الرؤية الحضارية في فكر طه باقر
أضافه الحوار اليوم في

فاخر الداغري
الحضارة لغةً: تعني الاقمة في الحضر خلاف البادية والاقامة في الحضر تعني التمدن والتطور والتأهل لوضع افضل تتوفر فيه مصادر ارتشاف العلم والمعرفة واكتساب الاتكيت العام للحياة العصرية الحديثة من خلال التعامل بالمنطق العقلاني والاهتمام بحسن الهندام والمظهر العام والعيش في مسكن مريح وتوطيد علاقات اجتماعية مبنية على الاحترام المتبادل.
وتغليب الحق على الباطل والفضيلة على الرذيلة، واعتماد موازين العدالة هي اداة الفصل في المشاكل التي تحدث من خلال الرجوع الى القانون الذي يفصل بين السلطات الثلاث في ادارة الدول كمرجعية حضارية بعيداً عن العشوائية وتقاليد البادية.
وتشكل المدرسة الابتدائية المثابة الأولى في التمهيد لوضع قدمي المتعلم على الطريق الصحيح في اتجاه السير الى أمام وعليه تسهم المدرسة الابتدائية في فتح مغاليق الفكر التي قد ينجم عنها النبوغ كصفة نوعية توظف الذكاء في استثمار فرص التعليم في اوفر استيعاباته التي تسهم في بناء الشخصية العلمية.
ولكون النبوغ هو ارهاصات ذاتية وشحنات فكرية على شكل فكر متوقد يؤدي الى تحقيق المطامح الشخصية يصبح التفوق العلمي هو الثمن المقبوض على شكل رأي مال فكري يفتح بوابة الولوج إلى آفاق المعرفة.
هذا التفكير العلمي – الحضاري هو الذي جعل من طه باقر الطالب في المتوسطة ان يكون من الاوائل على اقرانه في مدينته الحلة في نتائج المتوسطة (البكالوريا) الامر الذي كوفئ عليه من قبل وزارة المعارف في حينه ان يقبل في الاعدادية المركزية ببغداد على نفقتها ليصبح من الاربعة الاوائل في نتائج الدراسة الاعدادية لثانويات العراق في حينه.
هذا التأهيل العلمي المتميز حظي بمكافأة ثانية من قبل وزارة المعارف عام 1931 – 1932 لترشيحه في بعثة علمية الى المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الامريكية ليعود الى بغداد عام 1938 حاملاً شهادة الماجستير في على الاثار ليعين خبيراً في الآثار القديمة العامة ويؤسس فيما بعد قسم الاثار في كلية الآداب، ويقوم بتدريس اللغة السومرية فيه، ثم الحصول على درجة استاذ في الآداب نفسها ويصبح عضو في المجلس التأسيسب في جامعة بغداد واشغال منصب نائب رئيس الجامعة مضافاً الى قيامه بأعمال التحري والتنقيب الاثاري وينتدب للتدريس في الجامعة الليبية في اختصاصه نفسه لمدة اربع سنوات.
هذا التنقل العلمي المرموق يفصح عن المؤهلات العالية لشخصية طه باقر الذي يحسب انعكاس حقيقي للفكر الحضاري الذي يثقل به كاهله حيث تنبئ علمانيته بأن اقدم حوار (dialogue) فلسفي تهكمي بين سيد وعبده، كان قد وجد في وادي الرافدين قبل وجود (هوميروس) واقرانه من شعراء العالم القديم المشهورين بعشرات القرون إذ يعرض طه باقر ابياتاً من هذا النص الشعري بلغات ثلاث هي البابلية واللاتينية والعربية وعلى الشكل التالي علماً ان تاريخها الادبي يرجع الى قبل اربعة الاف سنة ق.م.
عيلما عيلي تلاني لبيروتي اتلاك
امر جلجليتي اركوتي وبانوتي
أي بعل لموتي – ما أي بعل اوساتي
وبالاتينية:
elima eli tillani labiruti italah
amur gulgullete arkuti u panuti
ayyu bel limutti bel usati
وترجمتها للعربية:
“أعلُ فوق الاطلال القديمة وتمشى عليها
وأنظر الى جماجم المتأخرين والماضين
فأيهم الاشرار وايهم الصالحون”
هذا الادب السومري قيل في مدينة سومرية شيدت في سهول وادي الرافدين، الامر الذي يعني ان ادابها وفنونها ومعارفها كانت مزدهرة قبل ان تظهر اثينة وروما الى الوجود بقرون عديدة.
وهو ما يرجعه طه باقر الى فضل (الكلمة المدونة) التي كانت ولاتزال جوهر الانسانية واصل وسر الوجود
أي ان معجزة التدوين بدأت من العراق... من ارض الرافدين.. بدأها العراقي الاول في بلاد سومر ومن مدينة أور بالذات التي لولاها لما أزدهرت اثينة وروما والمدن الحضارية الاخرى فيما بعد.
