صراع اللاحضارات
محمد زين الدين
اعتقد العالم قبل عشر سنوات على أنه تجاوز بشكل نهائي زمن الصراع الايديولوجي متوهما أنه وصل إلى صيغة حضارية عالمية مشتركة ركيزتها الأساسية تحويل العالم إلى قرية كونية تتوحد فيها المنظومة الاجتصادية مثلما تتضمن بوثقة من القيم الانسانية المشتركة المتمثلة في التقدم والديمقراطية وحقوق الانسان وسيادة مجتمع الاعلام والتواصل الكوني.
بيد أن هذا السعي نحو تغيير مسار العالم طرح معه جملة من الاشكاليات الجوهرية يأتي في مقدمتها:
هل العلاقة التي تسود أطراف عالم اليوم هي بالضرورة علاقة تناحرية أم أن هناك إمكانية خلق علاقة تحاورية؟ و هل هي لعبة صفرية لا بد فيها من خاسر ومنتصر ؟
ما هي الأسباب التي تهدد التواصل بين الحضارات بالانقطاع؟
ما هي مشاكل الهوية الحقيقية أو الوهمية المرتبطة بها؟
ما هي الظروف التاريخية والدينية والاجتماعية الموضوعية المرتبطة بها؟
كيف نحل النزاعات المزمنة؟
وكيف نعالج انقطاع التواصل الموجود؟
وبعيدا عن هذا السؤال المركزي يتراءى في الأفق السياسي أسئلة نوعية من قبيل:
هل تؤدي الهيمنة الاقتصادية إلى هيمنة ثقافية؟ هل هناك قيم قائمة بحد ذاتها؟ هل هناك قيم أبدية خاصة بكل الحضارات أم فقط بالبعض منها؟ هل يقف الآخر من هذه القيم نفس الموقف؟ هل هناك قيم تتمتع بنفس الأهمية على خلاف الحضارات والمراحل التاريخية؟ من يحدد ما هي القيم "المشتركة" التي يجب الحفاظ عليها؟
المحور الأول
التأصيل النظري للحوار والتواصل
إن الحوار أو التواصل بين الحضارات المختلفة هو عملية تاريخية تتسم بالتأرجح بين وثائر معتدلة نسبيًّا تارة، ووتائر تؤدي إلى تفاقم الخلافات الموجودة بين الحضارات المختلفة تارة أخرى.
إن التواصل الإنساني يختلف عن التواصل بالحاسوب وهو أكثر من مجرد نقل معلومات، ويستوجب نجاحه أكثر من محض الاشتراك في لغة يفهمها الطرفان؛ فالتواصل الناجح يحتاج إلى معارف مشتركة تتمثل في توفر رؤية كل طرف للعالم، وحول القيم التي يتبناها كل طرف، وحول موقف كل طرف من الطرف الآخر. ولا يجوز أن نرى في الغاية من هذه المعارف الخاصة بالتواصل مع الطرف الآخر بالضرورة الوصول إلى إجماع، بل التواصل لا يتناقض مع استمرار الاختلاف وعدم الوصول لاتفاق في كل القضايا.
بيد أنه من البديهي أن يعرف كل طرف رؤية الطرف الآخر ومواقفه معرفة جيدة فلو فشلنا في إقامة التواصل واستمراره فسوف نفشل في تحقيق التعايش البنَّاء، ليس فقط بين الحضارات بل أيضًا على مستوى التواصل الشخصي، أي أنه لا مفر من إنجاح "التواصل" بين الحضارات لمن ينشد تحقيق "التعايش" بينها.
إن القول "نحن في الغرب" يفترض وجود "الشرق"، وهذا "الشرق" ينبغي تعريفه بشكل مركب وليس فقط جيو-إستراتيجيًّا. وهذا التعريف لا يمكن أن يعتمد فقط على التاريخ المعاصر أو على وجود الكتل العالمية، ويبدو لي أن هذا المصطلح (أي الشرق) بعد أن كان وصفًا للمعسكر الشيوعي وأتباعه من الأنظمة الأوروبية التي كانت أعضاء في حلف وارسو تحول بصورة ما إلى وصف للعالم الإسلامي، وتم استعادة سمات العداء التي تعود لقرون سالفة بين أوروبا والعالم الإسلامي، مع استمرار صورة العدو/الخطر التي كانت مخصصة منذ سنوات قليلة للمعسكر الشيوعي.
إن المشاكل التواصلية ستستمر حتى مع توافر حسن النية لدى الجميع، وقد تؤدي الاختلافات والتباينات الثقافية إلى سوء الفهم وإلى أخطاء في التقييم. ولذلك يجب علينا ألا ننطلق من الرغبة في تحقيق ما يبدو وكأنه الحالة المثالية بل ربما كان الأجدى أن نبدأ بمحاولة منع حدوث الأسوأ. فكلما اتسعت دوائر العولمة اصطدمت حتمًا العقائد والقيم المختلفة، وهذا الاصطدام قد يؤدي إلى عواقب أكثر تدميرًا لو لم نستطع أن نحلَّ النزاعات حلاًّ ينبني على "التعارف" والتواصل.
والاستنتاج المنهاجي هو أنه لا يجوز أن نفكّر في كيفية التواصل بين الحضارات فحسب بل يجب علينا أن نلتقي، ونقوم بخلق السياقات والدوائر التي يتم فيها التواصل المباشر بين الحضارات، علمًا بأن التواصل يتم يوميًّا إعلاميًّا وفكريًّا وأدبيًّا وتجاريًّا وعسكريًّا، بل وإرهابيًّا! وعلى ضوء ذلك يجب علينا التفكير في كيفية الحيلولة دون تحول التواصل إلى عملية عشوائية لا يستفيد منها إلا طرف واحد، أو أطراف على نفس الجانب دون الجانب الآخر من التواصل.
إن التواصل الناجح لا يعني أنه من المفروض أن نعرف كل شيء عن الآخر، ولا أن تتمتع كل المعلومات بنفس القيمة والثقل. ويجب بالضرورة ألا نعرف كل ما يمكن معرفته حول موقف الآخر من العالم والقيم وآفاق المستقبل.
إن المعارف التي نحتاج إليها هي المعارف التي تتركز على ما هو جوهري فقط لحامل هذه المعارف، أي ما يسمى بجوهر هويته، أي الهوية الشخصية في التواصل الشخصي أو التواصل بين الأشخاص أو الأفراد والهوية الحضارية أو الثقافية في التواصل بين الثقافات أو الحضارات؛ ويمكن تحديد المستوى الشخصي أو الجماعي على أساس تحديد المسافة بيننا وبين الآخر، أي ما هي الاختلافات أو التباينات بيننا؟
المحور الثاني:
صراع للحضارات أم صراع للاحضارات
نعيش اليوم أمام أزمة النفي والنفي المضاد؛ فكل طرف يحاول إقبار الطرف الآخر عبر منظومة شمولية تتخذ أبعادا متعددة ليجمعها ما يمكن أن نسميه بصراع اللاحضارات ؛ فالعالم الغربي ترك اليوم جانبا إرثه الحضاري المتميز بإشاعة ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان والذي ساهم بشكل كبير في إغناء المجتمع الانساني بقيم فاضلة ليتحول إلى موقف المتفرج حينما غيب التعامل المباشر مع الآخر قصد معرفة خصوصياته مثلما غيب مبادئ وأسس القانون الدولي حينما نحا إلى موقف المتفرج على ما يجري في كواليس الأمم المتحدة اتجاه قضايا ذات حساسية إثنية وعقائدية بالغة الأهمية كأفغانستان ؛ العراق؛ لبنان فالاختلال التوازن داخل الأمم المتحدة أعطى نوعا من الانطباع على أن رواد الحضارة الغربية تملصوا من قيمها الغنية لفائدة منطق " قسمة الغنائم " بين أوربا القديمة وأوربا الحديثة لذلك فطن طوني بلير مؤخرا إلى خلاصة مفادها أن حل المشكل في العراق يقتضي حل النزاع العربي الإسرائيلي.
إن ما يثير المفارقة الجوهرية في صراع اللاحضارات أن نظام الأمركة القائم أساسا على النهج الديمقراطي القويم والتعددية العرقية التي تطلب ردحا طويلا في بناء المجتمع الأمريكي والهامش الكبير الممنوح للمجتمع المدني الأمريكي وتكريس ثقافة حقوق الانسان أن هذا المجتمع نفسه هو الذي يصادر هذه المقومات حينما يرغب في تنميطها للعالم الآخر وفق منظور برغماتي ينزع عن كل هذه القيم طابعها القيمي.
إن انصياع عقلاء أوربا إلى شره مروجي العولمة المتوحشة قاد إلى انسداد أفق الحوار مع الحضارات الأخرى؛ فالبرغم من أن البعض يحاول حصره داخل العالمين الغربي والاسلامي إلا أن الواقع أن العالم اليوم يشهد صراعات متعددة هذا في الوقت الذي يبدو فيه العالم الغربي قادرـ إن توفرت فيه الإرادة السياسيةـ على إنتاج مضادات لآفاته ؛ فقد عرف الامبريالية مثلما عرف الامبريالية وأنتج الفاشية مثلما أنتج اللافاشية كما بلور الشيوعية مثلما بلور اللاشيوعية.
