التسامح والتعصب
مهند أحمد
لمحة تاريخية
نشأ في ظل ظروف تاريخية مغايرة تمامًا - الحروب الدينية في أوروبا - لما مر به التاريخ العربي، وبالتالي لم يتم طرح المفهوم بنفس مدلول نشأته في الغرب. لكنه يشير إلى ظاهرة من خصائص المجتمع، وهى حرية الاعتقاد والحق في الاختلاف.
وإذا كان لفظ «التسامح» لم يرد في الشريعة الإسلامية إلا أنه يشير إلى إحدى خصائص المجتمع المسلم، كما جاءت الشريعة بما يقاربه أو يدل على معناه كما يلي: فقد دعا القرآن الكريم إلى التقوى والتشاور والتآزر والتواصي والتراحم والتعارف، وكلها من صفات التسامح، مؤكدًا حق الاختلاف بين البشر فالاختلاف آية بينة، وإن كان لا يلغى الائتلاف. وقد اعتبر الإسلام أن الناس جميعًا أسرة واحدة يرجع نسبهم إلى أب واحد وأم واحدة.. ورسالته السمحة رسالة شاملة موجهة إلى جميع الناس وصان الإسلام الكرامة الإنسانية ونبذ العنصرية والتعصب الديني وقام على المساواة التامة، وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء}، وفى قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم} .
ولم يولد مفهوم التسامح ويكتمل تطوره دفعة واحدة، ولكنه كان مفهومًا علميًا يعبر عن ظاهرة اجتماعية مرت بمراحل نمو وتطور، وكذلك تعرض - وما زال - يتعرض لانتكاسات وتراجعات نتيجة عديد من العوامل والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية، وبحلول القرن الثامن عشر شهدنا تحول أساس في الاهتمام بمفهوم التسامح من مجرد اعتباره أداة أو وسيلة لحل مشكلة ما أو للتغلب على ظروف سياسية ودينية ما إلى شعار إصلاحي، بل وقيمة يأمل أي مجتمع في تسيدها .
وقبل هذا التاريخ شهد المفهوم مرحلة تبلوره في فترة الحروب والصراعات الدينية التي اكتسحت القارة الأوروبية والتي كانت مصدر إلهام العديد من الفلاسفة والمفكرين ورجال اللاهوت من مختلف المذاهب... كان محور اهتمام هؤلاء... كيفية تبرير التسامح وغرسه والاجتهاد في سبيل استئصال التعصب، فقد كانت الآثار السياسية للحروب الدينية آثارًا دامية هددت كل جوانب الحياة الإنسانية في القارة الأوروبية .
ومثل غيره من المفاهيم الاجتماعية . يتشابك مفهوم التسامح مع مفاهيم أخرى عديدة مثل مفهوم التنوع والخصوصية والمواطنة والجماعة السياسية الواحدة، حيث يفترض التسامح أن هناك تنوعًا وتعددًا في المجتمع أيًا كانت طبيعته، وأن هذا التنوع تتم ترجمته في صورة آراء وممارسات، ولكنه في إطار جماعة سياسية واحدة, ولعل أساس هذه الفكرة يكمن في ارتباط النشأة التاريخية للتسامح بتعدد الفرق والطوائف الدينية والصراع بينهم ومحاولة إيجاد طريقة بمقتضاها تتمكن هذه الطوائف والشيع المختلفة والمتناحرة من التعايش معًا.
تعريف التعصب
لغة: يأتي بمعنى الشدة يقال لحم عصب: صلب شيد، وأتعصب أشتد، والعصب: الطي الشديد، وعصب رأسه وعصبه تعصيباً: شده واسم ما شد به العصابة.
ومن أمثال العرب: فلان لا تعصب سلماته، يضرب مثلاً للرجل الشديد العزيز الذي لا يقهر ولا يستذل.
ومنه قوله عز وجل "هذا يوم عصيب" أي شديد.