وهذا يعني ان اثار حضارة وادي الرافدين ظلت محفورة فوق الارض التي وطأتها فصارت (الكلمة المدونة) المصدر الاكثر موثوقية في صحة ما دون.
وعليه:
يصبح التدوين من الاهمية بمكان فهو كمن يقلب صفحات المنجد او القاموس المحيط او المورد بحثاً عن دلالة كلمة.
وفي هذا الحيز من البحث والاستقضاء يجيء دور العلامة طه باقر حاملاً صفة الراعي الامين على حضارة وطنه مؤكداً انتمائه الى القيم الحضارية العليا الامر الذي اكسب شخصيته العلمية كل المواصفات الوطنية الاصيلة. فهو الذي ربط بين مكاني حضارة العراق في عصور ماقبل التاريخ والحضارة العربية الاسلامية حيث جاء التوافق بينهما مترادفاً في اهمية القراءة والكتابة في كونها من الفروض الاولى في تكامل شخصية الانسان حيث جاء في قوله تعالى (اقرأ باسم ربك الذي خلق...) زائداًً ايات اخرى بينت اهمية القراءة على صعيد العلم والمعرفة لتصبح الحضارة هي الهدف المطلوب تحقيقه.
لقد وجدت الكلمة المطلوب تدوينها الطريق سالكاً ومعبداً امامها حيث توفر لها (طين العراق الخالد) فهو الامين الاول في حفظ التجارب الرائدة يوم كان النسّاخ العراقي القديم على موعد مع اللوح الطيني والكتابة عليه بطريقة الرسم بالكلمات فجاء الخط المسماري كأول براءة اختراع في العالم القديم، فكان التدوين وكانت الحضارة مؤرخاً إيغال وادي الرافدين في القدم، الامر الذي يعززه العالم طه باقر بأسانيد وتواريخ تثبت ان العراق هو الاقدم: فحضارة وادي النيل لاتتعدى تاريخياً وهي في عظمة ازدهارها في عصر الاهرامات مطلع الالف الثالث ق.م.
والكنعانيون مستوطنو الاجزاء الساحلية من بلاد الشام تركوا نصوصاً ادبية يرجع تاريخها الى منتصف الالف الثاني ق.م.
والادب العبراني في اقدم نتاج له (سفر التوراة) لايتعدى القرن السادس. وادب الحضارة اليونانية ممثلاً في (الاوديسة والألياذة) المنسوبين الى هيوميروس لايتجاوز تاريخ تدوينها القرن السابع او الثامن.
واقدم ادب هندي وصلنا ممثلاً في (روج فيدا Rig Vide) وادب ايران القديمة ممثلاً في (الافستا Avesta) وكلاهما لايتعديات تاريخ الادب اليوناني.
هذه الدقة في بدايات تاريخ الاداب القديمة اتاحت للعالم طه باقر ان يؤكد حازماً:” ان ادب وادي الرافدين هو الغالب تاريخياً وهو المميز بالمقومات الاساسية عن الاداب العالمية الشهيرة من حيث المحتوى والصور الفنية والجرأة والاصالة مضافاً الى ميزة اخرى انفرد فيها وهي عدم تعرضه للتحوير والتشويه والحذف والاضافة على ايدي النساخ العراقين حيث كانوا عميقي الانتماء الى وطنهم في المصداقية والامانة، وظل تاريخه محتفظاً بأولويته في قبل 4000 ق.م، ومع ذلك عد ادباء العراق القديم انفسهم بانهم حديثي العهد في الحضارة وقد علموا على سيادة السلام والخير على ارض الرافدين.
ونتيجة دقة المعلوماتية وحصافة الاستقرائية عند العلامة طه باقر يقرر ان ما وزع على المتاحف العالمية الشهيرة من الالواح الطينية ماهو الا حزء يسير مما هو محفوظ تحت تراب الوطن في الاطلال المنتشره في كل ارجاء العراق حيث لايتجاوز الموزع فيها (الاربعة الاف لوح) موقناً ان المستقبل سيكشف نصوصاً ادبية اخرى تضيف معارف اخرى جديدة للانسانية.
واعتماداً على مقولة (الشيء بالشيء يذكر) فإن الشاعر الراحل رشيد مجيد (رشيد المصور) كان قد نشر عام 1979 قصيدة بعنوان (تموز وطنه العراق) استعرض فيها سومريته من خلال انتمائه الى (اور) او مدينة لارسا التي كانت الموطن الاول لابي الانبياء ابراهيم الخليل (عليه السلام)، إذ لاتزال اثار داره هناك معالم حضارة اور ولعله يلتقي تناصاً فكرياً مع العالم طه باقر حيث يقول:
“قيل ان يكتب تاريخ الدنا.... كان العراق
قبل أن يكتسح الطوفات وجه العراق
ما كان سوى هذا العراق
عندما انزل من فردوسه الانسان
كانت ارضه الاولى العراق
عندما اذنت الريح الى الفلك... استقرت في العراق
عندما حطمت الفأس تماثيل الالوهية
في كف نبي من العراق
كانت الفأس
الحوار الخارجي: