عقيدته، ولكل حق في ممارسة خصوصياته، ولكل حق في أن يتساوى مع غيره في الحقوق والواجبات، ولكل حق في سلوك السبيل الذي يسعده، وهذا لا تجسده إلا أدبيات القرآن التي تتجلى في التصوف بما فيها من سمو في الفكر، وإنسانية في القصد.
آليات
أذكر هنا بعض الآليات التي يمكن العثور عليها في أي كتاب يمنهج للحوار فيما بين الحضارات، وأكتفي بإيراد ثلاث قضايا،
أولا: إن المحاور الذي يريد أن يتحرى الحقيقة لا يعتبر سواه إلا أخاً له في الإنسانية، وشريكا له في الحياة، يريد أن يوصل إليه خطابا سواء كان إلهيا أم بشريا، أو يحاول أن يغرس فيه سلوكا معينا بتوسط رمز يكون رسالة كلامية أو غيرها تستوحي منه موقفا ذهنيا، ونظرا وظيفيا، فالحوار الإيجابي هو الذي ينظر فيه أساسا إلى ما يمليه المحاور من أفكار، وما ينتج عنه من سلوكات، لا إلى الذات التي هي عبارة عن مختلفات تكوينية يمكن اعتبارها مصيبة أو مخطئة، فخطأه لا يسبب احتقاره وامتهانه، وصوابه لا يفقده عقله واتزانه، و الخطأ لا يعطي الفرصة للفريقين، في أن يزدري أحدهما بالآخر، أو أن ينتقص من إنسانيته، ولو أدرك صواب ما يقول، أو جمالية ما يظهر من سلوك.
ثانيا: أن يحكم على الإنسان بما عنده، لا بما عند الآخرين عليه من أفكار، حتى لا يتحول الحوار إلى تكرار للدعايات التي لا تستند إلى أدلة عقلية، ولا تقف على قناعات شخصية، فيتوهم المحاور بأنه بلغ البغية من الرأي، ونال النجعة من القصد، وهو لا يعي جلية الأمر، ولا يستوعب خلفيات القضية، وإنما يردد ما صار بالخوض فيه حقيقة كاملة، وإن كان محض افتراء وتلفيق وخدعة، فنتحرى الحقائق من قبل أهلها لا من غيرهم، ونستعمل العقل في إثباتها أو في نفيها، و إلا كان حوارا دوغمائيا صوريا لا يساعد على تبيان الحق، وإبراز الواقع. فالهدف الأسمى عندنا هو الحقيقة، بغض النظر عن مصدرها ومنبعها، والحقيقة نستوحيها من جوهرها لا من الأعراض الخارجية التي تكتنفها بتأثير معين، والذي ينفع في ترتيب نتائج الحوار، أن تستند كل الآليات المعرفية والنظرية إلى أبجديات المنطق، وأحكام العقل، وأن يكون الحوار تداواليا فيما بين المتصارعين والمتحاورين من أجل تأسيس حضارة عالمية يساهم فيها الكل، وإن لم يكن الحوار بهذا المنطلق والغاية، فليكن حوارا لإبراز الروابط التي تؤدي إلى توازن المصالح والقوى.
ثالثا: أن يكون الهدف من الحوار تزيين محيط القلوب بباقات من ورود المحبة، وتجميل فضاء الحياة بسلام يجعلنا ننسى بؤس الأيام علينا، ونَحيبَ الزمان الذي يِخب من ركام الأحداث، فليس الهدف منه تشكيكا للآخر في عقيدته، ولا تنقيصا لدينه، ولا عجن توليفة من العقائد، وتلفيق دين من طراز جديد، بل الهدف أن نُوجد مناخا معتدلا، وطقسا هادئا، ومرفأ للتعامل المشترك، والتفاعل المتبادل، والغايةُ أن يكون كل واحد منا راضيا بما يعمل، مقتنعا بما يعتقد، وأن يبرز كل واحد منا دور دينه وعقيدته في سلوكه وحياته، فيَظهر للعالم أجمعَ أثرُ دينه عليه منهجا وتفكيرا، إننا مطالبون تكليفا باحترام الإنسان فطرة وسلوكا، وتقديره مبدأ وغاية، وملزمون أمانة بأن تسود قيم التعاون والتشارك علاقات الناس خدمة للأرض التي استخلف فيها الإنسان ليعمرها من أجل بقاء نوعه، واستمرار جنسه. وهب أننا تحاورنا مع غيرنا، أو تناظرنا على قواعد الجدل، ثم حصل من الآخر رفض لبعض المواقف التي تجعل الحوار متيسرا، أو فرض لرأي لا يدفع بحركة الحوار إلى الأمام، فإن ذلك لا يدفع بنا شرعا ولا عقلا إلى الاحتقار والإقصاء، بل لا يمكننا من نكران وجوده، ودوره في الحياة، ولا يوغر صدورنا عليه حقدا، فنسعى إلى تدمير كل ما له علاقة به، و كسر كل حاجز ينقض عليه نسيج حياته، ويعطل القوة التي تربطه بالوجود تفاعلا ومشاركة، فالحوار الذي ينبني على تصديقات سابقة، أو أحكام قبلية، أو يطرح دينا، ويفرض واقعا لا يثمر مشروعا يحتوي الأمة، ويوقف مشاعر الحقد والضغينة. فهل الحوار وسيلة لتقريب الرؤى؟؟ أم لفرض قيم معينة؟؟.
فمن الواجب أن يكون التحاور قانونا فطريا طبيعيا في المجتمعات المؤسسة على التعدد والتنوع، لا تشريعا وقتيا تمليه الظروف المتكررة، وتفرضه الوقائع التي تعترض واقع الحياة، وإنما هو ُروح طيبة تُبرز القوة، وملكة جميلة تُظهر الشهامة، وموقف إيجابي يستبطن الكرامة، وليس ضعفا يؤدي إلى الإستقواء على الآخر، أو دجلا إعلاميا نشوه به قيم التواصل الإنساني، والتعايش السلمي، أو نفاقا سياسيا نتوسل بها لاحتلال الأراضي، وإهانة الشعوب، والسيطرة على الأمم.
والحوار لا يستطيعه كل