ويأتي بمعنى: التجمع الإحاطة والنصرة ومنه قوله عصبة الرجل: بنوده وقرابته لأبيه والعرب تسمى قرابات الرجل أطرافه ولما أحاطت به هذه القرابات وعصبت بنسبه سموا عصبة وكل شيء استدار بشيء فقد عصب به والعمائم يقال لها العصائب، ويقال عصب القوم بفلان أي استكفوا حوله والعصبة والعصابة جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين.
والتعصب من العصبية والعصبية أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين.والعصبي هو الذي يغضب لعصبته ويحامي عنهم
اصطلاحاً :لا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي فالتعصب هو التشدد وأخذ الأمر بشدة وعنف وعدم قبول المخالف ورفضه والأنفة من أن يتبع غيره ولو كان على صواب.
وكذلك التعصب هو نصرة قومه أو جماعته أو من يؤمن بمبادئه سواء كانوا محقين أم مبطلين، وسواء كانوا ظالمين أو مظلومين.
وبضدها تتبين الأشياء:
فالتعصب ضد التسامح ،والانغلاق ضد الانفتاح والتحجر ضد التفكر ، ورفض الآخر وعدم قبوله ضد التواصل معه والتعايش والتوافق والعصبية والحمية ضد التجرد للحق والانتصار له فمعاني التعصب ممقوتة مذمومة وضدها هذه المعاني الجميلة المحمودة.
اسباب التعصب
التعصب: ولو كان التعصب غريزة تنتقل بطريقة جينية ، لما شاهدنا مثلا الزيجات المختلطة في مجتمعات عديدة كالعراق مثلا. أيضا لو كان ذلك صحيجا فكيف نفسر أن هناك أفراد تقيم جماعاتها بشكل سلبي و تنتقل إلى جماعات أخرى ، إن تأكيد المرء لذاته لا يترتب عليه بالضرورة رفض الآخر أو إزدرائه.
هناك فلسفات تحتقر التعصب وكراهية الآخر بوصفها نوعا من دناءة النفس لا تناسب الإنسان النبيل كما عند نيشة وبعض الفلسفات الهندية . هكذا نجد أن التعصب ليس غريزة بل هو معيار إجتماعي يتعلمه الإنسان من مجتمعه. وهناك عمليات نفسية شائعة تشكل الأساس الذي تقوم عليه الإتجاهات التعصبية مثل الإسقاط و إزاحة العدوان و التصنيف المعرفي و التوحد الإجتماعي .
عموما يمكن حصر ثلاث مجموعات من الأسباب التي تؤدي إلى التعصب الجماعي ، هذه المجموعات هي نظرية الجماعات السيكولوجية التي تدور كلها حول إبراز الدور الذي يلعبه الصراع بين الجماعات و من هذه النظريات : نظريات الصراع الواقعي و نظرية الحرمان النسبي ، هذه النظريات تفسر التعصب بالتنافس الإقتصادي بين مجموعات متصارعة ، أو نتيجة إحساس منتسبي إحدي المجموعات بحصول الأفراد الآخرين على إمتيازات نسبية و حرمانهم منها ، وهم عندئذ يعبرون عن استيائهم في شكل خصومة جماعية صريحة .