إزاء هذا النفي خاض جانب من العالم الاسلامي موقف المدافع عن هذه الهجمة الشرسة بشكل لا يختلف عن الكيفية التي بلور بها العالم الغربي رؤيته إلى الآخر حينما تم تأويل مقاصد الشريعة الاسلامية ولي أعناق النصوص القرآنية ليا مشوها لتبرز مفاهيم الارهاب ؛ التطرف ....
وفي الوقت الذي كان من المفروض فيه أن تتدخل بعض القنوات القانونية والسياسية لتدبير هذا التو ثر العالمي فإن العكس هو الذي حصل؛
فقد قاد نزع البعد الأخلاقي المميز لزمن العولمة إلى إدخال الأمم المتحدة في رحلة احتضار سياسي عميق؛ فإذا كان بطرس غالي قد أدخل هذا المنتظم إلى غرفة الانعاش فإن كوفي عنان قاده إلى موت بطيء نتيجة التنصل من المبادئ التي كرستها الشرعية الدولية ليتم اختزال هذه الترسانة القانونية في ضبط العلاقة بين الشرق والغرب بمنطق سياسة الكيل بمكايلين ؛ فأمسى التباعد هو العنصر المميز بين العالمين الغربي والشرقي مما يجعل أي حوار بين هذين العالمين أمر صعب التحقق.
هناك عائق أخر يحول دون حوار حضاري ممكن ألا هو هذه الايدولوجيا الليبرالية الجديدة التي تقول بتفوق قيم الثقافة الغربية؛ فهذه القيم في نظرهم كانت الحافز للإقلاع الاقتصادي واقتصاد السوق والإنتاجية المتطورة في الكمية والجودة كما أسست الديمقراطية الليبرالية وحقوق الانسان....
وهكذا تبلور اعتقاد أن الحضارة الغربية ليست فقط متفوقة على الحضارات الأخرى بل تم الترويج بكون الغرب قد ابتكر قيما غير مسبوقة تأسس عليها نظام السياسة وتدبير الاقتصاد وعلمانية الدولة ومدنية القانون ونظام التربية ومفهوم حقوق الانسان.
فكانت النتيجة أننا أصبحنا أمام صراع للاحضارات.
المحور الثالث: لمن الهوية.؟
إن الهدف المركزي من الصراعات الحضارية هو في الأخير الهيمنة الفكرية والهيمنة في مجال تحديد الهوية، ومن يستطيع أو يعتقد أنه يستطيع أن يحدد ما هو مرغوب فيه وما هو غير مرغوب فيه حضاريًّا.
وقبل مناقشة القيم المختلفة والاختلافات أو التباينات يجب أن نتفق على الحد الأدنى من القيم المشتركة. ما هي هذه القيم إن وجدت؟ وفي هذا المجال نعاني كلنا من مرض التضليل الذاتي أي مرض التخيل، تخيل أو وهم أننا نحن الذين نمثل القيم الصحيحة والحميدة وقيم الآخرين هي أقل قيمة أو تعود إلى مراحل تاريخية قد اندثرت؛وإلى الآن لا نعرف الدواء الذي يضمن الشفاء التام من هذا الوهم. لكن في الوقت نفسه يجب أن نفهم أن هذا المرض بالذات هو الضمان لاستمرار قيمنا والشرط الأساسي لوجود التعددية الحضارية والثقافية. ولا يمكن أن أتصور أن العالم كله يتبنى القيم نفسها ويأكل الأكل نفسه... وإلخ.
لا يصلح التواصل إذا صرنا القاضي والحَكَم ومن يحدد قواعد اللعبة، بل الاعتراف بالآخر يتطلب الاعتراف بحقه في المشاركة في تحديد القواعد من البداية واختيار الأسئلة التي يمكن أن تطرح والتي يجب أن تناقش.