هناك أيضا نظريات التعلم الإجتماعي التي يعتبر (بندورا) أشهر دعاتها ، و ترى أن التعصب هو عباره عن مقياس إجتماعي يتعلمه الفرد من مجتمعه كما يتعلم أي شيء آخر ، فالآباء و المعلمون و الأصدقاء و الإعلام بشكل خاص كلها تلعب الدور الأساسي في اكتساب التعصب ، و الأطفال لا يتعلمون فقط التعصب من مجتمعهم و لكنهم أيضا يتعلمون أشكال التفاعل مع الجماعات الأخرى سواء بالتفاهم أم بالإزدراء و العنف ، وهذه النظرية تقدم تفسيرا منطقيا مقبولا لتعصب قطاع كبير من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافة واحدة و نظام تعليمي بعينه ، و يمكن لهذه النظرية تفسير الإتجاهات التعصبية الدينية للشباب السعودي بل و المسلم الذي ينشأ و يتعلم في المجتمع السعودي ، نتيجة تكوين معارفه في مجتمع يدين برؤية أحادية تكفر المخالف، شيء مشابه يفسر السلوك التعصبي للشباب الباكستاني الذي يخضع لثقافة بالغة التعصب داخل مؤسساته الدينية حتى في الدول الغربية، حيث تلعب المراكز الإسلامية دورا محوريا في الترويج لثقافة التعصب و الإرهاب. كما نلاحظ ان الظاهرة نفسها بدأت تترعرع وتنمو في العراق تحت تأثير انطلاق ومصالح المرجعيات والمؤسسات المذهبية.
أسباب انتشار التعصب في المجتمع
1. الجهل و عدم وجود فرص الإتصال بين الجماعات المختلفة ، فقد أثبتت الدراسات الميدانية أنه كلما زادت معرفة الفرد بالحقائق و المعلومات عن الجماعات موضوع التعصب قلت حدة النزعات التطرفية تجاهها ، لهذا من الطبيعي أن ينتشر التعصب في صعيد مصر و السودان ( ضد الأقباط و الجنوبيين و سكان دارفور ) حيث يوجد أكبر مخزون من الأميين في العالم العربي.
2. حجم و نمو الأقلية موضوع التعصب ، فكلما زاد حجم الأقلية و معدل نموها يزداد التعصب تجاهه.
3. تزداد الإتجاهات التعصبية تجاه الآخرين عند وجود أخطار خارجية تهدد جماعة داخلية ما.
4. يزداد التعصب مع وجود تباين بين الجماعات التي تكون المجتمع ، فالمجتمع المتجانس يقل به التعصب مقارنة بالمجتمعات التعددية ، فدول شمال أوروبا متجانسة و هي أقل تعصبا عن غيرها حتى تلك التي ربما تفوقها في مستوى المعيشة مثل الولايات المتحدة ، و أيضا يزداد التعصب كلما كان هذا التباين مركبا ، فهو يزداد عندما يكون هناك تعدد ديني مرتبط بتعدد عرقي ، فالمسلمون في الغرب مثلا هم أقلية دينية و عرقية معا ، عكس المسيحيين في الشام فهم جماعة دينية و لكنهم لا يشكلون جماعة عرقية مختلفة.
5. يزداد التعصب في المجتمعات التي بها حراك إجتماعي قوي أو منافسة شديدة في ميدان العمل مثل أمريكا ،لأن من ينتمي للطبقات الأغنى يخشى من مزاحمة أفراد الطبقات الأدنى له ، وهم في هذه الحالة الزنوج و مهاجري أمريكا اللاتينية .
6. يزداد التعصب في المجتمعات الفقيرة و كلما كان التغير الإجتماعي سريعا ، وهذا يفسر نسبيا انتشار التعصب في صعيد مصر خلال السنوات ال 20 الأخيرة .
7. الأفكار النمطية الجامدة السلبية تجاه الآخر تزيد من حجم التعصب تجاهه .
8. العوامل الثقافية مثل الإعلام تلعب دورا كبيرا في تزكية الإتجاهات التعصبية ، فقوة وسائل الإعلام السلفي المتعصب المدعوم بالدولار البترولي تؤدي إلى تعميق التعصب و الكراهية بين السنة و غيرهم من الأقليات الدينية و المذهبية ،و هناك من يرى أن الإعلام الشعبي و حتى الرسمي في مصر هو السبب الأول في نمو الإتجاهات التعصبية العنيفة تجاه الأقباط .
9. التنشئة الإجتماعية المبكرة من خلال الإتصال بأفراد متعصبين خاصة الوالدين و الأقارب و المدرسة ،و أحيانا يتولد التعصب خلال الإتصال بموضوع التعصب مثل الطفل الذي يلقى معاملة مهينة من زملاء له ينتمون لدين أو مذهب آخر فيتولد لديه كراهية لكل الآخر ين ،و لكن هذا يكون عادة فرديا و قليل الحدوث ،و يبقى الإتصال الوثيق بالآخر سببا هاما للتسامح و ليس سببا في التعصب .
10. تلعب العولمة الثقافية دورا مزدوجا فمن جانب تزيد من التواصل الثقافي بين التجمعات البشرية المختلفة ،و لكنها أيضا تؤدي إلى نمو إحساس الثقافات الأضعف ماديا بأنها معرضة للضياع والذوبان في غيرها ،و بالتالي تزيد من الإتجاهات الأصولية و التعصبية تجاه الثقافات الأقوى ،و هذا يفسر زيادة تعصب المجتمعات الإسلامية تجاه الغرب و المسيحيين ، الذين يبدون في صورة المنتصر الذي يفرض شروطه .
الآثار السلبية للتعصب
1. إنه منفر ، لا تحتمله طبيعة البشر العادية، ولا تصبر عليه، ولو صير عليه قليل منهم، لم يصبر عليه جمهورهم، والشرائع السماوية جاءت لتخاطب كل الناس.
2. إنه قصير العمر، والاستمرار عليه غير متيسر، والإنسان بطبيعته ملول، وطاقته محدودة، فإن صبر يوماً على كل التشدد والتعسير، فسرعان ما يكل، وقد يأخذ طريقاً آخر، وينتقل من الإفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التيسير.
3. إن الغلو في الدين لا يخلو من جور على حقوق أخرى، يجب أن تؤدى أو تراعى، وما أصدق ما قاله أحد الحكماء: ما رأيت إسرافاً إلا وبجانبه حق مضاع.
كيفية الحد من ظاهرة التعصب الديني
(1) التعصّب ليس شيئاً وراثياً، لكنه يُكتسب، ويُتعلم من البيئة المحيطة، وهذا يعني أن الإنسان كما يتعلم التعصّب، يمكنه أن يتعلم التساهل والتسامح. وقد دلت الكثير من البحوث والدراسات على أن الشعوب والجماعات تتغير اتجاهاتها عبر الأجيال، كما تتغير أنماط التفكير لديها، فالإنسان كائن يتعلم باستمرار، لكن الخلاص من العيوب لا يتم عن طريق المصادفة، وإنما عن طريق القصد والتخطيط والمجاهدة.
(2) للتخلص من أي ظاهرة نحتاج إلى تركيز الضوء عليها، بل نحتاج في الحقيقة إلى تشريحها. وظاهرة التعصّب من الظواهر الشديدة التعقيد؛ لأنها تقوم على عقائد وأفكار ومفاهيم راسخة ومترابطة، وذات مسحة منطقية أو نصف منطقية. ومن الواضح أن التعصّب يشكل نوعاً من حب ألذات، ويشتمل على درجة كبيرة من الأنانية والتمحور حول النفس، وذلك لأن المرء يحب الذين يشبهونه، وينفر من الذين يتبين له أنهم مغايرون له، وهذا ينم عن غفلة شديدة أو وعي زائف، أو نفس مريضة!
(3) انتهت نظريات التفوّق العرقي والتي سادت فترة طويلة من الزمان، وعادت الأمم المتحضرة إلى المعيار الإسلامي في التفاضل، وهو الاستقامة والنفع العام والتفوّق في الأداء، وصار من الواجب علينا نشر هذا المعنى على أوسع نطاق.