ومشاكل الهوية لا تنشأ كمشاكل مجردة؛ لذا لا يمكن معالجتها معالجة مجردة بل هي في الغالب مرتبطة بمشاكل عملية ملموسة تعود إلى تحولات عميقة أو طارئة في الحياة العامة والخاصة. ويجب أن نتساءل: هل نحاول أن نحارب هذه التحولات العميقة أو الطارئة؟ بل هل نستطيع فعليًّا محاربتها؟ أم يحسن بنا معالجة المشاكل الناجمة عنها؟
المحور الرابع:
بحثا عن تعدد ثقافي
إن الكونية لا تعني مطلقا التبعية العمياء لنمط واحد بشكل يفضي إلى إذابة الفوارق في إطار تنميطي للفكر الواحد لأن هذا الأمر مستحيل التحقق لسبب بسيط ومهم في نفس الآن ألا وهو أنه يمكن تغيير كل شيء إلا حضارة الشعوب.
إن الخصوصية الثقافية هي قيمة معرفية وأخلاقية باعتبارها حقا من الحقوق الأساسية التي تختص بها كل شعوب وبدون الاختلاف بين الشعوب يتعذر تحقيق أي تعاون دولي بين البشر.
إن حوار الثقافات ممكن إذا لم نجعل منه مجرد تعبير دفاعي تجاه العنف الذي يحمله كل يوم انسداد الأفاق إنه ممكن وضروري للخروج من منطق حماية الهوية
يبدو اليوم من المهم جدا بلورة تيار ثقافي بغية الدفاع عن تعايش و الثقافات وإقرار الخصوصيات الحضارية التي تقر بمسألة التعدد الثقافي وتضمن حمايته؛ فتمنع هيمنة الثقافات المهيمنة من تسليع الابداع الانساني الكوني لتحوله إلى مجرد بضاعة تخضع لقوانين السوق العمياء.
ويبقى من المهم جدا أن نشير إلى ضرورة تبلور حوار جدي بين مثقفي العالم ؛ ذلك أن الحوار الثقافي ينبغي أن يقدم على حوار الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين ؛ فأزمة عالم اليوم تكمن في غياب تواصل ثقافي بين قاطني الكرة الأرضية فيما أهم المحطات التاريخية الانسانية تثبت بدون مجال للشك على أن تغيير مسار العالم يتم بفعل النخبة المثقفة ونستحضر هنا على سبيل المثال الثورة الفرنسية وما حملته من أشياء جديدة ومجددة للانسانية جمعاء.
إن هؤلاء الفاعلون الثقافيون هم الذين سيبلورون حلولا تعتمد على تضافر مختلف فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية والتعاون بينها، والمعنيون في هذا الأمر هم الفلاسفة واللغويون وأصحاب الدراسات الثقافية ؛السياسية ؛التاريخية ؛الدينية والقانونية والاقتصادية (قبل خبراء السوق المصرفية والشبكات المعلوماتية) والذين يجب أن يعملوا بصدق على تحليل كل ما يحيط بالتواصل بين الحضارات ومشاكله والحواجز التي تعيق تقدمه نحو تعاون حضاري طويل الأجل بعيدًا عن الحسابات الاقتصادية قصيرة الأجل التي تواجه مخاطر جمة نتيجة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي على أي حال، ما استمرت الأوضاع الداخلية والتوازنات الإقليمية والدولية على ما هي عليه.
المحور الخامس:
شروط إنجاح حوار الحضارات
ليس هناك وصفة مثالية لإدارة الحوار بين الثقافات؛ بيد أن هناك مقدمات عامة يمكن الانطلاق منها لبلورة حوار جدي ومسؤول ؛ فحتى الحوار بين الأفراد داخل البيت الواحد كي يصل إلى نتائج حقيقة لابد له من شروط ومقدمات إيجابية توفر له أرضية حقيقية للانطلاق إذا أعملنا النظر في علاقتنا مع الآخر فإن ثمة شروط مطلوب إبرازها لكي نشرع معا في حوار مسؤول.
وهذه الشروط هي:
أولا: إن أول هذه الشروط هو ضرورة تحديد ماهية الحوار هل المقصود به هو عقد جلسات صورية لرصد أوجه الاختلاف أم ينبغي تجاوز ذلك بوضع أجندة لمعالجة القضايا المشتركة التي يضع العمل بها أطراف الحوار؛ فالاهتمام بالملفات الحارقة وعدم القفز عليها بالرغم من الاحراج التي قد تحدثه كالبحث الجدي في قضية الصراع العربي الإسرائيلي ؛قضية احتلال العراق والتدخل في شؤون الدول الوطنية بمبررات سياسوية صرفة.
ثانيا: ضرورة تحديد سقف زمني محدد.
ثالثا: لابد من إشراك فعلي لمنظمات المجتمع المدني في بلورة حلول لأجرأة حوار مبين الحضارات لنصل في مرحلة لاحقة إلى حوار مركب مع الأنظمة والحكومات سواء فيما بينها وبين المنظمات المجتمع المدني.