(4) كثيراً ما يقوم التعصّب على التعميم الخاطئ، فنحن حين نحكم على شعب بأنه أحمق أو كسول أو غدّار أو غبيّ.. نقوم بتعميم ملاحظة أو معلومة جزئية عن أفراد قليلين لنجعلها شاملة لأعداد كبيرة قد تبلغ مئات الملايين من البشر ، وهذا من مسؤوليات الأسر في البيوت، ومن مسؤوليات المدارس ووسائل الإعلام.
(5) يدفع التعصّب في اتجاه العداوة والعزلة، ولهذا فإن كثيراً من التعصّب سببه الجهل وضعف الاتصال، ومن هنا فإن علينا التفكير في الوسائل التي تساعد على الاتصال الفعال، والوسائل في الحقيقة كثيرة منها:
أ - الحوار وتبادل الأفكار، ومناقشة القضايا والمشكلات التي تثير التعصّب، وتلك القضايا كثيرة، فقد تكون المعتقدات والمفاهيم الخاطئة عن أولئك الذين يجري التعصّب ضدهم.
ب - للتعليم دور أساسي في التخفيف من مشاعر التعصّب عن طريق الاتصال الفعّال، وقد قامت بعض الدول التي تعاني من العنصرية بإتباع سياسات تعليمية بنّاءة في هذا المجال، وعلى سبيل المثال فقد كُلّف الطلاب بإجراء بحوث متنوعة على أن يقوم بعض الطلاب السود بكتابة جزء من البحث، ويقوم الطلاب البيض بإكماله أي لا يكتمل البحث إلاّ من خلال تبادل المعلومات والتحدث حول منهج البحث بين الطرفين.
ج - الاتصال الفعّال المؤثر، هو اتصال عفوي حر بعيد عن الرسميات، لكن لا بد مع هذا من شيء مهم جداً هو عدالة القوانين؛ إذ إنّ كثيراً من الفوقية والنرجسيّة والتميّز الأجوف يأتي من وراء القوانين الظالمة التي تمنح فئة أو فئات من الشعب امتيازات لا تستحقها، وقد ثبت أن للقوانين قدرة فائقة على توليد الثقافة التي تمنحها الشرعية، وتضفي عليها المنطقية والانسجام. العدل يدفع في اتجاه الإخاء، والظلم يدفع في اتجاه التعصّب والتنابذ والعدوان. هذه حقيقة راسخة، يجب أخذها بعين الاعتبار.
(6) تسليط وعي الناس على التناقضات الأخلاقية التي سبّبها لهم التعصّب؛ إذ إن كثيراً من الذين يتعصّبون ضد غيرهم يؤمنون بالعدل والمساواة وكرامة الإنسان، وهم من وجه آخر، يحبون من غيرهم أن يعاملهم على أنهم بشر أسوياء محترمون، لكنهم لا يفعلون ذلك مع الآخرين. إن توعية الناس بهذه المعاني على نحو مستمر، قد تساعد فعلاً في تخفيف غلو التعصّب.
(7) نشر الروح الإيجابية والتفكير الإيجابي مهم أيضاً على هذا الصعيد.
التسامح الديني ودور الإسلام في الحد من التعصب الديني
( الإسلام دين التسامح والسلام) حيث قال رسول الله(ص) في التسامح " بعثت بالحنفية السمحة" . وللتسامح قيمة كبرى في الإسلام فهو نابع من السماحة بكل ما تعنيه من حرية و من مساواة في غير تفوق جنسي أو تمييز عنصري ، بحيث حثنا ديننا الحنيف على الاعتقاد بجميع الدينات حيث قال الله تعالى في سورة البقرة "..آمن الرسول بما انزل إليه من ربه و المومنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله".و التسامح ليس هو التنازل أو التساهل أو الحياد اتجاه الغير، بل هو الاعتراف بالآخر إنه الاحترام المتبادل و الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص، و بالحريات الأساسية للآخرين وإنه وحده الكفيل بتحقيق العيش المشترك بين شعوب يطبعها التنوع و الاختلاف، بحيث قال (ص): "الدين هو المعاملة" .و روي عن عبادة بن الصامت انه قال: " يا نبي الله أي العمل أفضل، قال: " الايمان بالله و التصديق به و الجهاد في سبيله" قال أريد أهون من دلك يا رسول الله قال: " السماحة و الصبر".
أنواع التسامح
التسامح الديني : وهو التعايش بين الأديان، بمعنى حرية ممارسة الشعائر الدينية والتخلي عن التعصب الديني والميز العنصري.
التسامح الفكري : آداب الحوار والتخاطب وعدم التعصب للأفكار الشخصية والحق في الإبداع والاجتهاد.
أسس التسامح في الإسلام
1-لقد رسَّخ الإسلام تحت عنوان التسامح أشياءَ كثيرة، فلقد رسَّخ في قلوب المسلمين أنَّ الديانات السماوية تستقي من مَعينٍ واحد، من أجل التسامح، فقال القرآن الكريم : ( شرع لكم منَ الدِّين ما وصَّى به نوحا ًوالذي أوحينا إليك وما وصَّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أنْ أقيموا الدِّين ولا تتفرقوا فيه ) .
2- رسَّخ الإسلام من أجل التسامح في قلوب المسلمين أنَّ الأنبياء إخوة، لا تفاضلَ بينهم مِنْ حيث الرسالة، ومن حيث الإيمان بهم، فقال القرآن الكريم : ( قولوا آمنَّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحَق ويعقوب والأسباط وما أوتيَ موسى وعيسى وما أوتيَ النبيون مِنْ قبلهم لا نفرِّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ) . لا نفرِّق بين أحدٍ منهم، لا نفرِّق على الإطلاق، فالكلُّ في نظرنا أنبياء، ونحن له مسلمون.
3- لقد رسَّخ الإسلام تحت قنطرة التسامح أنْ لا إكراه في الدين، فالعقيدة ينبغي أنْ يستقبلها القلب والعقل بشكلٍ واضح، وبشكل جليٍّ :
( لا إكراه في الدِّين قد تبيَّنَ الرُّشد منَ الغَيِّ فمَنْ يكفر بالطاغوت ويؤمنْ بالله فقد استمسكَ بالعروة الوثقى لا انفصام لها ) .
4- لقد رسَّخ الإسلام من أجل التسامح أنَّ أمكنة العبادات على اختلافها محترمةٌ في نظر المسلمين، فها هو القرآن يقول: ( ولولا دفعُ الله الناسَ بعضهم ببعض لهدِّمتْ صوامعُ وبِـيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يذكَر فيها اسـم الله كثيرا ) .
5-لقد رسَّخ الإسلام من أجل التسامح أنَّ هؤلاء المسلمين ينبغي أنْ ينظروا إلى غيرهم على أنَّهم بشر، يجادلونهم بالتي هي أحسن، فقال القرآن الكريم: ( ولا تجادلوا أهلَ الكتاب إلا بالتي هي أحسن)
6- لقد رسَّخ الإسلام في قلوب المسلمين من أجل التسامح البِر بأهل الكتاب، وحُسْنَ الضيافة لهم، فها هو القرآن يقول للمسلمين: ( وطعام الذين أوتوا الكتابَ حلٌّ لكم ، وطعامكم حلٌّ لهم.) .
7-لقد رسَّخ الإسلام في قلوب المسلمين أنْ لا عداوة بين المسلمين وبين غيرهم، لمجرَّد كونِهم غير مسلمين، وتركَ الأمر ليوم القيامة، اللهمَّ إلا إذا اعتدى هؤلاء على المسلمين، إلا إذا وقف هؤلاء في طريق دعوة المسلمين حجرَ عثرة، عند ذلك قال القرآن الكريم : ( وقالت اليهود ليست النَّصارى على شيءٍ، وقالت النَّصارى ليست اليهود على شيءٍ، وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثلَ قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) .و لقد رسَّخ الإسلام في قلوب المسلمين كلَّ هذه الأسس ليحدِّد التسامح المطلوب مِنْ إنسانٍ يعيش على وجه هذه البسيطة، وليمارس هذا التسامح ممارسةً رائعة، تنبثق من إنسانٍ بعث ليؤكِّد للناس إنسانيته الرائعة .