رابعا :لتحريك آلية الحوار لابد له من الاقرار بالاختلاف واحترام الآخر المختلف كحقيقة مستقلة وقراءته قراءة موضوعية في جو من الحرية التامة دون أحكام مسبقة أو مواقف متحيزة ودون محاولة فرض الرؤى الخاصة على الآخر.
إن الحوار معرفة بمعنى أنه يؤدي إلى المعرفة عن طريق إعداد الأسئلة الجوهرية الهادفة إلى الحصول على المعرفة الموضوعية الدقيقة وبذلك يحصل التصور الصحيح للحقائق؛ ومعلوم أن السؤال ابن المعرفة.
إن السؤال هنا يستهدف المعرفة ويصدر عنها في نفس الآن؛ ويكون ذلك بفحص آراء المحاور أو بنقد تلك المعايير وفق معايير ملكة الحكم أو العقل؛ ويضيف الباحث المغربي طه عبد الرحمان على أن الحوار إلى جانب كونه معرفة وأخلاق فإنه يكون اختلافيا ونقديا بغية الاجابة على أسئلة يلجأ فيها إلى جهود تبريرية بأدلة معقولة ومقبولة من طرفيه، دون تعنيف أو استبعاد للخلاف أو الفرقة.
إنها ضوابط تجد مصدرها في الفكر الذي أنتجه الأدباء والفلاسفة العرب المسلمون ومرد ذلك كما يقول أبو حيان التوحيدي إلى أن لكل أمة فضائل ورذائل ولكل قوم محاسن ومساوئ ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير وبالتبعية تكمن قيمة الحوار في الايمان بالنسبية الفكرية بحيث لا أحد يملك الحقيقة المطلقة لوحده أو على حد تعبير ابن خلدون في باب الجدل من مقدمته" إن الحقيقة لا يملكها طرف واحد"
خامسا:إن أطراف أي صراع حقيقي لا بد أن تكون متكافئة ليس حضاريًّا فحسب بل أيضاً اقتصاديًّا وعسكريًّا، وأن تكون الرغبة في التصارع متبادلة وتمثل إرادة الطرفين.
وهنا يطرح السؤال نفسه حول مصداقية تباكي الغرب على غياب الديمقراطية في البلدان العربية؟ فهل هو جاد فعلاً في تطبيق مبادئ الديمقراطية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ أم فقط السماح بذلك القدر من الديمقراطية الذي يضمن للغرب تحقيق مصالحه الاقتصادية وضمان تدفق البترول بالشروط والأسعار التي يحددها هو نفسه؟
سادسا:إن حل مشاكل التواصل بين الحضارات لا يمكن أن يتحقق إلا بتكامل الوسائل والأدوات، والحلول التي لا تُتَنَاول إلا على جانب واحد مثل الجانب الديني أو الإثني أو الاقتصادي هي في آخر المطاف حلول جزئية وغالباً ما تبوء بالفشل.
والاستنتاج من هذا هو ضرورة وجود نوعين من التواصل: أولاً التواصل في إطار الحضارة الواحدة، وثانيًا التواصل بين الحضارات المختلفة.
ونعرف أن التواصل في الحضارة الواحدة أو التواصل الداخلي يمكن أن ينقطع، وهذه الحالة تؤثر بالتالي سلبًا على التواصل بين الحضارات.
ويبدو لي أن التواصل الداخلي انقطع في أكثر من حضارة. فكيف نستطيع أن نحقق التواصل بين الحضارات دون الوفاق أو الوحدة الداخلية في تعريف القيم لكل كيان حضاري؟ وهل يمكن مناقشة تباين القيم مع الحضارات الأخرى إلا بعد الاتفاق على تحديد القيم المميزة لكل منظومة حضارية. وما هي قيم الغرب؟ وما هي قيم الشرق؟ وهل تسميات "الغرب" و"الشرق" ابتداءً تسميات صحيحة؟ أم أنها بدلاً من أن تكون محض أوصاف جغرافية ومكانية تحولت بحد ذاتها لأيقونات ولأحكام قيمية على الجانبين تشكك في إمكانية المشترك الإنساني؟!
مجمل القول أن حوار الثقافات ممكن التحقق إذا لم نجعل منه مجرد تعبير دفاعي تجاه العنف والاقصاء الذي يحمله كل يوم انسداد الآفاق؛ إنه ممكن وضروري للخروج من حالة الاحتقان السياسي الذي يعتري عالم اليوم مثلما هو ضروري بغية صياغة هويات متعددة قابلة للاغتناء والتعايش.