التسامح والحوار
ان التسامح والحوار والتواصل بنية نفسية واجتماعية وسياسية وثقافية انسانية منطلقها الفرد وهدفها مصلحة المجموعة المحلية او الانسانية عامة والقدرة على اقامة الحوار وبناء علاقة تتواصل مع الاخر موهبة فردية وقيمة انسانية . واذا كانت حاجة الفرد ضرورة لاستخدام قدراته على الحوار والتواصل والتسامح مع الاخر سواء كان فردا داخل عائلته أو مواطنا يشاركه الفضاء الجغرافى والثقافى والسياسى والاقتصادى أو كان انسان يشاركه الانتماء الى نفس الكينونة فان حاجة المجتمعات والدول والثقافات لاقامة حوار مع غيرها أكثر الحاحا. لان انعكاسات انغلاق الفرد وتصلبه مهما اتسعت لايمكن ان تمس من هم حارج محيطه الضيق اما انعكاسات انغلاق المجتمعات والثقافات وتصلب العقليات فتنتشر بسرعة ويتسع تأثيرها الى حد اندلاع الحروب والصدمات والنزعات القبلية والعرفية والدولية.
وان الحوار لايمكن ان يكتب له النجاح الا اذا ساد التسامح بين المتحاورين ان المجتمع الذى لاتقوم ثقافته على التسامح مع المخالفين لايمكن ان يفلح لايعنى التسامح انتهازية تعايشية, اعطيك فرصة حتى تثوب وتتحول الى مذهبى وتنصهر فى حكمى أو نظامى. هذه المناورة مستبعدة كليا من المفهوم المعاصر للتسامح الذى يعنى تقبل الاخرين كما هم عليه.
لايوجد عوائق فى ثقافتنا العربية والاسلامية تؤول دون التفاعل بروح التسامح بمفهومه الحديث الذى أولا وأخيرا الاعتراف بالاخر والتعايش معه على اساس بأن للناس حقوق انسانية متساوية حيث هم بشر ليس الا. وهذا يعنى ان العلاقة الانسانية بين افراد البشر هى علاقة موجودات حرة يتنازل كل منها عن قدر من حريته فى سبيل قيام مجتمع يحقق الخير للجميع وهذا يعنى بعبارة أخرى أن هذا المجتمع المنشود لن يتحقق على النحو الصحيح الا اذا ساد التسامح وزوال الظلم بين افراده بمعنى ان يحب كل فرد فيه للاخرين مايحب لنفسه.
مما لاشك فيه ان مبدأ التسامح عظيم , لاننا كلنا اهل خطء والحقيقة التى نراها ونعيشها عندما يرى المخالف ان خصمه يراه شريرا او رجعيا وخائنا وظلاميا فانه تلقائيا يستبد برائيه ويستبدل ريشة قلمه بسيف يشهره على خصمه. وعندما يرى كلمات التسامح والصفح والمحبة من خصمه عندها يحس بعظمة التسامح والاحسان والصفح تتملكه هذا هو لسان كل انسان. الجميع يخطىء والجميع يتجاوز والذى يبقى فى النهاية بكل تاكيد هو التفاهم و التسامح .
والحقيقة التى لاجدال فيها أن التسامح متى ماكان أقوالا لاتدعمها السلوكيات, ومواعظ وكلمات وخطب ومؤتمراث لاتبرهن عليها الافعال, كان التسامح ضربا من ضروب الخيال انه من السهل ياسادتى أن ننمق الكلمات والعبارات ونرصف بها شوارع الاوراق لكنها فى النهاية تبقى حبيسة الاطار ومسجونة الالفاظ ان الواقع الحقيقى لكلمة التسامح هو. الثمرة السلوكية العملية فى الحياة نعم من ثمارهم تعرفها, هل تجنى من الشوك عنبا او تينا.ماأسهل التبشير باسم التسامح والعدل, لكن الثمار الشوكية سرعان ماتبدد حلم التسامح والعدل.
فلنبدأ بانفسنا ونفتح باب التسامح والحوار مع محيطنا القريب عبر الحوار المباشر والمفتوح ولنشغل مواهبنا وقدراتنا على الحوار والتسامح لنفتح ابواب التواصل مع الاخر البعيد من خلال كل الوسائل المتاحة لنا ونتحاور معا لايجاد قواسم مشتركة ولنتبادل الافكار والاراء والمفاهيم. والحاجة اليوم ملحة الى تبنى مواقف تتطابق مع المشاعر الانسانية واشاعة ثقافة التسامح بين الليبيين وتفعيل دور الحوار والتسامح يشكل مطلبا وحاجة وطنية ينبغى التمسك بها كعامل مساند لعملية الاصلاح واذكر فى هدا المقام بما يحضرنى من شروط التسامح:
- يجب ان يعلو الحوار فوق كل تعصبات أو اية افكار مسبقة على الاخر
- الاستعداد لممارسة التسامح مع الاخر وقبول الاراء المضادة بشرط التجنب الصارم لان يتدهور ذلك التسامح الى علاقات مهينة بين متسامح يعتقد انه الاعلى والافضل وأخر تفرض عليه المكانة الادنى ويشار اليه باصابع الاتهام والريبة.
- يجب ان تكون العدالة وموازينها الصارمة هى الحكم الذى يتحكم اليه النقاش وفى الوصول الى نتائج يقبلها الجميع.
فقط عندما تتوفر تلك الشروط يمكن ان يكون التسامح والحوار مثمرا ومستمرا وان يبتعد عن ان يصبح عبارة عن علاقات عامة ومصالح شخصية ضيقة.
وان التسامح نفسه والحوار يدعونا الى مراجعة قيمنا ومفاهيمنا ايظا للتاكد من صحتها وشرعيتها .فربما نكتشف خلال المراجعة ثمة انساق فكرية وعقيدية لاتتمتع باسس عقلية او شرعية وانما هى خليط من تراكمات ثقافية وموروثات تاريخية واجتهادات شخصية ومفاهيم فكرية ومصالح استبدادية تبلورت وتحولت بمرور الايام والسنين وبفعل الواقع والظرورف التى اصتحبتها والتعهد والحماية المستمرة لها الى مفاهيم عقيدية ومعرفية تمارس سلطتها على العقل وتتحكم بسلوك الفرد والمجتمع.
اذن المراجعة فرصة جديدة لتفحص مفاهيمنا ومحاولة جادة للوقوف على نقاط الضعف واكتشاف مراكز القوة والصعف وبالتالى سندرك اننا امام مفاهيم تحتاج الى تصحيح وليس غريبا فى روح اصول ديننا وعقيدتنا مبادىء التصحيح والمراجعة وانما اقصتها القر اءات الاحادية والفهم المتحيز فان منهج التستر والمداراة والخوف والمواجهة من خلف الستار حلول ترقيعية لاتنتهى الى نتيجة جدرية , وستعود الامور الى حالتها الطبيعية او تتخد اشكالا جديدة بنفس القيم والمفاهيم . وبهذا الشكل ستستمر الاخفاقات الواحدة تلو الاخرى . لذا علينا اعتماد خطاب ثقافى وفكرى علنى يتناول جوهر الاشكاليات ويتبنى نسقا جديدا من المفاهيم (كالتسامح والاعتراف بالاخر ) كى يتمكن المجتمع من تجاوز محنته.